ميديا بارت: السلطات الفرنسية غضت الطرف عن هجوم مسجد بايوان

السلطات الفرنسية لم تر أي هجوم في محاولة إشعال النار في المسجد الوحيد على ساحل الباسك بأكمله، وإطلاق النار وإصابة اثنين من المصلين كانا يحاولان الفرار، والأحرى أن تصفه بأنه إرهابي.

ما زال أهالي الضحايا يشعرون بالظلم الشديد رغم مرور عامين على الهجوم الذي أسفر عن إصابة شخصين في مسجد بايون، بعد أن استبعدت السلطات بسرعة فرضية الإرهاب، ومع ذلك فإن الملف -الذي عاينه موقع موقع “ميديا بارت” (Mediapart) الفرنسي- يظهر أن مطلق النار ذو أيديولوجية عنصرية راسخة.

وفي التحقيق -الذي أعده دافيد بيروتين للموقع- ظهر أن الأطروحة التي تبنتها السلطات تركت طعما مرا لدى أسر الضحايا، ولا تزال تثير الغضب داخل المجتمع المسلم المحلي، لأنها لم تر في محاولة كلود سينكي (84 عاما) في أكتوبر/تشرين الأول 2019 إشعال النار في المسجد الوحيد على ساحل الباسك بأكمله، وإطلاقه النار وإصابة اثنين من المصلين كانا يحاولان الفرار أي هجوم، وكان الأحرى أن تصفه بأنه إرهابي.

تقول حنان ابنة أحد الضحايا بكل أسف ومرارة “تعاملوا مع الأمر كأنه حادث تافه. لم يكن لدينا كثير من الدعم ولن تكون هناك محاكمة. لدينا شعور بالظلم يصعب التعايش معه”. وكان والدها المعطي بقار (76 عاما) أصيب في جانبه الأيمن وذراعه بـ3 رصاصات من مطلق النار، كما أصيب عمار قريوش في رقبته، ولن تكون هناك محاكمة لأن كلود سينكي توفي في فبراير/شباط 2020 بنوبة قلبية في الحبس الاحتياطي.

ويقول عبد اللطيف بطاطي، لاعب الرغبي السابق والرئيس الشاب للجمعية الثقافية للمسلمين على ساحل الباسك، إنهم هنا في المسجد يحاولون “نسيان هذه الحلقة” والتمسك بتقاليد الضيافة في المنطقة، ويتساءل: “ما الهدف من مناقشة هذه المأساة؟ هذا لن يعيد صحة المصابين اللذين سُلبت منهما إمكانية قضاء تقاعد مريح”.

ابنة أحد الضحايا: تعاملوا مع الأمر كأنه حادث تافه، لم يكن لدينا كثير من الدعم ولن تكون هناك محاكمة، لدينا شعور بالظلم يصعب التعايش معه.

الحد الأدنى
وبالفعل -كما يقول الكاتب- ترتبت عواقب كبيرة على الضحيتين اللذين قضيا -بعد العلاج المكثف في المستشفى- فترة نقاهة طويلة وساعات من إعادة التأهيل، ولا يزال أحدهما يعاني من اضطرابات في النوم. يقول المعطي بقار “أشعر بأن نصفي على قيد الحياة ونصفي الآخر ميت. ما زال الحدث حيا، وأعيش مع هذا الكابوس”. ومع ذلك يبدي رئيس المسجد قدرا من التفاؤل قائلا “لقد حصلنا على كثير من الدعم المحلي، واتصل بنا أهل الديانات الأخرى ودعتنا البلدية”، حتى إن العمدة استخدم كلمة “هجوم” لوصف الحادث، وإن كان الوحيد الذي فعل ذلك.

ولم تزد الحكومة في ذلك الوقت -كما يقول الكاتب- على القيام بالحد الأدنى، فلم يأت وزير الداخلية آنذاك كريستوف كاستانير ولم يصنف المأساة، واكتفى بالتذكير “بالأفعال التي ارتكبت في مسجد بايون” التي “تثير غضب كل منا”، حسب قوله. كما اقتصر الرئيس إيمانويل ماكرون على الحديث عن “عملية”، كما فعل جزء من الصحافة، ولم يزر عين المكان سوى وزير الخارجية وقتها لوران نونيز.

أما مكتب المدعي العام الوطني لمكافحة الإرهاب فلم ير أن عليه النظر في القضية، وبرر المدعي العام مارك مارييه في بايون ذلك بأن مطلق النار يعاني من “ضعف جزئي في التمييز”، ورأى أن الدافع الأيديولوجي لفعلته لا يمكن تحديده بوضوح، كما رأى القضاء أن الأمر فعل منعزل قام به شخص يعاني من مشاكل نفسية.

