محاولة إنقلابية فاشلة على صلاح الدين

بقلم : عَلي محمد الصَّلاَّبي

كانت الدولة والمجتمع في مصر في ذلك الوقت في فترة التحول الكبرى في تاريخها من خلافة ” العبيدية” ونظم ومؤسسات ورجال حكموا البلاد قرنين من الزمان وأثّروا في كل جوانب مجتمعها إلى حكم جديد ودولة جديدة لها نظمها ومؤسساتها ورجالها والتي بدأت بإجراء *التغيير بالتدريج* ، وحاول صلاح الدين اكتساب عامة الناس إلى جانبه ونجح إلى درجة كبيرة، لكنّ بعض مفكري الدولة الفاطميّة، ورجالها وبعض الجماعات التي فقدت نفوذها وامتيازاتها ” *الدولة العميقة* ” ظلت على ولائها لما كانت تمثله الدّولة السابقة من أفكار وإمتيازات (1)، فعملت تلك القوى الموالية للفاطميين من جنود وأمراء وكتاب وموظفي دواوين، ومن عائلات الوزراء السابقين مثل بني رزيك وبني شاور، راحوا يخططون للقيام *بثورة مضادة* على حكم صلاح الدين وإعادة الدولة الفاطمية (2).

وقد وصفهم عماد الدين الأصفهاني بقوله : واجتمع جماعة من دعاة الدولة المتعصّبة المتشددة المتصلبة، وتوازروا وتزاوروا فيما بينهم خفية وخفية واعتقدوا أمنية عادت بالعقبى عليهم منيّة، وعيّنوا الخليفة والوزير، وأحكموا الرأي والتدبير، وبيتّوا أمرهم بليل، وستروا عليه بذيل (3).

ويبدو أن مؤامرتهم كانت في غاية التنظيم إذ عينوا خليفة ووزيراً ثم كاتبوا الفرنج *أعداء الأمة* أكثر من مرّة يدعونهم في إحداها إلى الهجوم على مصر، في وقت كان صلاح الدين غائباً في الكرك، والتفّ هؤلاء حول عمارة اليمني، الفقيه والأديب السنيّ المذهب الفاطمي الولاء الذي تولى مهمة المراسلة مع الفرنج، وظنّ المتآمرون أن سريتهم التامة ستقودهم إلى النجاح، ولكنهم لم يعلموا أن القاضي الفاضل عن طريق ديوان الإنشاء كان يراقبهم مراقبة تامة حتى تحين الفرصة المواتية لكشف سرهم، وتذكر المصادر في كشف مؤامراتهم قصتين تختلفان بعض الاختلاف في التفصيلات أولاهما أن أحد الكتاب في الديوان وهو عبد الصمد الكاتب، كان يلقى الفاضل بخضوع زائد، يخدمه ويتقرب إليه ويبالغ في التواضع إليه، فلقيه يوما، فلم يلتفت إليه فقال القاضي الفاضل : ما هذا إلا لسبب وخاف أن يكون قد صار له باطن مع صلاح الدين، فأحضر ابن نجا الواعظ وأخبره الحال، وطلب منه كشف الأمر، فلم يجد من جانب صلاح الدين شيئاً، فقصد الجانب الآخر، فكشف الحال إليه، فأرسله القاضي الفاضل إلى صلاح الدين وقال له: تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه، فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع وذكر الحال، عندئذ استدعاهم صلاح الدين وقرّرهم فأقروا بمؤامرتهم، فاعتقلهم ثم أمر بصلبهم (4) وتشير الرواية الثانية إلى أن المتآمرين أدخلوا الواعظ زين الدين بن نجا بينهم، فتظاهر بمساندته لهم في البداية ثم أعلم صلاح الدين بأمرهم، وطلب منه أن يعطيه ما لابن كامل من أملاك، فوافق وأمر بمخالطتهم وتعريف شأنهم، فصار يعلمه بما يجدّ من أمرهم، ثم وصل رسول من الفرنج إلى صلاح الدين بهدية ورسالة ظاهرية وبرسالة باطنية للمتآمرين، فوصل خبره إلى صلاح الدين (5).

