مسلمو أوروبا.. ضحايا مرتين

١٤ أكتوبر ٢٠١٩

عبد الله أيد

بعد كل هجوم إرهابي تنشأ حركة تضامن تدعو إلى الحب والسلام والوحدة والتكاتف ضد العدو الموحد وهو “الإرهاب”، متضامنون من جميع الثقافات والأديان يقفون جنبا إلى جنب في مظاهرات تدين السفاحين وتدعم الضحايا، لكن في الوقت ذاته تنشأ أيضا حركة مضادة تنشر الكراهية والبغضاء في المجتمع، وتنمّي الشروخ بين مكونات المجتمع الواحد، وشيئا فشيئا تتنامى حركة الكراهية وتستمر حتى تصل ألسنة اللهب إلى بعض الضحايا وكأنهم جزء من الإرهاب، بينما تبهت حركة التضامن بعد فترة من الهجوم.

نستعرض فيما يلي الفيلم الذي أنتجته الجزيرة بعنوان “ضحايا مرتين”، والذي يتتبع ظاهرة تنامي الإسلاموفوبيا في أوروبا، وتفاحش العنصرية ضد المسلمين بعد الأحداث المتعددة التي جرت في إسبانيا وفرنسا وبلجيكا، والفلسفة الاجتماعية لمسلمي أوروبا.

“الإرهاب الإسلامي”!

في 11 مارس/آذار عام 2004 تعرض نظام تشغيل القطارات في مدريد إلى هجوم تفجيري، وفي اليوم الموالي اجتاحت الشوارع مظاهرات كبرى عمت شوارع مدريد تدعو إلى السلام. كان الملايين من الناس يُعبرون عن رغبتهم في السلام ويصرخون “لا للعنف” حتى قبل أن يعرفوا حقيقة منفذي الهجوم، وقد قيل يومئذ إن للمنفذين علاقة بتنظيم الباسك الإرهابي (إيتا)، بينما قام البعض بربطهم بمنفذي أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول في الولايات المتحدة؛ وعلى كل حال كان المتظاهرون يرسلون نفس الرسالة: الدعوة إلى السلام.

تغيرت الكثير من الأوضاع في الفترة الفاصلة بين تفجيرات مدريد عام 2004 والتفجيرات التي وقعت في أغسطس/آب 2017 ببرشلونة وكامبريلس ومدن كبرى في دول أوروبية أخرى، واليوم أصبح الأمر واضحا بالنسبة للرأي العام والإعلام في أوروبا، إنه “الإرهاب الإسلامي” كما يحلو للبعض أن يسميه، لكن هل هذا المصطلح بحد ذاته دقيقا؟

في أحداث مدريد 2004 لقي ثلاثة أشخاص مسلمون مصرعهم
سواءٌ محياهم ومماتهم

كثير من الناس في أوروبا وخارجها لا يوافقون على استخدام مصطلح الإرهاب الإسلامي لسبب وجيه، فالهجمات المنفذة قام بها إرهابيون دون شك، ولكن لا علاقة للأمر بتاتا بالديانة، والدليل على ذلك أنهم لا يميزون في هجماتهم بين مسلم وغيره، وإلا لما كان المسلمون يسقطون ضحايا في كل حادث إرهابي في أوروبا. فبالرغم من أن هؤلاء الإرهابيين مسلمون ويدعون أنهم يقومون بذلك باسم الإسلام، فإنهم في الوقت ذاته يزهقون الكثير من الأرواح التي تنتمي إلى الدين نفسه.

في أحداث مدريد 2004 لقي ثلاثة أشخاص مسلمون مصرعهم، وفي حادثة الدهس التي وقعت في مدينة نيس بفرنسا قُتل 86 ثلثهم من المسلمين، بل إن أول من دهست الشاحنة امرأة مسلمة من أصول مغربية ترتدي حجابها، وتلك أرقام تدل بالمجمل على أن الإرهاب ليس إسلاميا قطعا، بل لا دين له.

