نعم الله خفية الايام تجليها

بقلم الاستاذ محمد جابر

مجلة المشكاة الطيبة المثلث فلسطين 48

يستخدم البعض عبارة الغباء جندي من جنود الله، وأن الله إذا أراد بقوم خيرا يسّر لهم عدوا غبيا، وإني أرى في هذه المقولة شيئا من الصحة وإن كان ليس بالمنحى الذي يذهب إليه الكثير ممن يطلقون هذه العبارة، وإنما أرى أن الله بقدره يستفز أصحاب الهمم في الأمة كي يرفضوا الظلم والظالمين من خلال إشعارهم بأن بقاء الحال على الصورة الحالية إهانة لهم ولكرامتهم، وليس هنالك محفز أكثر من الشعور بالذل والمهانة والاستخفاف، ولا يكون ذلك إلا إذا أصبح الرويبضة يقود الناس ويملك مصائرهم ومقدراتهم .

إن رحمة الله واسعة، وهي أوسع من أن تدركها عقولنا القاصرة، وإحدى تجليات هذه الرحمة أن الاستبداد والظلم في غالبه لا يأتي لوحده وإنما يكون قرينا للفشل تقريبا في كل شيء، ولن تجد جبارا في الأرض أو ظالما أو مستبدا قاد أمته إلى التوفيق والسداد والخير… وإن حقق بعض النجاحات، حتى ولو كانت مبهرة في وقتها فإنه سيتبين أنها مرحلية وسرعان ما تتبدد وتنكشف عن واقع أليم وعواقب وخيمة تحتاج الأمم إلى فترة ليست بالقليلة كي تخرج منها.

ومن تجليات هذه الرحمة أن قلوب العباد مجبولة على حب الخير وحب من يحسن إليها وكره من يسيء اليها، والعدل هو اعظم صور الخير، والظلم من جهة أخرى أسوأ صوره، ولذلك غالباً ما يؤدي إلى اندفاع الناس وسعيهم الحثيث وتضحياتهم الكبيرة وتحملهم الأهوال والصعاب من أجل التخلص منه. هذا الرفض للظلم فطري فطر الله الناس عليه، وإذا رأيتهم يبادرون ويندفعون لمواجهته رغم الدبابات والجيوش الجرارة التي تعترضهم… فاعلم أن فطرتهم تدفعهم هذا الدفع إلى درجة أنها تحجب اصوات فطرية أخرى مثل الخوف والمصالح وحب الحياة والأولاد…. كما أن الله خلق النباتات السامة مرة الطعم حتى يبادر من تناولها إلى لفظها من فمه……
ومن أهم تجليات هذه الرحمة ايضا، أن طبيعة الظالمين والمستبدين لا يحبون إلا أن يسمعوا صدى صوتهم فيجمعون حولهم من لا يجرؤون على توجيه النصح لهم أو ذكر عورة من عوراتهم أو عيب من عيوبهم أو خطأ وقعوا فيه، وإنما يثنون ويمدحون كل ما يفعلون حتى لو كان الملك عاريا كما يقولون، ويزينون لهم أفعالهم وأقوالهم، وهنا يتجلى الغباء بخالص صوره، فغالبا يصدق الظالمون هذا المديح والثناء ويصل بهم الاعتقاد إلى حالة اليقين أن بطون النساء عقمت من بعد امهاتهم أن تلد مثلهم، فيستمرون في غيهم وضلالهم ويخدعهم أيضا أن الله يملي لهم فيظنون أن ذلك إشارة من إشارات الرضى، حتى تأتيهم الضربة القاسمة من حيث لا يتوقعون. وقد تسمع أحدهم يقول للناس وعلامة الاستغراب بادية على وجهه الان فهمتكم …
فالسيسي مثلا أصبح رمزا من رموز الغباء والسخرية حتى بات الأمر محرجا حتى لخصومه وما أكثرهم، حتى أنني كنت مع مجموعة من الاخوان الكرام فذكروا كلمته التي قال فيها كل ما لا يقال، ولما وصلني الحديث كنت أنوي أن أقول أنني كنت محرجا وأنا اسمعه يتحدث فإذا بأخ كريم يبادرني الحديث ويقول لي ألم تشعر بالإحراج وأنت تسمعه؟ فقلت في نفسي الحمد لله، يبدو أن الفطر السليمة تأبى حتى الغباء والسقوط لمن تعادي، وترى إهانة أن يكون هذا الغريم بهذه الدرجة من السفه والهطل، ومن هنا تفهم أن فرسان العرب والمسلمين كانوا لا يرون أي شرف في قتل من سقط سيفه. ولولا أن السيسي يتحكم بأهم دولة عربية لكان الأمر مضحكا ومسليا نستطيع التندر عليه والسخرية منه، ولكن المصيبة أنه يحكم ويتحكم ولا نستطيع حتى أن نقول شر المصيبة ما يضحك، لأننا في نهاية المطاف حالنا أكثر إحراجا ومخجلا ما دام أمثال هؤلاء يملكون دفة مصائر أمتنا.