وقد أشار القاضي الفاضل بنفسه إلى تفصيلات هذه المؤامرة في رسالة كتبها عن صلاح الدين إلى نور الدين بدمشق، وتنّم عن اطّلاعه الدقيق على المؤامرة، بل اشتراكه في إحباطها، فلعلّه هو الذي دسّ من أعلمه بتفصيلات المؤامرة، كما يشير في رسالته إلى عيون لديوان الإنشاء المصري من الفرنج، وأخرين بينهم على اتصال بالديوان (6) وجاء في الكتاب الذين كتب بقلم القاضي الفاضل من صلاح الدين إلى نور الدين بعدما تّم التحقيقات التي أجراها صلاح الدين، ويخص الكاتب بتركيز وشمول :

بدايات المؤامرة وتطوراتها، وكيفيّة كشفها، وصلب رؤوس المتآمرين أمام بيوتهم (7) :

1- أن صلاح الدين كان لا يزال، بعد قضائه على الخلافة الفاطمية يعتبر “جند مصر .. وأهل القصر” الفاطمي أعداء لدولته ” *جيش الدولة العميقة* ” وضد وجوده ويتوقع منهم القيام بعمل ضِدّه ” *بثورة المضادة* ” ولذلك فقد كان متحرزاً منهم، ووضع عليهم من عيونه ورجاله الموثوقين من يراقبهم باستمرار ومع ذلك فقد استمر عملهم سرياً بمختلف الوسائل التي كانت متاحة لهم.

2- وأنهم كانوا، من إعلان الخطبة العبّاسية وحتى القبض عليهم لا يمر عليهم شهر ولا سنة إلا وهم يُدَبَّرون المكائد ” *الفوضى والدعاية السوداء* ” ويعقدون الاجتماعات ويبعثون الرُّسل إلى الصليبيين لموافقتهم على ما يريدون “وكان أكثر ما يتعللون به، ويستريحون إليه، المكاتبات المتواترة والمراسلات المتقاطرة إلى الفرنج يوسعون لهم فيها سُبُل المطامع .. ويزينون لهم الإقدام والقدوم (8). لكن الفرنج لم يستجيبوا بداية لخوفهم من صلاح الدين، وفي ذات الوقت يؤمَّلونهم بالمساعدة في الوقت المناسب.

3- ووصل الأمر إلى أنهّم كاتبوا ملك الصليبيين عندما قام صلاح الدين بحملته الثانية على بلاد الكرك والشوبك في قسم كبير من قّواته يطلبون منه القيام بالدور المتفق عليه وقالوا في كتبهم: إنه بعيد، والفرصة قد أمكنت، فإذا تقدم عم

وري بقواته إلى صَوْر أو أيلة، فإنه سيقطع الطريق على صلاح الدين ويمنعه من العودة وعند ذلك تثور في القاهرة “حاشية القصر، وكافة الجند الفاطمي السابق في مصر” وطائفة السودان، وجموع الأرمن، وعامّة الإسماعيلية، وتفتك بأهل صلاح الدين ومعاوينه ورجال دولته العاصمة (9).

لكّن يقظة صلاح الدين والتكتيكات والمناورات التي قام بها أربكت عموري الذي كان يحاول جاهداً معرفة حركات صلاح الدين في النقب جنوبي الأردن، وجمدته عند مياه الكرمل في جبال الخليل لخوفه من أن يستغل صلاح الدين فرصة حركة الملك الخاطئة، فيتوجه إلى المناطق غربي نهر الأردن والبحر الميت.

