مارادونا و مرضنا

بقلم الشيخ سفيان ابو زيد 

كلما حدث حدث، أو ذاع خبر، أو ألمّ مصاب خاصة في عالمنا العربي والإسلامي..إلا وتبعته تداعيات وتحليلات ونقاشات وحوارات وتعليقات، تخص ذلك الحدث، وكل يتناول ذلك الحدث من جانب، ومن جهة ومن صورة وبلغة، ووفق وجهة نظر، إلا أنه يمكن أن نحدد من خلال كل ذلك المستوى الفكري ودرجة الوعي ومدى انتظام واستقامة سلم الأولويات، وأين وصل الرصيد القيمي والأخلاقي، ومدى صحة بعض المفاهيم والتصورات الدينية والاجتماعية وغيرها..

فإذا تناولنا حدثا كوفاة الأسطورة الكروية (مارادونا) فقد ثارت خلافات:
حول جواز الترحم عليه أو عدم ذلك؟
حول الدعاء له بالجنة؟
حول كونه نصرانيا؟
حول حبه او بغضه؟
حول التأثر لوفاته او عدم التأثر؟
حول كونه كان ثائرا مناصرا لقضايا الشعوب وخاصة القضية الفلسطينية؟
حول كونه كان مدمنا او متاجرا للمخدرات ؟
حول هذا الاهتمام العالمي لوفاته ولنجوميته؟
وغير هذا كثيرا…

وكل هذه النقاشات تنبئ عن مستوى من التخلف وخلط للمفاهيم تعيشه عقولنا، فنخلط الحب العقدي بالحب الفطري، والإنسانية بالإسلامية، والعبودية بالقضائية، والكرة بالسياسة ، والنجومية بالقيم والأخلاق، والحياة العلنية بالحياة الشخصية، ونظرتنا بنظرة غيرنا..وهكذا… خلط في خلط في خلط وهذا غيض من فيض ذلك الخلط، فتضيع الأوقات والطاقات في نقاشات عقيمة، سرعان ما تتلاشى وتهدأ بتلاشي ذلك الحدث، لتظهر مرة أخرى مع حدث آخر، دون أن نناقش مكمن الخلل، ومناط الداء وسبب الاختلال، الذي تتوازن به النجومية وتعتدل به النظرة وتتمنطق به الحوارات والتحليلات..

فالخلط بين الإنسانية والإسلامية: يظهر من خلاله أن مارادونا إنسان قضى مدة حياته التي كتبها الله له كغيره من البشر فيها الحسن والسيئ العلني والسري، فهو الآن عند ربه، يفعل به ما شاء إن شاء رحمه وإن شاء عذبه، لا ملزم لاحتمال من الاحتمالات، فهو سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، أما كونه مات على غير ملة الإسلام، وأن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، هذا مرجح وليس ملزما لله تعالى، وهذا الحكم ينبغي أن يهتم به العبد في خاصة نفسه، وأن يحرص على أن يموت على الإسلام وأن يمد يد النجاة لغيره دون تكبر ولا تعال، وليس أن يأخذ هذا الحكم سيفا يلوح به على الرؤوس، ويقضي به بين الأموات، هذا في النار والآخر في الجنة..

الخلط بين العبودية والقضائية: لا ينبغي أن ينصرف من أذهاننا أننا عبيد، وليس لدينا صك غفران ولا تكليف أو تخويل، بإدخال هذا الجنة والآخر النار، فنحن عبيد وإن كنا على أتقى قلب، وخواتمنا ومآلنا بيده سبحانه، فالقرار عنده، والحكم عنده، لم يخول لأحد هذا لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل.. لا شك بأنه كلما تقربنا لله تعالى طاعة وخلقا وإيمانا، إلا وقربنا منه مكانا ومنزلا وثوابا، ولكن كل ذلك في إطار العبودية والسواسية والعدل..
فالإسلام لم يأت لنكون قضاة حكاما على الناس، وإنما جاء لنكون قدوات وشهودا على صلاحيته ومصداقيته (لتكونوا شهداء على الناس) فالقضائية ينبغي أن تكون فيما خوله الشرع من مخالفات وجرائم ومحظورات في الدنيا، أما هناك فالقاضي نفسه ينزل من منصة الحكم والقضاء ويكون ضمن المحاسبين ( لمن الملك اليوم لله الواحد القهار )

الخلط بين التخصص والشمول والتعميم: وهذا ما تناولته في مقالات سابقة في أن كل من سطع نجمه، يصبح صالحا لكل شيء يسأل عن السياسة والاقتصاد والدين وكل شيء ويعطى لتصريحاته اهتمام إعلامي، فكرة القدم رياضة كغيرها من الرياضات، تبدا هواية وتنتهي احترافا، قد تحتاج إلى بعض الدراسة والتعلم، ولكن بشكل خفيف طفيف، من ظهرت موهبته فيها ووجد من ياخذ بيده علت كرته وذاع صيته، ورسخت مهارته الكروية، دون غيرها من التخصصات والمهارات التي قد يكون جاهلا بها، بعيدا عنها فكيف يؤخذ بقوله فيما يجهل، وفاقد الشيء لا يعطيه..

