يا ليت كلنا بونو

هذا التمني قد يبدو غريبا مني، ولكنها صورة من الحقيقة غائبة سأحاول توضيحها في هذه الكلمات..

بونو غني عن التعريف في ميادين كرة القدم العالمية، وخاصة في هذه الفترة، فترة كأس العالم..هو الحارس الفذ السريع الحاضر المحاول المجاهد الذي لا يدع كرة تلج، ولا هدفا يسجل، ولا رجلا تتقدم، ولا ركلة تتهدف..

لا نقول بأنه نظيف الشباك 100% ولكنه يحاول ويجتهد ويعمل بكل أسباب الحراسة، مع براعة وإبداع..

السؤال المطروح هنا؟

لما قلتُ: هو الحارس!! لم نتساءل : حارس ماذا؟ فالحراس كثر، ومجالات الحراسة كثيرة، فلماذا لم أحدد مجال حراسته؟

الجواب:

الألف واللام هنا للعهد الذهني، فهو معروف وحراسته معروفة ومجال حراسته معروف..فهو حارس مرمى المنتخب الوطني في كرة القدم..

هذه معلومة صارت بديهية عند الصغير والكبير والشاب والشابة والهكل والعجوز والشيخ والهرم، اسال من شئت من هو بونو ستجاب: هو الحارس أو (الكول) دون إتمام أو تتمة للإضافات المُعرِّفة الأخرى..

ومن جهة أخرى نستشف من الجواب (هو الحارس) بتعريف جزئي الجملة نستشف الحرصية المفيدة للإتقان والإحسان والإجادة، فهو الحارس ولا حارس إلا هو، ولا يمكن أن يقوم بالحراسة إلا هو، ولا تقام الحراسة بإتقان إلا من طرفه..

وهنا يسرح خيالنا قليلا ونتساءل بكل عفوية:
هل هناك مواضع حراسة أخرى غير حراسة كرة القدم؟
هل هناك مرميات -جمع مرمى- غير مرمى كرة القدم؟
هل هناك بونوون – جمع بونو – آخرون غير بونو كرة القدم؟
إذا كان هناك مواضع حراسة أخرى؟ فكيف ننتج بونو لكل موضع منها؟

الجواب عن هذه التساؤلات العفوية!!

لا شك بأن هناك مواضع حراسة أخرى غير حراسة كرة القدم، بل هي أهم منها بكثير، وتتجاوزها بمفاوز في الأهمية، وبمراحل في الخطورة، وكلها تحتاج إلى حضور وتركيز واهتمام وتفان في حراستها، وتحتاج إلى اتقان تلك الحراسة، وبيان ثغراتها، وإحكام السيطرة على تلك الثغرات، مع مواكبة واستمرار ذلك الحضور، فالدين له مواضع حراسة، والوطن له مواضع حراسة، والأخلاق لها مواضع حراسة، والاقتصاد له مواضع حراسة، والأمن له مواضع حراسة، والإعلام له مواضع حراسة، والمجتمع له مواضع حراسة، فلكل مواضع حراسة خاصة به..

فشغور حراسة الدين تؤدي إلى تسجيل أهداف الاختلال والضلال والإلحاد وانتكاس الفطرة وضياع الهوية، وعدم الادراك والاستفادة من كثير من مصالح الدنيا والآخرة، وعدم الإدراك والاجتناب لكثير من مفاسد الدنيا والآخرة..

وشغور حراسة الوطن يؤدي إلى الاحتلال والانتهاك والاستنزاف والاستخراب، وضعف الانتماء والتخلف والخيانة والفساد..

وشغور حراسة الأخلاق يؤدي إلى الانحطاط، وتأليه المصلحة، واستئساد النفس، وتغول الجشع والانتهاز والابتزاز، والاحتكام إلى القوة والعنف، فشو الكذب والمكر والخداع، وهتك ستر الحياء…

وشغور حراسة الاقتصاد، يؤدي إلى الطبقية، وتزايد نسب الفقر الحاجة، وفقدان الكرامة والتجبر، والضعف والتبعية والإمعية، وضياع المال العام، وفشو الريع…

وشغور حراسة الأمن، يؤدي إلى الخوف والتخويف والإرهاب الحقيقي – إرهاب السطو والقتل والهتك – وارتفاع نسب الجريمة، والاستضعاف والاستخفاف…

وشغور حراسة الإعلام، يؤدي إلى انعدام المصداقية، ودمور الكلمة الطيبة، والمعلومة النافعة، وفشو السفاهة والتفاهة، وتشويه المفاهيم والتصورات، واستمراء الفاحشة والمنكر، ومحدودية وانحسار وحصار تأثير مصالح ومنافع كل المجالات الأخرى…

هذا نزر قليل من مجالات تلك الحراسات، فهناك حراسة الأسرة، وحراسة التعليم، وحراسة الصحة، وحراسة السياسة…هذه حراسات عامة، وهناك حراسة خاصة كحراسة النفس، وحراسة الزوجية، وحراسة الأمومة، وحراسة الأبوة، وحراسة الجوار..

