يدَّعون له الولد…

سفيان أبوزيد

لماذا كان ادعاء الولد لله أعظم أذى له وفرية عليه؟
هل الله يتأذى؟
لماذا لم يقل ما أحد أحلم وقال: أصبر؟
لماذا ذكر المعافاة والرزق حصرا في مقابل ادعاء الولد؟

أول العقائد والمنطلقات والثوابت التي قررها القرآن وبينتها السنة النبوية فيما يتعلق بالله عزوجل وهي الكمال المطلق في الصفات والتصرفات، في الربوبية والألوهية، وفي شأنه كله سبحانه وتعالى، وأهم ما طلب من الإنسان هو التعرف على خالقه، حتى يفهم نفسه ومكانته والكون من حوله، ويحبه ويجله ويعظمه، ثم يتصرف في هذا الكون وفق حكمته وعلمه وإرشاده، حتى يكون صالحا مصلحا حكيما متوازنا سعيدا مطمئنا، محبا محبوبا، غير معتد ولا مؤذ ولا مستبد ولا ظالم ولا ناكر…

وحتى يتعرف المخلوق على خالقه ويتعرف الخالق إلى مخلوقه، لابد من لغة تواصل وتعريف وتفاهم وتفهيم وتحاور وبرهنة وتنزل وتمثيل… إلى غير ذلك من وسائل وأساليب التواصل والتعليم، اقتضى ذلك تشابها في الألفاظ والصفات والتعريفات والأمثلة، فيما يتعلق بالخالق والمخلوق، واقتضى ذلك تركيزا على ترسيخ الكمال فيما يتعلق بالخالق، وتأكيد عدم مشابهته للمخلوق، لأنه مجبول على اتباع الكامل واختيار الكامل والاستماع للكامل، ألا ترى أحدنا في اختياراته الدنيوية يرفض كل ذي عيب أو نقص أو ضعف من الأشياء، فكذلك الأمر هنا، فهي جبلة في الإنسان، وهي نابعة كذلك من عنفوانه وعزته التي اكتسبها من فطرته وخلقه.

فقال الله تعالى (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)

ومن مقتضيات ذلك الكمال التفرد والفردانية والاولية والآخرية، فهو الأحد الذي لم يلد ولم يولد، والاول والآخر والظاهر والباطن، فلا يمكن أن يكون ربا خالقا ويكون متناسلا ناسلا، فالذين ادعوا الولد لله عزوجل أرادوا تقديسا، إما للرب الوالد أو للمولود كما زعموا، سواء كان بشرا أو ملكا، وهذا تصور عن التقديس يهدم أصل الخالقية والكمال، ومن هذا الخلل تنتج اختلالات أخرى في تصورهم وتصرفهم وعبادتهم وعبوديتهم وفي كل شؤونهم…

ستقول لي: كيف كان هذا الخلل: أصل كل الاختلالات الأخرى؟

قلت: الولد تعبير عن النقص، من كل جانب، فهو نقص في الصفات الذاتية، ونقص في عدم القدرة على الاستمرار، ونقص في الأصل فلا والد إلا وكان ولدا، ونقص في القيومية، ونقص في الكمال فالولد زينة، ونقص في الحكمة، ونقص في الربوبية، وظلم واستبداد، لأنه سيطرح إشكالا!! بما أن الرب والد إذن فهو مولود، فما الذي منحه ميزة أن يكون ربا دون غيره من الوالدين والمولودين!!
فإذا كان الإنسان السوي لا يقبل استبدادا في الحكم أو الرأي في بعض شؤونه إلا أن يتنازل أو تنزع منه إنسانيته وفطرته، فكيف يقبل أن يتربب ويتأله لمن يلد ويولد!!!