وأضاف المدعي العام أن كلود سينكي نفى أنه كان يريد القتل، موضحا أنه كان خطط لمهاجمة المسجد “في وقت يكون فيه أقل عدد ممكن”. وقبل وفاة مطلق النار والأمر بعدم المتابعة اللاحق في 27 أبريل/نيسان 2020؛ وجهت إليه تهمة “الشروع في القتل والتدمير الجسيمين، والعنف باستخدام سلاح”، إلا أن الطابع الإرهابي رُفض، كما رفضت الظروف المشددة المتعلقة بالانتماء الحقيقي أو المفترض إلى العرق أو الدين”.

عمدة بايون: عندما نحلل تموضع كلود سينكي والأساليب المستخدمة وحقيقة أنه أراد إشعال النار في مكان للعبادة أثناء تواجد المصلين بالداخل، فهناك بلا منازع إرادة ومحاولة المساس بسلامة الناس والمكان المقدس لعبادة المسلمين وأتفهم الشعور بالظلم الذي لا يزال قائما حتى اليوم.

مبررات الملاحقة موجودة
وما زال نوحو ديالو (محامي عائلة البقّار) حتى اليوم يستنكر عدم اعتبار هذا الهجوم إرهابيا، ويراه غير مفهوم، قائلا إن “العدالة رأت أنه عمل منفرد لشخص يعاني من مشاكل نفسية واستبعدت العنصر الإرهابي، متناسية تحليل الوقائع في هذه الحالة”.

أما الوقائع -حسب أمر عدم المتابعة الذي استطاعت ميديا بارت الوصول إليه- فإن العديد من العناصر الواردة فيه تدعم مبررات الملاحقة وترسم صورة مطلق النار على أنه متطرف وعنصري منذ “سنوات”، وتقول إنه كان ينوي مهاجمة المسجد والاعتداء على المسلمين منذ عدة أشهر.

رغم أن الرجل المتقاعد دافع عن نفسه نافيا أن يكون قد نوى القتل، مدعيا أنه كان في “حالة ذهول”، وأنه تصرف بسبب “شعور بالموت الوشيك” بسبب حالته الصحية المتدهورة، فإن خطته لم تبد مرتجلة -كما يقول الكاتب- بل كانت مدروسة بعناية؛ إذ رصد المكان 5 مرات على الأقل حسب هاتفه المحمول، كما أطلق النار على المصلييْن اللذين كانا يحاولان الفرار بالسيارة، وذلك بسلاح من عيار 9 ملم اشتراه وقتها.

ميديا بارت: العديد من العناصر الواردة في التحقيق الجنائي تدعم مبررات الملاحقة وترسم صورة مطلق النار على أنه متطرف وعنصري منذ سنوات، وتقول إنه كان ينوي مهاجمة المسجد والاعتداء على المسلمين منذ عدة أشهر

وتمكن معطي البقار المصاب في ذراعه من الخروج من سيارته، أما عمار قريوش فكاد يحترق حيا بالقرب من سيارته لو لم ينقذه مصل آخر، كما تظهر صور كاميرات المراقبة التلفزيونية، بعد أن أشعل كلود سينكي النار في سائل مسكوب على الأرض.

وأثناء اعتقال كلود سينكي وجد المحققون في سيارته عبوة ناسفة وزنها 6.4 كيلوغرامات، والعديد من الأسلحة في منزله، منها قنبلتان مع نظام إطلاق، وذخيرة من 40 طلقة من عيار 357 ماغنوم و123 طلقة من عيار 9 ملم، و14 طلقة من عيار 16ملم، ومسدس آلي.

وخلال جلسة الاستماع، كشف كلود سينكي بوضوح عن نواياه، مناقضا تأكيداته الأولى، حيث أشاد “بصفاته مطلق نار”، وأكد أنه اشترى 3 دلاء من متجر لصنع “قنبلة محلية”، كما كشف شاهد للمحققين عن أنه سمع كلود سينكي يخبر البائع “أنه يريد تحضير عبوة ناسفة”، من دون أن يأخذ أحد ذلك على محمل الجد.

وأخيرا -يقول الكاتب- في جلسة استماع اعترف كلود سينكي -الذي حاول إخراج سلاحه أثناء الاعتقال- بأنه أراد “قتل” أحد الضحايا، معتقدا أنه سرق قنبلته وأراد “تدمير” المسجد، موضحا بذلك “نية القتل” كما ورد في أمر عدم المتابعة.

أحد الضحايا: أشعر بأن نصفي على قيد الحياة ونصفي الآخر ميت، ما زال الحدث حيا، وأعيش مع هذا الكابوس.