أن تكون مسلما في إسبانيا

محمد الزحّاف شاب يحمل الجنسية الإسبانية، ويعمل في قطاع الخدمات الاجتماعية في المجمع الإداري في مدريد، وكان حاضرا في أحداث مدريد 2004 يقدم المساعدة في المستشفيات للضحايا الذين نجوا من الموت، وعائلات الضحايا الذين فارقوا الحياة.

يقول محمد: اتصل بي زميل وأخبرني أنهم (أي الإرهابيين) تبنوا التفجيرات، وادعوا أنهم نفذوها باسم الإسلام، وفجأة تبادرت إلى ذهني أحداث 11 سبتمبر/أيلول في الولايات المتحدة، لذلك كنت خائفا ثم أُصبت بالانهيار، فقد كان التوتر عاليا، ثم بكيت.

وبعد مرور عدة أشهر أدرك محمد بأنه في حاجة إلى مساعدة طبيب نفسي، فالتوترات التي عاشها العاملون في المجال الاجتماعي خلال الأسابيع التي تلت التفجيرات كانت شديدة الضغط، كما كان محمد يخشى من أن يتم تصنيفه -كمسلم يحمل اسم محمد- على أنه ليس جزءا من المجتمع الإسباني، وقد تأكد له الأمر الآن بعد 13 عاما، حيث يقول: لا أريد أن أقول إنه أمر صعب أن تكون مسلما في إسبانيا، لأن بإمكانك ممارسة شعائر دينك، ولا أحد يمنعك من ذلك، لكن ذلك سيجعل الناس يراقبونك عن قرب بطرق مختلفة، ويهتمون بما تفعل أو تقول، هذا ليس عادلا، وهو ناجم عن مثل هذا النوع من الحوادث.

مدينة نيس الفرنسية ظلت مطوقة برجال الشرطة حتى بعد عام من الهجمات التي وقعت فيها
هذه المرة كان دوركم!

لا تزال مدينة نيس الفرنسية مطوقة برجال الشرطة حتى بعد عام من الهجمات التي وقعت فيها، وتحديدا في بروميناد ديزانغليه حيث قام إرهابي بدهس الناس بشاحنته مخلفا عشرات القتلى منهم مسلمون، والصادم في الأمر أن أول ضحاياه امرأة محجبة كان المنفذ يدرك أنها من نفس ديانته، وهي امرأة مغربية مزدوجة الجنسية تُدعى فاطمة الشريحي.

تقول حنان الشريحي ابنة فاطمة: إنهم يؤكدون أنهم غير مسلمين، لأن أول شخص قتلوه كان مسلما.

كانت فاطمة الشريحي زوجة وأماً، وقد لقيت عائلتها عناء شديدا جراء فقدها، فحين أُخبر زوجها بأن الأمر انتهى أغمي عليه، وعندما فتح عينيه وجد أن العالم قد تغير، فجلس أمام جثمان زوجته الممدد على الأرض يضرب صدره بقبضة يده، وكأن قلبه قد توقف عن النبض وهو يحاول إعادته إلى النبض مجددا.

ما زاد الطين بلة هو شماتة بعض المتعصبين الذين بلغت الكراهية منهم مبلغا عظيما، فأصبحوا يشعرون بالشماتة والتشفي في المسلمين الذين قضوا نحبهم في الحادثة. تقول حنان ابنة فاطمة: في ليلة الأحداث كانت أمي ملقاة على الأرض ومغطاة بخرقة، وفجأة توقفت سيارة، وكانت تقودها امرأة ومعها ابنها، فقالت: عصابة إرهابيين! لقد أحسنوا فيما فعلوا بكم، هذه المرة كان دوركم.