فكل مسؤولية خاصة أو عامة، لها حراسة، وتحتاج إلى حراسة؟

فيا ترى إذا قارنا بين هذه الحراسات وحراسة كرة القدم، فأين تقع حراسة كرة القدم منها؟

بدون منازع، لا تساوي حراسة كرة القدم أمام تلكم الحراسات شيئا، وهذا ليس تقليل من شأن حراسة كرة القدم، ولا من عمل حراس كرة القدم، وإنما هذا موضعها، ومكانها الطبيعي، الذي لا ينبغي إهماله، ولا ينبغي الغلو فيه..

فأين نحن من تلكم الحراسات..
هل نعرفها اصلا؟
هل ندرك أهميتها؟
هل ندرك خطورة شغورها؟
هل نعد لها من يحرسها؟

أسئلة تحتاج إلى إجابات صريحة وواضحة..

وجود الحراسة تقتضي أمرين اثنين:
وهما:

وجود مرمى لكل حراسة، فالدين له مرماه، والوطن له مرماه، والأخلاق لها مرماها، والاقتصاد له مرماه، والإعلام له مرماه، والأمن له مرماه، والتعليم له مرماه، والصحة لها مرماها، والأسرة لها مرماها..فكل مجال مرماه..

هذا المرمى له خصائصه، وله أهله المختصون بحراسته، فلا يمكن أن يقوم حارس الأمن بحراسة مرمى الدين، كما لا يمكن لحارس، الصحة ان يحرس مرمى الإعلام، فكل مرمى له علمه وتخصصه وأهله، وكلما خلطنا بين تلك المرميات أو ألغينا بعضها، أو أهملنا بعضها، أو لم نوازن بينها حسب الأهمية، فإن أهداف ذلك المرمى المهمل، أو المنسي أو الملغي ستمر وتسجل مشكلة خطورة وتهديدا بالغين، ولا ولن يصدها إلا الاهتمام بها وبأهل ذلك المرمى..

الأمر الثاني من مقتضيات الحراسة هو الهدف!!
لكل مرمى أهدافها التي تسجل عليها، ولكل حراسة أهدافها التي تصدها، فهدف كرة القدم، ليس هو هدف كرة المضرب، ولا هدف كرة السلة، فكذلك الأمر في الحراسات المهمة السيادية الثابتة، كل حراسة ومرمى أهدافها الخاصة بها، في شكلها، وقوانينها، وطريقة تسجيلها، وأهميتها، وخطة تسجيلها، فالهدف المسجل في مرمى الدين، غير الهدف المسجل في مرمى الإعلام، وغير الهدف المسجل في مرمى الاقتصاد، وهكذا…

فلكل حراسته، ولكل مرماه، ولكل أهدافه المسجلة عليه، فلابد من فقه وفهم هذه التمييز، وإعداد العدة له..

هنا نأتي إلى السؤال الموالي، وهو :

هل هناك “بونوون” آخرون غير بونو كرة القدم؟

الجواب: نعم وألف نعم، هناك “بونوون” كثيرون في كل تلكم المجالات، أكفاء حاضرون مجاهدون مركزون متفانون، يعملون بكل إخلاص، وبكل تفان، وبكل اجتهاد وإبداع، وفي كثير من الأحيان بإمكانات محدودة، يعملون بكل وفاء لدينهم ووطنهم ومجالهم، يصدون الأهداف تلو الأهداف، تراهم يصدون الهدف في الميمنة، وينتقلون مباشرة إلى صد هدف الميسرة، دون كلل ولا ملل، ولا انتظار مقابل، هم على هذا سنوات وسنوات، يحضرون إلى الحراسة في الوقت المطلوب دون تأخر، إذا طلبتهم وجدتهم، هم للأهداف بالمرصاد، في كل وقت وحين، صدقوا ما عاهدوا الله عليه..

