كلمات ولكمات

روى الشيخان من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر: فليقلْ خيرًا أو ليصمت”! كان عليه الصلاة والسلام يعرفُ أنَّ الكلمة يمكن أن تكون لكمةً موجعة، ولأنه بُعث رحمةً لم يُرد أن يجلد بعضُنا بعضًا بسياط الكلام! وكان يعرفُ أن النّاس يحتاجون كلمةً حانيةً تربتُ على قلوبهم، فقال: “الكلمة الطيبة صدقة”!
أما بعد:
– الكلمة الأولى:
يقولُ البخاريُّ: حضرتُ يومًا مجلس إسحاق بن راهوية، فقال: “من ينشط منكم لجمع الصحيح”؟ فوقعت مقولته في قلبي، فعزمتُ، وشمرتُ، وجمعتُ الصحيح!
كلمة واحدة قالها ابن راهوية، وقعتْ في قلب البخاريّ، فألّف أصح كتاب بعد القرآن! قد يكون لك رؤية ولكن ليس لديك الإمكانات، فدلّ الناس على الطريق، الدالُّ على الخير كفاعله، والنبيلُ يفرح إذا وصل الآخرون كأنه هو الذي وصل!
كلمة قالها لي أبي غيرت حياتي! كنتُ صغيرًا أقرأ القرآن على يديه، فقرأتُ مرةً بسرعة، فقال لي: يا بُنيّ، اقرأْ القرآن كأنه أُنزل عليك!
– الكلمة الثانية:
يقول الشافعيُّ: كنتُ أول أمري مهتمًا بالشعر، فتمثلتُ بيتًا من الشعر عند كاتب مصعب الزبيري، فأخذ بيدي وقال: أوتيتَ حظًا من الشعر يا شافعي، فأين أنت من الفقه؟ فوقع ذلك في قلبي!

كلمة واحدة أخذت الشافعيّ من طريق الشعر وألقته في طريق الفقه، فصار من كبار علماء المسلمين، وليس في قول الشعر حُرمة، فالشعر كلام، والأصل في الكلام الإباحة، والشعر كالنثر حرمته وحله في مضمونه، ولكن لدينا آلاف الشعراء، وليس لدينا إلا شافعي واحد! كلمة واحدة لم تُغير واقع رجل فقط، وإنما غيرت واقع أمة كاملة!

– الكلمة الثالثة:
يقول الإمام الذهبيُّ: طلب مني البرزاليَّ أن أخط له شيئًا، فلما عرضته عليه، قال لي: يا شمس الدين إن خطّك يشبه خطّ المُحدّثين! فحببَ اللهُ إليّ الحديث!

كلمة واحدة، إشادة حانية رقيقة، جعلت من الذهبيّ إمام السُّنة في الجرح والتعديل، فكتب لنا سير أعلام النبلاء، وميزان الاعتدال في نقد الرجال، والمعين في طبقات المحدثين، وديوان الضعفاء والمتروكين! وقد هذبه الحديث وجعله متواضعًا، ولما ترجم للنبلاء وأشاد فيهم في السير، ترجم لنفسه فقال: الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز، يُثني عليه الناس خيرًا وربه أعلم به!

لِمَ لمْ تنجبوا بعد، انظروا إلى فلان وفلانة، تزوجا قبلكما وأنجبا! وكأن الذي أنجب قد أنجب بقوته وشطارته، وفهلوته.
– الكلمة الرابعة:
يقول محمد إقبال: كلمة قالها لي أبي غيرت حياتي! كنتُ صغيرًا أقرأ القرآن على يديه، فقرأتُ مرةً بسرعة، فقال لي: يا بُنيّ، اقرأْ القرآن كأنه أُنزل عليك!

كلمة واحدة نقلت الصبيّ من القراءة إلى التمعن، فترك لنا عشرين كتابًا في الاقتصاد والسياسة والتربية والفلسفة والفكر، انطلق فيها جميعًا من خلفية إسلامية متينة رغم أنه كان يعيش في بلاد يعبد فيها الناس البقر!