الفرق بيننا وبينهم

قامت حنان الشريحي بتأليف كتاب عن أمها، وقد خطرت لها الفكرة ليلة الحادثة، فحين أرادت الذهاب إلى نيس لم تستطع إيجاد رحلة جوية في الليل، لذلك كان عليها انتظار الغد، لكنها لم تستطع النوم ليلتها، ثم فكرت أن عليها إخبار العالم بأسره عن الفرق بين سائق الشاحنة وبين أمها، فهما مختلفان تماما، أما أحدهما فهو مسلم حقيقي، وأما الآخر فيتحدث عن الإسلام، لكنه ليس كذلك.

تقول حنان الشريحي: في أول مرة ذهبت فيها إلى المكان الذي قتلت فيه أمي، مر رجل من خلفنا وقال: لا نريد هذا الأمر هنا، لا نريدكم هنا. ثم بعد 10 دقائق كان شخص آخر ينتظرنا أمام المقهى، وقال: هذا جيد، ها أنتم تخرجون مثل قطيع (“Meute” وهي كلمة فرنسية لا تستخدم إلا لقطيع الحيوانات)، فقلنا له: اتركنا وشأننا، لقد فقدنا أمنا؛ فأجاب: هذا جيد، ذلك يجعل عددكم أقل بشخص.

في المطارات يكون الشخص المسلم معرضا للكثير من الإجراءات الأمنية

أحداث باريس

في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 كانت باريس مسرحا لعدة هجمات إرهابية، منها هجوم في محيط ملعب فرنسا، وهجوم داخل ملهى ليلي بأحد الأحياء الشديد الحيوية والمتنوع ثقافيا، وثالث في حفل موسيقي بمقهى يحضره الكثير من الناس، ورابع في مطعم كان فيه مجموعة من الأشخاص يحتفلون بأعياد ميلادهم عندما توقفت قلوبهم عن النبض، وقد مات الكثير من المسلمين في تلك الليلة في باريس.

من هؤلاء المسلمين الذين قضوا في تلك الليلة هدى سعدي التونسية الأصل التي كانت تحتفل بعيد ميلادها في مطعم “لا بيلي كيب” (La Belle Equipe) الذي كانت تديره مع أخيها خالد الذي يعمل في المطعم وأختها حليمة التي توفيت فور بدء إطلاق النار، بينما أصيبت هدى في رأسها، وباتت تكافح عدة ساعات بين يدي أخيها إلى أن لفظت أنفاسها الأخيرة في المستشفى.

يقول عبد الله سعدي شقيق هدى وحليمة: لقد كنت أعمل في تونس، وعلمت بالهجمات عبر وسائل الإعلام، حتى وصلتني رسالة من صديق عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فعرفت منه أنه خلال احتفال هدى بعيد ميلادها في المطعم تعرضت أختي لجروح، فما كان مني إلا أن اتصلت بأخي خالد الذي كان يعمل في ذلك المطعم في تلك الليلة، فأخبرني أن أختي الأخرى حليمة كانت أيضا موجودة هناك، وأخبرني أنها ماتت، وأن هدى تعاني من جروح خطيرة.

طاعون العنصرية

لا تمارس العنصرية في فرنسا بشكل مباشر في الغالب، لكنها تمارس كثيرا بشكل غير مباشر وخصوصا بعد الهجمات التي استهدفت المدن الفرنسية في السنوات الأخيرة، حتى أصبح المسلمون أشخاصا غير مرغوب بهم بالنسبة للبعض، وإن كانوا قد ولدوا وترعرعوا في فرنسا، وحملوا جنسيتها.

يقول عبد الله سعدي شقيق حليمة وهدى: بعد يومين أو ثلاثة من الهجمات ذهبت إلى مطعم “لا بيلي كيب” فاقترب مني أحدهم وقال لي: إنه بسبب أشخاص مثلك حدث ما حدث. قال لي ذلك بالرغم من أنني فقدت شقيقتاي في الحادث، هذا دون أن أذكر أن عددا يقارب 12 شخصا ممن أعرفهم جيدا قتلوا أيضا في تلك الهجمات.