هؤلاء كثيرون وموجودون، في كل تلكم المجالات والحراسات، إلا أنهم مغمورون، مبعدون مهملون لا كاميرا لتصور، ولا محفز ليحفز، ولا أحد يهتم ويشجع ويثمن، هؤلاء هم من يجب ان تسلط عليهم الأضواء، ويستحقون المكافأة والإهداء، هم من يستحق أن تصرف عليهم تلكم المليارات، في الإمداد والإعداد حسب الأهمية والعدة والأعداد..

هؤلاء “البنوون” صابرون مصابرون محتسبون ومرابطون، ولا يظهرون إلا عند الأزمات، وهم في العادة مغيبون، وما كورونا علينا ببعيد، حيث ظهر اولئك “البونوون” والحراس في مجال الصحة والدعوة والأمن والإعلام، وأظهرت لنا كورونا جحافل ومنتخبات وطنية وحراس مرمى أشاوس، لا أقول الحراس الحقيقيين، فكل ميدان له حراسه و”بونوه” ولكن نبهتنا إلى أولئكم الحراس الذين هم على مرماياتهم منذ زمان وهو يصدون ويحرسون الأهداف المسددة تلو الأهداف، ولكن في جو من الإبعاد والتهميش والغمر، فجاءت كورونا لتنبه المسؤوليين لإعادة ترتيب الأولويات والإهتمامات، والتنبيه إلى هؤلاء “البونوين” ولكن مع الأسف ونحن نحسن الظن، سرعان ما تعود حليمة إلى عادتها القديمة، وتقول: فلا مرمى إلا مرمى كرة القدم، ولا هدف إلا هدف الرجل او الرأس، ولا حارس إلا حارس مرمى كرة القدم، ولا بونو إلا بونو كرة القدم، وبالأحرى تقول: أولى الأولويات في حراسة المرمى، هو حراسة مرمى كرة القدم، إليه ينبغي ان توجه الأنظار، وعليه ينبغي ان تسلط الأضواء، وبه تعطى شهادة الوطنية، وعليه ينبغي ان تغدق المليارات…

هنا نعود إلى التمنى الذي عنونت به المقال ” ليت كلنا بونو ”
لا أقولها ليكون الكل حارس مرمى كرة القدم، كما قد يفهم، فهذا مستحيل وبعيد..!!

ولكن بونو ما اكتسب هذه الأهمية إلا بثلاثة أمور:
حسن الإعداد
حسن الاكتساب
حسن الاهتمام

فالأول يظهر في ما أولت له كرة القدم من حسن إعداد وتكوين من خلال برامج وأكادميات، وخطط وبنية تحتية وغير ذلك حتى تسنى لنا أن نخرج بونو كرة القدم..

فكل “البونوين” في جميع تلكم المجالات المرميات السالفة الذكر والتي لها الأولوية، يرجون ويتمنون جزء مما منح بونو كرة القدم من حسن الإعداد وحرية الإبداع..

والثاني يظهر من الحارس نفسه، الذي اجتهد وثابر وواصل الليل بالنهار والتدريب بعد التدريب، والتكوين بعد التكوين ليصل إلى ذلك المستوى المحترف والمتقدم، وهذا ما ينبغي أن يقوم به كل حارس أو مشروع حارس..فمن جد وجد ومن زرع حصد..

والثالث يظهر في تلكم الاضواء الموجهة لبونو كرة القدم، وتلك الترسانة الإعلامية والتدريبية والترفيهية التي قدمت وجهزت ويسرت لبونو كرة القدم، ذلك التلميع الإعلامي الفريد الذي سلط على بونو كرة القدم، وقبل ذلك وبعده، ذلك الاهتمام والإغداق المادي والمعنوي وترسيخ معاني الوطنية في تلك الحراسة..

هذا ما جعل الشباب يقولون ويرددون: يا ليت #كلنا_بونو
هذا ما جعل كل بونو في تلكم الحراسات يتمنى أو يعطاه ما أعطي بونو كرة القدم من الإهتمام والإكرام..

إذن لابد من توزيع تلك الاساسات الثلاثة – حسن الإعداد، حسن الاكتساب، حسن الاهتمام – على كل حراسات المرمى في كل مجال حسب أهمية ذلك المجال، لنوسع دائرة البونو في كل تلكم المجالات، وليظهر البونوون في كل تلك المجالات، لتقتدي بهم الأجيال الصاعدة، فيكون لنا في كل ميدان ومجال “بونو”

سفيان أبوزيد

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".