من الشجاعة أحيانا أن ننسحب

بقلم : صفاء عزمون

ليس كل مُنسحِب جبانا، ولا كل ثابت شجاعا، بعض الانسحاب شجاعة، وبعض الثبات جُبن، فالاعتذار انسحاب من ساحة الظلم، والاصرار على الأذى ما هو إلا ثبات على الباطل؛ لا أخفيكم سرا أني أحترم وأُقدِّر أولئك الأشخاص الذين يملكون شجاعة مغادرة القطار ما دامت وجهته خاطئة، وآسى على أولئك الذين يستمرون وهم يعلمون أن نهاية الطريق ما هي إلا فشل وخذلان.

في كل يوم نتخذ العديد من القرارات، منها ما هو بسيط جدا لا يحتاج كثيرَ تفكير، ومنها ما هو مصيري وقد يكلفك كثيرا من الجهد أوالعمر أو المال أو العواطف والأحاسيس، وهنا بيت القصيد… فمما لا شك فيه أن التأني في اتخاذ القرار حكمة، ودراسته من جميع زواياه فطنة والمضي فيه يحتاج عزيمة من حديد، لكن التراجع عنه في كثير من الأحيان يحتاج شجاعة، شجاعة كبيرة وصبرا أعظم على الخسائر، يحتاج أن ندرك حجمنا وحدود قدراتنا، وأن نقبل أنفسنا كما هي ولا نكلفها ما لا تطيق.


بعض العاهات لا دواء لها إلا البتر، البتر مؤلم ورؤية الجسد ناقصا ليس بالمنظر الذي تحبه العيون، لكن الطبيب يختاره مُكرَها لأن الكل أهم من الجزء

عزيزي الطالب تلك الشعبة التي اخترتها ثانوية كانت أو جامعية، ثم وجدت أنها لا تناسبك أو ربما أكبر من قدراتك، لا تُفني عمرك تحاول أن تثبت لمن حولك أنك “تستطيع”، فالعمر يا صديقي سلعة غالية لا تضيعه لتثبت للآخرين أنك بطل خارق، بل اصرف هذا الكنز النفيس في أمر عندما تلتفت بعد بضع سنوات إلى ماضيك لا تعض يديك ندما على عنادك، كن سيد نفسك واعلم أن عليك أن تختار ما يرفع ثقتك بنفسك لا ما يكسرها، ما يُمَكِّنك من أن تضيء لا ما يجعلك تخبو.

عزيزتي، تلك الوظيفة التي تستنزف كل أعصابك، وتشعرك أن العمل ما هو إلا قطعة من الجحيم، تَعُدِّين الساعات فيها عَدًّا، تلك الوظيفة التي تنحرين فيها مبادئك كل يوم، وتُضيعين فيها شخصك، لتكتشفي كل يوم أنك تتحولين من سيء إلى أسوأ، سأقول لك على استحياء يا عزيزتي: غيريها، أتركيها! الخسران الحقيقي هو خسرانك نفسك، أن تمر سنين الشقاء وتكتشفين بعد فوات الأوان، أنك لم تستطيعي الحفاظ على شخصك الطيب، بل صرت كبقية القطيع: مجرد نسخة زائدة وقد كنت من قبل تحفة نادرة.

أيها الطيبون، تلك العلاقة التي تؤذيكم، تحطمكم كل يوم، تهدرون فيها مشاعركم الجميلة، وتمتلئ صدوركم فيها بالإحباط واليأس والشك، مهما كان ذلك الآخر غاليا في عيونكم، تأكدوا أن نفوسكم لها حق أكبر عليكم، بعض العاهات لا دواء لها إلا البتر، البتر مؤلم ورؤية الجسد ناقصا ليس بالمنظر الذي تحبه العيون، لكن الطبيب يختاره مُكرَها لأن الكل أهم من الجزء، لذا اعذروني عندما أقول لكم: اقطعوا مثل هذه العلاقات، وحافظوا على سلامكم الداخلي، صدقوني لن تكون نهاية العالم، فالإنسان يَألَف أنه فقَدَ كما ألِف أنه وجد كما قال الشاعر: ستألف فقدان ما فقدته كإلفك وجدان ما أنت واجد.

نعم!! الكلام كما نقول سهل، والأصعب تنزيله إلى أرض الواقع، من السهل جدا أن أقول: غَيِّر الشعبة أو أُتْرُكي الوظيفة أو اقطعوا العلاقة، لكني أعلم يقينا أن الأمر يحتاج شجاعة وصبرا، الانسحاب من الأذى وقاية من الهلاك، هذه هي الحياة الدنيا، الحياة التي تجعلنا نضطر إلى ترك أمور أحببناها كي نستطيع النجاة، لذا أقول لك مجددا عزيزي القارئ اتخذ كل الأسباب قبل قراراتك المصيرية، لكن عندما ترى أن الأمور سارت على غير ما أردت، وأن الثبات تقييد للنفس وسجن لها وتكليفها فوق وسعها، عند ذلك لا تبتئس وتستسلم بل استجمع شجاعتك وانسحب مرفوع الرأس، كن فخورا أنك استطعت أن تعترف أن قرارك هذه المرة قد جَانَب الصواب، وخذ استراحة محارب، تلملم فيها ما تشتت من أفكارك، وتُرمم فيها ما تهدم من كيانك، وتضمد ما أصابك من جراح، وأعلم يا عزيزي أن أخطاءنا هم أساتذتنا في الحياة ومنهم نتعلم، واعلم أن الوقوع لا يعني الفناء إلا عندما يقبل المرء أن يكمل حياته جاثيا.

شاهد أيضاً

مقال بموقع بريطاني: هذه طريقة محاسبة إسرائيل على تعذيب الفلسطينيين

ترى سماح جبر، وهي طبيبة ورئيسة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية، أنه وسط تصاعد حالات تعذيب الفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، هناك حاجة ملحة إلى قيام المتخصصين في مجال الصحة بتوثيق مثل هذه الفظائع بشكل صحيح.