ليس الأمر منحصرا على فرنسا، ففي إسبانيا أيضا ينظر الناس إلى المسلمين تلك النظرة نفسها، ويراقبونهم بشكل خاص، وكذلك الأمر في دول أوروبية أخرى، ففي المطارات مثلا يكون الشخص المسلم معرضا للكثير من الإجراءات الأمنية، حتى إن الأمر يصل إلى تصنيف بعض الأحياء والمدن التي تقطنها جاليات مسلمة كبيرة على أنها أوكار للخطر.

يقول محمد البشيري: أن تكون مسلما اليوم في أوروبا فذلك وضع معقد، حين أعرف بنفسي فسأكون مراقبا أكثر وموجها أكثر، أحاول التعامل مع هذا بشيء من الفلسفة معتقدا أن هذا ليس إلا سياق الأحداث، آملا في أن يتغير يوما ما.

بعض الأحياء والمدن التي تقطنها جاليات مسلمة كبيرة تصنف على أنها أوكار للخطر
نيفرتيتي الضحية

كانت لبنى زوجة محمد البشيري التي يراها حبه الخالد وينظر إليها على أنها “نيفرتيتي مصر جمالا، وهيلين طروادة سلاما وحبا، وكان له منها صبية صغار ودّعتهم ذات يوم وقبلتهم قبل أن تذهب لزيارة صديقتها، وفي طريقها إليها تم تفجير القطار في محطة مترو مالمبيك بقنبلة مدمرة في قلب مدينة بروكسل، وكان ذلك صبيحة يوم 22 مارس/آذار عام 2016 في حدود التاسعة صباحا، أي بعد نحو ساعة من تفجيرات المطار.

وبعد وفاة لبنى دعا زوجها محمد إلى الجهاد من أجل الحب في أحد مساجد بروكسل، وهو موضوع ارتأى أن يؤلف فيه كتابا فيما بعد.

جهاد من أجل الحب

يقول محمد البشيري: بعد أن أضع أطفالي في الفراش أكون وحيدا في الليل فأبدأ بالكتابة، فالكتابة هي التعبير عن الألم والحزن مقرونين بنوع من الحب.

قام محمد بتأليف كتابه “جهاد من أجل الحب” الذي أراد فيه أن يأخذ مصطلح الجهاد الذي هو مصطلح إسلامي يساء فهمه، وأن يعيد له معناه الأصلي النبيل، فهو جهاد غير مسلح البتة ولا يعترف بالعنف، وهو يعني في الواقع بذل الجهد، فهذا هو معنى الجهاد، لكنه يدعو إلى بذل الجهد في الذهاب نحو الآخرين، وهو يتقبل كل أنواع الاختلافات ويعترف بحرية الاختيار وحرية التفكير وبعلاقة الأخوة بين جميع البشر، إنه كلمة محملة بالحب والمبادئ الإنسانية.

يقول محمد في كتابه “جهاد من أجل الحب”: إذن تريد مغادرة حي مولمبيك؟ حسنا، لكن لا تذهب مباشرة إلى سوريا، اذهب لزيارة أرجاء الأرض الأربعة، وانظر كم هو جميل هذا العالم، واكتشف ثقافات أخرى، أما إذا ما ذهبت إلى دمشق المدينة التي وصفها ابن بطوطة بجنة الأرض، فلا تذهب إليها لتدمرها، بل اذهب إليها لتعشقها.

حي مولمبيك “الإرهابي”

إذا كنت تشاهد وسائل الإعلام فإنك تعتقد دون شك أن حي مولمبيك في العاصمة البلجيكية بروكسل ثكنة من ثكنات الإرهاب، وبالطبع توجد مشاكل اجتماعية في مولمبيك، فهي منطقة يقطنها الكثير من المواطنين ذوي الأصول المغربية، ونسب البطالة فيها عالية جدا، لكن مولمبيك التي تراها وتسمع عنها في وسائل الإعلام مخيفة أكثر من المجتمع الذي فيها، فقد تتخيلها مثل كابل تقريبا.