فقطعا لكل هذه التناقضات والمفاسد والاحتمالات الفاسدة والمآلات المخيفة، جاء الحسم في هذه القضية، وانتهى الكلام فيها..(لم يلد ولم يولد) وأحيل القارئ الكريم إلى تأملي لهذه الآية من خلال سلسلة من تساؤلات القارئ المتدبر لسورة الإخلاص، وهذه بعض روابط ذلك:
https://www.facebook.com/abouzidsoufiane/videos/3106655989349975/

https://www.facebook.com/abouzidsoufiane/videos/3140959035919670/

لهذا كله كان أعظم خطيئة في حق الله عزوجل هي في ادعاء الولد له، لأن زاعميها أرادوا تقديسا، ولكنهم ضلوا وأخطأوا مسلك التقديس الوحيد والحقيقي والصحيح وهو (لم يلد ولم يولد) منه ينطلق التصور الصحيح عن الخالق والمخلوق والتصرف والكون…

ولهذا جاء التصوير الرهيب في خواتيم سورة مريم للاضطرابات والاختلالات التي يحدثها هذا الادعاء والزعم، وسيكون لنا تأملات لتلك الخواتيم في مقال خاص إن شاء الله تعالى ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، أن دعوا للرحمن ولدا، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا…)

ولهذا عبر هنا عن هذا الادعاء وهذه الخطيئة بالأذى، ليس لأن الله يؤذيه شيء لا حسيا ولا معنويا؟ ولكن ليصل إلينا مدى الفرية وقبح المقالة وبشاعة المنطق، وبعد الاعتقاد والتصور، وفساد المآل، خاصة إذا كان هذا الأذى غير مدرك أو مفهوم ويظن المؤذي بأنه يقدس أو يكرم من حيث التنقيص والتبخيس، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا..وخاصة إذا كان هذا الأذى موجها لمحبوب مقدس حكيم قد جبلت النفوس السوية على تعظيمه وتقديسه، فأذاه يكون أعظم الأذى، وما يؤذيه يكون أقبح المؤذيات..
لذلك جاء التعبير بالأذى..

والتعبير بالصبر للدلالة على الغضب الإلهي من هذه المقالة الشنيعة، وخطورة الأذى وكأن هذه الفرية لها أذى حسي، حتى يكف الناس عنها، ويمتنعوا عنها، وللدلالة على أن مفسدة هذه الفرية عامة خطيرة ذات تداعيات وخيمة، وفيها فساد على المخلوق، وأن مسلكها أصل من أصول الضلال والضرر والأذى.

وعبر هنا بالسماع ( سمعه ) للدلالة على أنه سبحانه مطلع على تلك المقالة سواء قيلت جهرا أو خفية، وبجميع اللغات والأساليب، ومجرد قولها يعتبر أذى فما بالك بتفعيلها العمل بها وتأصيلها وجعلها ثابتا او عقيدة أو منطلقا، هي وغيرها من الإذايات القولية والفعلية..

ولما كان هذا المسلك الذي قصد منه أناس تقديسا من حيث هو تنقيص وظلم واعتداء وخلل وفساد وضلال وكفر، جاء التأنيب والعتاب الذي يجعل المؤنَّب خجلا مستحيا مطأطئا رأسه متواريا من سوء مقالته ومنطقه وزعمه وادعاءه..
فالله عزوجل يعافيهم ويرزقهم، وهذان الفعلان ينطلقان من موقف واحد وهو السعي في الكمال والتكميل، فالمعافاة حماية من النقص والضعف، والرزق زيادة ونماء وقوة…وهذان الفعلان لا يمكن للانسان أن يستغني عنهما لا ضرورة ولا حاجة ولا تحسينا وكمالا، ومهما تطورت وسائله وحسن حاله، وها هي الكرورنا جاءت تذكرنا بهذا..

وهنا يأتي العتاب المخجل: كيف تتصعدون لله بالنقص ويتنزل إليكم بالكمال؟؟
تتصعدون إليه بنسبة الولد التي هي أصل كل أذى وضلال، ويتنزل إليكم بالمعافاة والرزق اللذين هما أصل كل كمال..
ألا تنتهون، ألا تخجلون، ألا تستحون!!!
فادعاء الولد لله عزوجل طعن في كماله وطعن في عدله وطعن في قيوميته وطعن في حكمته وطعن في ربوبيته وطعن في ألوهيته، وفساد لتصوركم ومنطقكم وتصرفاتكم واجتهاداتكم وعلاقتكم بأنفسكم، وفطركم وكونكم ومن حولكم..

فتصعَّدوا لله عزوجل بكل كمال وصلاح كما يتنزل لكم بكل كمال وصلاح..

سبحانك ربي ما أصبرك وأحلمك وأكرمك…
والله أعلم وأحلم وأكرم..

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.