والخلط بين النجومية والقيم: فالشهرة ليست مزية دائما وليست شاملة دائما، فهي محايدة، حسب مضمون الشهرة، وما اشتهر به المشهور، فقد تكون الشهرة بالشر والسوء وما أسهلها، وقد تكون الشهرة بالخير والنفع والصلاح والإصلاح، وكم من رافض للشهرة وهو مشهور وكم من باحث عن الشهرة ولم ينلها، وكم من مستحق للشهرة ولم تقصده، وهكذا..
والشهرة ليست شاملة دائما، فمن اشتهر في ميدان ينبغي أن نقصر شهرته في ذلك الميدان، وأن نستفيد منه إن كان ما اشتهر به مما يستفاد منه، في مجاله، وأن يكون قدوة في ميدانه، وألا نوسع دائرة ذلك الاقتداء في مجالات اخرى وميادين أخرى قد تتصادم ما قيمنا وديننا وأخلاقنا..
وفي المقابل لا ينبغي أن نحكم على تفوقه في مجاله انطلاقا من فشله في ميادين أخرى، كأن نقول عن طبيبي نصراني مبدع مشهور: ذلك ليس بطبيب لأنه نصراني أو ليس بمسلم..

والخلط بين الحياة العلنية والحياة الشخصية: والمقصود بالحياة العلنية الجزء من حياته التي شاركها مع جمهوره، أو المجال الذي ابدع فيه وتخصص، فهذا هو الجانب الذي ينبغي الاهتمام به والانصراف إليه والحرص عليه، دون غيره من حياته التي لم يبرزها ولم يشارك غيره فيها صالحها وطالحها، فيبقى البحث والتفتيش عن ذلك نوعا من التجسس والتشويه ونوعا من النوايا السيئة والخسيسة والحاقدة..
والمسؤول التوازن بين الحياة العلنية والشخصية هو الشخص نفسه في إطار العبودية التي سبق أن تحدثنا عنها..

وفي حدث كوفاة مارادونا والذي اهتم به العالم بأسره، ما ينبغي أن نناقشه جميعا نحن البشر، وهو معايير النجومية، وقد سبق أن تناولت مقالا بخصوص معايير النجومية في القرآن الكريم..
لسنا ضد أي إبداع أو مهارة أو فن أو نجومية، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه؟
هل هناك عدل وسواسية في الاهتمام بمجالات الإبداع والمهارة، ام هناك حيف متعمد؟
هل هناك توجيه مباشر وغير مباشر للاهتمام بمهارات دون غيرها؟
هل ميادين وإمكانات الكشف عن المبدعين متاحة في جميع المجالات وبنفس السخاء والزخم؟
هل هناك مقياس للنجومية؟
ما علاقة النجومية بالقيم والأخلاق والصالح العام؟
ما عواقب ومآلات الاهتمام بمهارات دون غيرها على البشرية حاضرا ومستقبلا؟
ما سلم المهارات الذي يمكن أن نرتب به الأهم فالأهم؟
هل هناك أيدي تسوق للتفاهة وتنشرها وتذيعها وتتلاعب بعقول الأجيال وأحلامهم وطموحاتهم؟

هذا ما ينبغي أن نناقشه، في ضوء حدث وفاة الأسطورة الكروية مارادونا..

فمارادونا ابن هذا العالم، وابن هذا الواقع الذي يعيشه العالم، تيسرت له الظروف، وجاء في حمأة الاهتمام بكرة القدم، فذاع صيته وعظمت شهرته، واستفاد من تلك الشهرة ماديا ومعنويا، حتى صار محط اهتمام الجميع..
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا قدم مارادونا للبشرية؟ وما الإضافة النوعية التي أضافها؟ من خلال مهارته الكروية..
هل في العالم ممن عاصره او قارنه من هو أحق منه بهذا الاهتمام والسعي إلى الإظهار والإبراز، هل كان من أقرانه نوابغ في مجالات أخرى؟ هل حضوا بنفس الاهتمام؟ وهل وصلوا إلى ما وصل إليه مارادونا؟

هذه تساؤلات تبقى عالقة باحثة عن إجابة مقنعة وموضوعية، وجادة وجريئة، وملحة لإعادة النظر في سلم النجومية ومعاييرها، وتوزين الكفة في الاهتمام والاحتفاء والبحث عن النوابغ، وإلا فإن سيل هذه النجومية التي نعيشها، ويراد ترسيخها، فإنه سيجرف طموحات أجيالنا، ويحيق بمسار دراستهم وقيمهم وأخلاقهم، وسيخنق طول نفسهم في تسلقهم إلى معالي النجومية الحقيقة والنافعة، وقد بدأنا نشعر بخطر وزلزلة ذلك الجرف والإرجاف والتجريف..

ولو كان لتلك النجومية توازن واعتدال واهتمام واحتفاء حسب اهميتها ونفعها للصالح العام، وحسب الجهد المبذول في الوصول إليها، لكانت نجومية كرة القدم في مراتب متأخرة من الاهتمام، ولكانت أساطير الفكر والعلم والابتكار أضعاف مضاعفة، من أساطير الكرة أو غيرها من المجالات التي اعطيت اكثر مما تستحق في زمن انقلاب الأولويات والمفاهيم..

فوفاة مارادونا جاءت لتذكرنا مرضنا على الصعيد العالمي وخاصة على الصعيد العربي والإسلامي..

 

شاهد أيضاً

غزة تنزف….

غزة اليوم هي عضو الأمة الأشدّ نزيفا من بين كثير من الأعضاء التي لا تزال تنزف من جسد المسلمين، ومخايل الخطر تلوح في الأفق على المسجد الأقصى، الذي يخطط المجرمون لهدمه، أو تغيير هويته وتدنيسه، ولا يمنعهم من ذلك إلا الخوف من بقايا الوعي والإيمان في هذه الأمة أن تُسبب لهم ما ليس في الحسبان.