وسار هميم الشوق منها تدارُكا

أحمد مولود اكاه

تهلّ أيام الحج فتشكل موسما يوجّه قلوب المسلمين ومشاعرهم تعلّقا بالبلد الأمين وحبّا دفينا له في الشغاف، فمن منهم لا تستهويه مشاهد الكعبة والبيت الحرام ومِنى على نحو ما أعرب عنه أحد شعراء شنقيط الأقدمين، عندما قال:

صَفا نفسي الصَّفا ومِنى مُناها

وبالجمرات قلبي ذو احتراق

استولت أمكنة الحجاز والجزيرة العربية على موقع خاص في الأفئدة، وشكلت مؤثرا وجدانيا جاذبا، وكلما عظم البعد واشتد نوى المحبين عن يثرب وأم القرى، كانت التسميات الجغرافية المعبرة عن الحجاز وما حوله ملاذا تسعد به النفوس وترقّ حنينا وهياما، وتسرح معه شادية بوْح البرعي:

يا راحلين إلى منى بقيادي

هيجتمُ يوم الرحيل فؤادي

وحرَمتمُ جفني المنام لبعدكم

يا ساكنين المنحنى والوادي

وتتضاعف المشاعر على وقع صدى التلبية القادم من مِهاد الألق، حيث جموع المكرَمين بهذه الحضرة وهذا النور الطافح الذي يجلّل أنحاءهم وهم يأتون تلبية للنداء المقدس، هنا فضاء البهاء وتاريخ النبيئين ومهبط الروح الأمين بالرسالة التي تشع بريقا هاديا للشعوب والقلوب وحاديا لخير سوانح النفحات.

وكلما عنَّ مشهد كانت لوعات المتلهّفين عميقة وهم يرْنون بنظرات الشوق، ويترجمون هذه الحالة مخلّدين أيام الحج وموسمه، ومستدعين تراثه عبر الزمان وإيحاءات مواضع مكة والحجون وخيف المحصب، والعقيق:

أتُذري عينه فَضَضَ الجُمان

غراما مِن تذكُّره المغاني

مغانٍ بالعقيق إلى المنقّى

إلى أحُد تذكّرها شجَاني

وتتوشّح الاستعمالات بهذه المواضع الأثيرة وتراثها الأدبي، فينشد أحد الأدباء الأعلام خلال موسم من مواسم الحج، وقد سلّمت له لوحة تقدم رسما لهذه المواضع البهية:

وقالوا تعَرَّفها المنازل من مِنى

وما كل من وافى مِنى أنا عارف

بل إن كل أيام السنة موسم احتفالي بهذه الأمكنة وميدان سَنِي بالتفاعل معها. ويذكر الشنقيطي صاحب أضواء البيان في رحلته للحج طرفا مما يصور البعد الخاص بالأثر القاموسي العام لجغرافيا الجزيرة العربية، بقوله ولما وصلنا (رابغ) صعدت (السيارة) جبلاً عُبّدت فيه الطريق للسيارات، فقال صاحب (السيارة): هذا الجبل اسمه (هرشى) قال: فتذكرتُ قول الشاعر وتمثلتُ به:

خُذا بطنَ هرْشى أو قفاها فإنه

كلا جانبيْ هرْشى لهنّ طريقُ

وأخبرتهم أنه يُروى عن بدوي من الأعراب أنه قرأ سورة “إذا زلزلت”: فمن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره * ومن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره، فقالوا له: قدمتَ الثانية وأخرتَ الأولى، فقال لهم:

خُذا بطنَ هرْشى أو قفاها فإنه.. كلا جانبيْ هرْشى لهنّ طريقُ

وإنما قال ذلك؛ لجهله وجفائه.

ولا يقف الأمر عند حد التعلق بالمكان، فلكل قادم منه أو ذي صلة به صورة ملهمة للوجدان ومحفزة للشوق، نلقى بعض تفاصيلها وظلال خلفيتها في مثل قول ولد عدّود رحمه الله:

ضيف كريم كنت تعرف قدره

في أرض مكة شاتيا أو صائفا

أنزله من شطِّ المحيط مصائفا

يُنسيه برد هوائهن الطائفا

وتغطّي هذه المواقع أبدا ما سواها، فرمزيتها سابقة على كل شيء، ومنشأ للرَّنَم بها في حبور:

فَسَلْ منبر الهادي وجَمعا ومَشعَرا

وسل أحُدا عنه وبدرا وسَلْ خُمّا

أولئك آيات النبوة ما انطفى

لها وهج في القلب يوما ولا غُمّا

وسارَ هميم الشوق منها تدارُكا

فما إن توانَى في المسير لدُن همّا

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.