4- ولم يبأس المتآمرون : فعندما وصل المدعو جِرْج (جورج أو جورجيوس)، كاتب الملك عموري، إلى القاهرة في مراسلة إلى صلاح الدين (ويبدو أن الرسائل كانت متصلة في أوقات السليم، اتصلوا به، وأرسلوا معه كتاباً إلى الملك عموري : أنّ العساكر متباعدة في نواحي إقطاعاتهم، وعلى قرب من موسم غلاّتهم، وأنه لم يبق في القاهرة إلا بعضهم، وإذا بعثت أسطولاً إلى بعض الثغور، أنهض فلانا من عنده، وبقي صلاح الدين في البلد وحده ففعلنا ما تقدم ذكره في الثورة (10). وهذا دليل آخر على محاولة استغلالهم لكل الظروف المناسبة، ذلك أن وقت جمع الغلات من الحقول هو الوقت الذي يذهب فيه الأمراء المقطعين وأجنادهم إلى إقطاعاتهم لأخذ حصتهم من الناتج وتوزيعه، وهذه كانت حالة عادية معروفة في تاريخ المنطقة في العصور الوسطى (11).

5- أن الملك عموري كان كلما أراد التعرف على الأوضاع في مصر والاتصال بالمتآمرين والتفاوض معهم، كان يبعث بـ “جِرْج” رسولاً إلى صلاح الدين : ظاهراً إلينا، وباطنا إليهم، عارضاً علينا الجميل الذي ما قبلته قط أنفسنا، وعاقداً معهم القبيح الذي يشتمل عليه علمنا، ولأهل القصر والمصريين “الجند” في أثناء هذه المُدَد رسُل تتردد، وكتب إلى الفرنج تتجدد (12).

6- كانت سياسة صلاح الدين أثناء هذه الفترة إذا شك أعوانه بأحد من الجماعات المذكورة وقام باعتقاله ولم يتمكنوا من إثبات التهمة ضده، أطلق سراحهم، وخَلىّ سبيلهم فلا يزيدهم العفو إلا ضراوة، ولا الرقة عليهم إلا قساوة (13).

7- واتصل المتآمرون في ذات الوقت “بشيخ الجبل” سنان (14)، زعيم الإسماعيلية النزارية ” *المرتزقة المأجورين* ” في بلاد الشام، طالبين مساعدته محتجين : بأن الدعوة واحدة، والكلمة جامعة، وأنّ ما بين أهلها وخلاف إلا فيما يفترق به كلمه ولا يجب به قعود عن نُصرة (15). وطلبوا منه بصورة خاصة اغتيال “الملوك” كما كانت عادتهم أو نصب المكائد لهم وكان الرسول إليهم خال ابن قرجلة (16)، أحد رجال الدولة الفاطمية السابقين، ويبدو أن الاثنين كانوا عند صاحب الجبل عند اكتشاف المؤامرة فالتجأوا إلى الصليبيين (17).

8- ولا نعرف إذا كان المتآمرون اتصلوا بملك صقليّة لإرسال الأسطول مباشرة أم عن طريق ملك الصليبيين، لكنّ الأسطول قدم بعدم فشل المؤامرة، إلى الإسكندرية، وكان مكوناً من 200 سفينة ويحمل أعداداً كبيرة من الخيالة والرجالة، فمُّني بخسائر كبيرة خاصة وأن الملك عموري لم يتقدم في البَّر كما كان الاتفاق بسبب القضاء على المتآمرين بحزم (18).

9- وفي المرّة الأخيرة التي قدم فيها “جِرْج” برسالة إلى ديوان صلاح الدين وصل كتاب إلى الديوان “ممن لا نرتاب به من قومه “الصليبيون” يذكرون أنه رسول مخاتلة “خداع” لا رسول مجاملة” فاتخذ رجال صلاح الدين الاحتياطات المناسبة لمراقبته دون أن يشعر، ولم يظهروا له أي شكٍ فيه وقام “جرج” بالاتصال بجماعة القصر الفاطمي، ومدبري المؤامرة، وأمراء الجند الفاطمي السابقين، وجماعة من النصارى واليهود عند ذلك توصل رجال دولة صلاح الدين إلى إدخال أحد العيون إليهم من جماعتهم ” فَدَسْنا إليهم من طائفتهم من داخلهم (19)، فصار ينقل إلينا أخبارهم ويرفع إلينا أحوالهم (20).