أما الآن: فمع اللكمات!
– اللكمة الأولى: “كيف تصبرُ وكيف تصبرين”؟!
تكون المرأة في بيت زوجها، صابرة متكيفة، تعيشُ في ستر رغم قلة ذات اليد، إلى أن تأتي إحداهن فتقول: كيف تصبرين على هذا؟ انظري إلى فلانة كيف تشتري لكل مناسبة ثوبًا، انظري إلى فلانة كيف تسافر في كل عطلة، فتفتح لها بابًا للشيطان كان مغلقًا! يكون الرجل في عمله صابرًا راضيًا قانعًا براتبه، إلى أن يأتي إليه من يقول: يا أخي كيف تصبر، اُنظرْ للناس من حولك، ربُّ العمل يسرقك!

ما لكم وللناس، تخربون بيوتهم بألسنتكم، أَبدَلَ أن نشد من أزر الصابرة، ونأخذ بيد القانع، نفتح لهم باب السخط على قدر الله وعباد الله!

– اللكمة الثانية: “لِمَ لمْ تنجبوا بعد، انظروا إلى فلان وفلانة، تزوجا قبلكما وأنجبا”!
وكأن الذي أنجب قد أنجب بقوته وشطارته، وفهلوته، والذي لم ينجب إنما بسبب كسله وتوانيه! من قال أنهما لا يتشوقان لولد، وأنهما لا يحترقان كلما رأيا طفلًا هرع إلى أبويه! لماذا نجرح الناس بكلام تافه لا يزيد إلا أوجاعهم، بدل أن نصبرهم، ونخبرهم أن الأولاد رزق من عند الله، وأن الله يعطي لحكمة ويمنع لحكمة، وأنه كريم سبحانه، ولا شك أنه سيرزقهما بالأولاد مستقبلًا.

إن لم تكونوا قادرين أن تكونوا محترمين ومحترمات، فدعوا الناس وشؤونهم، وأمسكوا عليكم ألسنتكم، فإن بعض الكلمات لكمات!
– اللكمة الثالثة: “أنتِ سمينة جدًا، قللي من أكلك”
باللهِ عليكم! أهذه كلمة أم سوط، نصيحة أم طلقة بندقية، وكأن المخلوقة سعيدة بهذا، وكأنها لا تتمنى أن تنحف، وكأنها لا تحاول كل يوم، ثم كأنها تأكل من بيتك وبيت أبيك، أيضًا من قال أن السبب الوحيد للسمنة هو الطعام الزائد، الناس تختلف أجسادهم، بعض الناس يأكل خمس وجبات وهو نحيف كالعود، وبعضهم لو شمّ رائحة الطعام لزاد وزنه! ثم إن هناك شيء اسمه الهرمونات يا عباد الله، وقد تكون السمنة لخللٍ فيها، أي أنها مرض وليست اختياراً!

– اللكمة الرابعة: “لماذا تسكت”؟
الشباب، ذكورًا وإناثًا، يصغون في مراهقتهم لأصدقائهم كثيرًا، ترى الشاب يطيع أباه، فلا يطيل السهر، يرضى بالمصروف الذي يأخذه، فيأتي صديقه: أما زلت صغيرًا حتى تعود باكرًا، أيكفيك هذا المصروف، يا أخي كيف تسكت؟ كن رجلًا!

حسناً، أطعْ صاحبك البطل، واضرب أباك، وكن بطلًا مثله، اصرخ في وجه أمك، اصنع لنفسك كيانًا! والأمر مثله مع البنت، لماذا تتدخل أمك في ثيابك، أين تعيشين، انظري للبنات في الجامعة! تحرري، اخرجي من السجن الذي أنتِ فيه!

أهؤلاء صحبة أم أعداء، بشر أم شياطين، إن لم تكونوا قادرين أن تكونوا محترمين ومحترمات، فدعوا الناس وشؤونهم، وأمسكوا عليكم ألسنتكم، فإن بعض الكلمات لكمات!

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".