وترى حوله أصحاب البدل العسكرية والرسمية يهزون رؤوسهم يؤمنون على أقواله وأنت تعلم أنهم يعلمون أنه سفيه يستخفهم…… ولكن عزاءنا أن هذا النوع من الغباء رحمة، ولو لم يكن الظالم في غالبه بهذا المستوى لما استفز الناس وما سعوا للتخلص منه وتغيير أحوالهم.

بعد أيام قليلة من الهزيمة المذلة عام 1967 التي ما شهد التاريخ المعاصر لها شبيها ولا مثيلا، شغل الرأي العام المصري وخصوصا وسائل الاعلام الحكومية (وكلها كانت حكومية) قصة عالم أزهري كان في بعثة من الازهر إلى الجزائر (عندما كان الأزهر ما زال يصدر للعالم الاسلامي علماء)، حيث قام هذا العالم الجليل بالسجود شكرا لله على الهزيمة التي وقعت، وكان هذا العالم الشيخ الشعراوي رحمه الله، فقامت الدنيا ولم تقعد ونسي قسم من الناس أو تناسوا أو هكذا كانت الأوامر، أن ينشغلوا بالشيخ الذي سجد لله شكرا على الهزيمة بدل أن ينشغلوا بالهزيمة وسببها واستخلاص العبر والنتائج ومحاسبة المجرمين الحقيقيين…

وعندما سئل الشيخ الشعراوي عن سبب سجوده لله لهذه المصيبة التي حلت على الامة، كان جوابه يدل على أن الرجل ليس حاقدا ولا كارها وإنما فاهما واعيا مدركا لطبيعة الأمم والبشر حريصا على الناس ودينهم وصحة منهجهم فقال: (إن قسما كبيرا من الناس بسبب الاعلام يقدسون عبد الناصر وهو يحارب دين الله ومرتمي في احضان الشيوعيين وذلك رغم الهزيمة، ولو انتصر في هذه الحرب لعبده الناس واتخذوه الها وكانت الفتنة في الدين).

ولهذا رأى الشيخ الرحمة والنعمة في الهزيمة، أو كما يقول علماء التزكية المنحة في المحنة… ولم يقدم مصيبة الهزيمة على فتنة المنهج والدين… ورأى بذلك رحمة الله متجلية بأن جنّب الناس فتنة، فكان السجود جوابه لهذه النعمة.

فقد يمكّن الظالم ويظن أن الامور استتبت له، وقد يرفعه الناس على أكتافهم ويمدحونه بما لا يمدح به إلا الله. ولكن حبل إمهال الله سينتهي وفي الغالب يكون سبب نهايته غباء الظالم، ولكم في سير الظالمين عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

شاهد أيضاً

عبد المجيد الزنداني.. حياة حافلة بالعلم والعمل والجهاد

ودع اليمنيون والأمة العربية والإسلامية يوم الإثنين 13 من شوال 1445 للهجرة، الموافق 22 أبريل 2024م علما من أعلام هذه الأمة، وكوكبا من كواكبها، وهاديا من هداتها، ورائدا من روادها، هو الشيخ عبد المجيد بن عزيز الزنداني، العالم العامل، والمجاهد والمربي، والقدوة المعلم، القرآني المحمدي الرباني، صاحب العطاءات الدعوية، والإمدادات التربوية، والجهود التعليمية، والأطوار الجهادية،