10- وبدأت تنتشر الإشاعات والأقاويل ” *الحرب الإعلامية* ” بين الناس حول المؤامرة، وخاف رجال دولة صلاح الدين من انكشاف الأمر وهرب رؤساء الفتنة، فقرروا اعتقالهم، ثم أحضروا واحداً واحداً أمام صلاح الدين : وقَرَّرَهم على هذه الحالة فأقروا واعترفوا واعتذروا بكونهم قُطعِت أرزاقهم وأخذت أموالهم (21).

11- تبين من التحقيقات والإقرارات أنهم عَينّوا خليفة ووزيراً، وأنه وقع خلاف بينهم حول الخليفة وحول الوزير (آل رُزّيك أو آل شاور).

12- استفتى صلاح الدين العلماء في أمرهم، فأفتوا بقتلهم، وعندما تردد صلاح الدين في التنفيذ، طالب، أهل الفتوى وأهل المشورة بالإسراع في التنفيذ، فصَدَر الأمر بقتلهم وصلبهم : وشنقوا على أبواب قصورهم، وصلبوا على الجذوع المواجهة لدورهم (22). وكان المشهورن الذين شنقوا : الشاعر عمارة بن علي اليمني، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة ابن عبد القوي. وقد حاول القاضي الفاضل صادقاً الشفاعة لدى صلاح الدين في عمارة، على الرغم من العداوة القديمة بينهما، إلا أن عمارة اعتقد أنها خدعة فرفض

قبولها، فتم صلبه مثل غيره (23).

13- وأما أهل القصر فقد اعتقلوا بداية، ثُم نُقلوا إلى أماكن مختلفة وأعطى القصر إلى أخيه العادل، ذلك أن صلاح الدين رأى : فإنهم مهما بقوا فيه بقيت مادة لا تنحسم الأطماع عنها، فإنه “القصر” حبالة للضلال منصوب، وبيعة “مقامٌ ” للبدع محجوبة (24).

14- وشُرَّدت طائفة الإسماعيلية من بلاد مصر ونُفُوا أما البقية فقد أعلن في القاهرة : بأن يرحل كافة الأجناد وحاشية القصر وراجل السُّودان إلى أقصى بلاد الصعيد (25).

15- وكشفت التحريات والبحث في هذه القضيّة عن وجود داعية يُسَمىّ “قُديد القفاص” في الإسكندرية، التي كان غالبية أهلها من أهل السنة، وأن دعوته انتشرت في بلاد الشام ومصر، وأن أرباب المعايش “الحرف والصناعات” في ثغر الإسكندرية يحملون إليه جزءاً من كسبهم، والنسوان يبعثن إليه شطراً وافياً من أموالهن (26). كما وجُد لديه كتب ورقاع تدل على الكفر الصريح (27).

وهكذا فقد تمكن صلاح الدين بفضل الله ثم بصبره وقيادته الحازمة من القضاء على هذه المؤامرة الفتنة التي دفعته أخيراً إلى اتخاذ القرار الحاسم بالنسبة لكل بقايا الدولة الفاطمية من بيت الخلافة، وكبار رجالها، والحاشية، والجند والسودان (28).

📕كتاب : صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس

شاهد أيضاً

عبد المجيد الزنداني.. حياة حافلة بالعلم والعمل والجهاد

ودع اليمنيون والأمة العربية والإسلامية يوم الإثنين 13 من شوال 1445 للهجرة، الموافق 22 أبريل 2024م علما من أعلام هذه الأمة، وكوكبا من كواكبها، وهاديا من هداتها، ورائدا من روادها، هو الشيخ عبد المجيد بن عزيز الزنداني، العالم العامل، والمجاهد والمربي، والقدوة المعلم، القرآني المحمدي الرباني، صاحب العطاءات الدعوية، والإمدادات التربوية، والجهود التعليمية، والأطوار الجهادية،