يقول محمد البشيري: بالنسبة لي مولمبيك هو المجتمع الذي نشأت فيه، وكنت سعيدا هناك، وهو أيضا المجتمع الذي وجدت فيه بعد مقتل زوجتي التعاطف من طرف كل الأجيال، وجدت فيه الصداقة والبسمة من الورِعين وممن هم أقل ورعا من أصحاب اللحى ومن القابعين في زوايا الشوارع.

ريبول.. مهد الإرهاب

مدينة ريبول الواقعة في إقليم كتالونيا الإسباني هي مدينة صغيرة بعيدة عن الضجيج والصخب والنشاط الكثيف الذي تعيشه عاصمة الإقليم برشلونة، وهي أيضا المدينة التي ينتمي إليها كل الإرهابيين المتهمين بارتكاب هجمات برشلونة وكامبريلس، والتي توصف بأنها حاضنة للإرهابيين في إسبانيا.

تقول وسائل الإعلام إن إمام أحد المساجد كان وراء تحريض الشبان المغاربة الذين نفذوا الهجمات، وإنه أيضا متورط في أحداث مدريد 2004، كما يُعتقد أنه كان قد تردد على بروكسل مرات عدة عندما كان يحضّر لهجمات برشلونة، لكن إذا كان هناك شخص واحد على الأقل مرتبط بكل هذه الهجمات، فلماذا يتم توجيه اللوم إلى مدينة بأكملها؟

يعيش المجتمع المسلم البالغ نحو 200 عائلة في ريبول حالة صدمة منذ وقوع الهجمات الأخيرة، فقد أصبح أبناؤهم بين عشية وضحاها إرهابيين، وبات الإمام عبد الباقي السطي إمام المسجد يشار إليه على أنه زعيم الشبان العشرة المتهمين.

والد أحد الشبان المغاربة الذين نفذوا الهجمات في برشلونة
مَن الملوم؟

يلقي الناس باللوم على جهاز الاستخبارات السرية الإسبانية فيما يتعلق بالحالة الأمنية التي أدت إلى الهجمات المختلفة، ففي عام 2003 قامت الشرطة الإسبانية بإلقاء القبض على مجموعة إسلامية يعتقد أنها كانت تخطط لشن هجمات، وقد خضع الإمام عبد الباقي السطي للاستجواب، لكن لم يتم سجنه، وبعد مرور عدة سنوات أودع السجن بتهمة الاتجار بالمخدرات، وقيل إنه منخرط في هجمات مدريد، وعند خروجه من السجن بعد عامين انتقل إلى مدينة ريبول حيث يوجد أفضل مكان للعمل على حض الشباب المغاربة على التشدد الديني.

يفترض أن الإمام وشابا آخر لقيا مصرعهما في انفجار قنبلة كانا يحاولان تركيب موادها لاستخدامها في الهجمات، وقد أطلقت الشرطة الإسبانية النار وقتلت خمسة مشتبها بأنهم إرهابيون في منتجع مدينة كامبريلس، كما ألقي القبض على مجموعة من أربعة شبان مشتبه بهم في قضية إرهاب.

يقول محمد الزحاف متحدثا عن الإمام السطي: إنه شخص كان مرتبطا بتنفيذ هجمات 11 مارس/آذار التي كانت أول هجوم على أرض أوروبا، ثم تم ربطه مرة أخرى بعد 13 عاما بإلحاق الأذى بالناس، لا يمكنني كمسلم فهم هذا، كيف أمكنه إقناع أولئك الشبان بإلحاق الأذى بجيرانهم؟

ذو الوجهين

يقول أحد آباء الشباب المنفذين للهجمات: وقع ما وقع ورأينا أبناءنا في التلفاز، وحينئذ أدركنا أن الإمام كان مجرما، سمعنا الكثير من القصص حوله بعد الهجمات منها أنه تاجر مخدرات ومنخرط في هجمات مدريد وبروكسل.. علمنا بكل هذا بعد فوات الأوان، وقع ما وقع وعلمنا أن أبناءنا كانوا ضحايا، لم يكونوا يعلمون أي شيء، وقد ماتوا.