أيديولوجية عنصرية
ولتفسير غياب الدافع الإرهابي، سلط نظام العدالة قبل كل شيء الضوء على الهشاشة النفسية لمطلق النار، إذ أظهر التحليل النفسي الذي أجري أثناء حجز سينكي أنه “هادئ” و”متعاون” مع وجود عناصر من “جنون العظمة” في خطابه، ولكن “من دون وجود خلط أو غرابة لديه”، كما أظهر تحليل آخر “تغييرا جزئيا في تمييزه وسيطرته على أفعاله”، إلا أنه مع ذلك يظل مسؤولا جنائيا عن أفعاله، وعند سؤاله عن الدافع لفعله أعلن أنه هاجم هذا المسجد “للانتقام لتدمير كاتدرائية نوتردام دي باري” التي تسبب فيها -حسب قوله- “أفراد الجالية المسلمة”.

إذا كانت هذه الأطروحة لا يدعمها أي عنصر، فإنها لا تأتي من العدم. وتم نقل فرضية الحرق العمد أو الهجوم التي رفضها المحققون بسرعة من قبل العديد من السياسيين في ذلك الوقت؛ مثل جان ميسيها المتحدث الحالي باسم إريك زمور، ونيكولاس دوبون-آينان الذي كان متمسكًا بشكوكه، وعن طريق المواقع اليمينية المتطرفة.

ومن المعروف أن كلود سينكي -كما يقول الكاتب- عضو أساسي في أقصى اليمين، ورشحه حزب التجمع الوطني -الذي ترأسه مارين لوبان- لانتخابات المقاطعات عام 2015، إلا أنه “أدلى بتصريحات عُدّت مخالفة للروح والخط السياسي للحزب”، مما عرضه للطرد. وقبل عام، هنأ المرشح إريك زمور على صفحة المعجبين به على فيسبوك.

ويرى المحامي نوحو ديالو أن ملف كلود سينكي يشكك في “قرار العدالة بأن هذا الهجوم فعل منعزل قام به شخص مختل”، خاصة أن التحقيق أظهر وجود أيديولوجية عنصرية متجذرة لدى هذا المتقاعد مغربي المولد، بل إن ابن كلود سينكي قال إن والده كان دائما شديد الحماس ضد “العرب والمثليين والشيوعيين”، وإنه لم يتفاجأ من قيامه بهذا الفعل، ووصفه حفيده بأنه “متطرف”، وقال إنه سمع جده يتحدث عن المسجد.

وأوضح هذا الحفيد أن كلود سينكي كان يدلي بتصريحات عنصرية منذ الحرب الجزائرية، حيث كان جندي احتياط من عام 1962 إلى عام 1985 برتبة ضابط صف أول، كما قدمت صديقة مطلق النار تفاصيل أكثر تحديدا، إذ قالت إنه “كان يركز على مسجد بايون، وقال لها إنه في حالة الحرب سيقيم حفلا “في مكان العبادة هذا”، وقالت إنها تركته بعد أن شعرت بالخوف في أكتوبر/تشرين الأول 2019 عندما اشترى أسلحة.

أمر مثير للشك
وقال الكاتب إن الاحتفاظ بهشاشة مطلق النار النفسية من دون النظر إلى أيديولوجيته وإعداده لهجومه أمر مثير للشك، لأن مكتب المدعي العام الوطني لمكافحة الإرهاب تبنى الهجوم على فيلجويف في يناير/كانون الثاني 2020 رغم الاضطرابات النفسية لفاعله كما فعل الشيء نفسه بالنسبة لعملية القتل في مقر شرطة باريس، ولا شك أن هجوم مسجد بايون يلبي جميع الصفات التي تصنفه عملا “إرهابيا”، حسب السوابق القضائية.

ولا يبدو عمدة بايون نادما على وصف الحادث بأنه هجوم قائلا “عندما نحلل تموضع كلود سينكي والأساليب المستخدمة وحقيقة أنه أراد إشعال النار في مكان للعبادة أثناء تواجد المصلين بالداخل، فهناك بلا منازع إرادة ومحاولة المساس بسلامة الناس والمكان المقدس لعبادة المسلمين”، وهو “يتفهم الشعور بالظلم” الذي لا يزال قائما حتى اليوم.

المصدر : ميديابارت

شاهد أيضاً

هكذا أدارت المقاومة الحرب النفسية مع الاحتلال في غزة

ظهرت في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة أهمية الحرب النفسية باعتبارها جبهة أساسية من جبهات هذه المعركة، وحاول كل طرف توظيف الدعاية للتأثير النفسي في مخاطبة جمهوره والجمهور المعادي.