لم يكن الشبان الذين قاموا بتنفيذ الهجمات مختلفين عن أقرانهم بشيء، فبحسب شهادة أهليهم لم يكن يلاحظ عليهم أي سلوك غير مألوف، فقد ترعرعوا في كتالونيا يدرسون مع الكتلان ويصادقونهم ويخرجون معهم، كل ذلك قبل أن يختطفهم الإمام فكريا.

أما الإمام بحسب شهادة الأهالي أيضا فلم يكن الوجه الذي أظهره لأهل المسجد غريبا أو يطرح التساؤلات، بل كان مغايرا لوجهه الحقيقي، فكان مجرد إمام عادي يصلون خلفه الصلوات الخمس، ويأتمّون به في التراويح مدة رمضانين متتاليين، ولم تكن خطبه تخرج عن مواضيع الخطب المألوفة، ولا تتحدث بشيء مريب.

يقول أحد آباء الشبان المنفذين للهجمات: هذا هو الوجه الذي رأيناه من الإمام، أما إن كان وجهه الذي يلقى به الشباب خارج المسجد يختلف عن هذا، فإن ذلك أمر لم نلاحظه أبدا.

الشبان المتهمين بارتكاب هجمات برشلونة وكامبريلس
تسلق الحائط القصير

عادة ما يتم اختيار الفئات الهشة والأقل معرفة بالدين من أجل التغرير بهم، وجرهم إلى مستنقعات التطرف والتشدد الديني والإرهاب، وهذا ما فعله الإمام عبد الباقي السطي بالشبان الذين أوقع بهم حسب تعبير الأهالي.

يقول رئيس الجالية المسلمة: لم يكن لدى هؤلاء الصبية فكرة عن الإسلام، لقد أوقع الإمام بهم، وإلا فلماذا لم يختر أشخاصا لديهم إلمام أكثر بالدين ويعرفون ما يقول القرآن؟ لأنه كان يعرف أن هؤلاء الشباب يجهلون كل شيء.

وأما عن علاقة الإمام بالشباب فيقول رئيس الجالية المسلمة إنه صدم عندما رأى الأمر في الإعلام، حيث إنه لم ير الإمام يتحدث إلى هؤلاء الصبيان أبدا، لا داخل المسجد ولا خارجه، أي أنه قام بكل شيء في سرية تامة.

ضحايا اليوم.. إرهابيون غدا

يقول محمد الزحاف: أعتقد أنه عندما يرتكب شخص ما جريمة فإنه مسؤول عنها ولا يمكن إعفاؤه من مسؤولية التسبب في إحداث الألم، لأن ذلك يساعد أشخاصا آخرين أيضا على الامتناع عن ارتكاب ذلك، لكنني أعتقد أيضا أنْ لا أحد يولد سيئا، وأن هناك أخطاء يجب تصحيحها لاحقا، ولو أتيح لي العمل مع هؤلاء الأطفال لما أقدموا على ما ارتكبوه من فظاعات. وعلى الرغم من أن آخر الأحداث التي وقعت لم تكن مبررة من وجهة نظر علم الإجرام، فإني أعتقد أن بعض الظلم الذي قد يكونون تعرضوا له، هو ما جعلهم الضحايا الذين تحولوا إلى قتلة منفذين، إنه من الصعب قول ذلك لأنه كان هناك عدد من الضحايا الآخرين، وهم أناس أبرياء قتلوا، ولا يمكن بحال من الأحوال المساواة بينهم وبين قاتليهم، لكن علينا إدراك أن ضحايا اليوم قد يصبحون إرهابيين غدا، وعلينا العمل على منع حدوث ذلك.

هكذا إذن غالبا ما تكون دوافع بعض العمليات الإرهابية ناتجة عما يراه الإرهابيون ظلما اجتماعيا أو سياسيا أو تاريخيا لهم، لكنهم يخطئون في التعبير عن قضاياهم تلك عبر صب غضبهم على الأبرياء، ويظنون أنهم بذلك يحققون العدالة، والمخيف في الأمر أن استمرار ذلك الظلم هو ما يصنع الإرهابيين مجددا.

يقول محمد البشيري في كتابه “جهاد من أجل الحب”: إذا كنت تظن أن اختطاف أرواح الأبرياء وإحداث الألم هو نوع من تحقيق العدالة، بل تدعي أيضا أنها عدالة الرب، إذن فأنا وأنت لا ننتمي إلى نفس الديانة، لكنك الآن تدعوننا إلى الحرب، بأيدولوجية عدمية وغاية العدمية، بإمكاننا أن نكون معترضين على النظام وبإمكاننا عدم الاتفاق وبإمكاننا انتقاد الرأسمالية أو المجتمع وبإمكاننا أن نغضب، لكن ليس باعتماد طريق العنف والكراهية أبدا.

بعض العمليات الإرهابية ناتجة عما يراه الإرهابيون ظلما اجتماعيا أو سياسيا أو تاريخيا لهم
اعتذار الضحية

يرى البعض أن على المجتمع المسلم التظاهر بعد كل هجوم إرهابي، وأن ذلك قد يغير وجهة نظر الناس إليه، وخصوصا أولئك الذين يستقون معلوماتهم من وسائل الإعلام التي تقوم بتهويل الأحداث ومغازلة المشاعر المعادية للإسلام، وأن هذا التظاهر نوع من الدفاع عن الإسلام الصحيح وعن سمعته ونفي الشوائب عنه، في حين يعتقد آخرون أن فعل ذلك قد يعني أننا نربط ديننا بالإرهاب، وأن هؤلاء الإرهابيين لم يقدموا على فعلاتهم باسمنا، وأن الأمر بمثابة أن نقول نحن آسفون، بينما نحن الضحايا.

يقول محمد الزحاف: عندما يرتكب شخص ما هجوما ويدعي أنه فعل ذلك باسم الدين، يقول لي العديد من الناس إن من واجبي الخروج إلى الشارع –باعتباري مسلما- والتنديد بذلك العمل، لأنهم يساوون بيني وبين ذلك الإرهابي، إنهم يقولون إنه شخص من نفس طبيعتي، وإذا خرجت ورفعت صوتي “لا أقبل أن تفعل ذلك باسمي” فإنني سأنتهي إلى الاعتراف بأن الإرهابي فرد منا، بينما هو ليس فردا منا.

مفرقعاتنا أعلى من متفجراتهم

تقول حنان الشريحي في كتابها “وطني الأم” (Ma mère patrie): لا يجب علينا التضحية بنورنا بسبب هذا الخوف، فرنسا تعاود نهوضها، وعلينا التشبث بمبادئها الداعية إلى الحرية والمساواة والأخوة، فلنحمِ نموذجنا للجمهورية، ولنتشارك ثقافتنا، لا يجب أن نخضع لدكتاتورية الإرهاب، لن نسمح لها بالتغلب على الحكمة، فلنجتمع معا ونظهر لهم ثراء وقوة أمتنا، ولنكن جاهزين للدفاع ضد من يسعون إلى حرماننا من أعيادنا وصحفنا ومن مهرجاناتنا الغنائية، أملنا الأكبر في أن يكون يوم 14 يوليو/تموز يوم فرح وسرور وليس يوم حداد مرير، وأن يكون احتفالا بالحرية والديمقراطية، فلتكن أصوات مفرقعاتنا أعلى من أصوات أسلحتهم.

شاهد أيضاً

مقال بموقع بريطاني: هذه طريقة محاسبة إسرائيل على تعذيب الفلسطينيين

ترى سماح جبر، وهي طبيبة ورئيسة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية، أنه وسط تصاعد حالات تعذيب الفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، هناك حاجة ملحة إلى قيام المتخصصين في مجال الصحة بتوثيق مثل هذه الفظائع بشكل صحيح.