مؤرخة بريطانية: تصميم كاتدرائية نوتردام مستوحى من تراث سوريا

في قلب باريس، وبينما كانت كاتدرائية نوتردام تستعد لاستقبال زوارها في “الجمعة العظيمة”، اجتاحت النيران الاثنين الماضي البناية التاريخية التي تعود لما يقرب من ثمانية قرون وتمثل ذروة فن العمارة القوطية منذ العصور الوسطى.

واعتبرت الكاتدرائية المحترقة طوال قرون أيقونة معمارية لا يمكن تكرارها وطرازا فريدا من نوعه، لكن المؤرخة والكاتبة البريطانية ديانا دارك كان لها رأي آخر، إذ ترى أن التصميم استوحى معمار وتصميم كاتدرائية نوتردام من كنيسة أثرية قديمة تقع بقاياها في إدلب بشمال شرق سوريا، كما أن كثيرا من معالم المعمار القوطي تعود لأصول إسلامية وتأثيرات عربية واضحة بحسب باحثين آخرين.

وترى دارك مؤلفة كتاب “بيتي في دمشق” والباحثة في التراث السوري أن معمار نوتردام وبرجيها التوأمين المحيطين بمدخلها المتقن، ونوافذها الوردية وحتى برجها العمودي الذي احترق، مدينةٌ بتصميمها إلى أسلاف معمارية قديمة في الشرق الأوسط.

هل تعد “قلب لوزة” سلف نوتردام؟
اعتبرت دارك أن تصميم البرجين التوأمين في الكاتدرائية يشبه كنيسة “قلب لوزة” القديمة الواقعة في القرية التي تحمل اسمها في جبل باريشا، شمال غرب إدلب، ويعتقد أنها بنيت في زمن الناسك السرياني القديس سمعان العمودي، الذي ابتكر طريقة التنسك على عمود حجري.

وتنقسم “قلب لوزة” إلى ثلاثة أقسام مع صحن مركزي، وتبدو أصداء الثالوث في كل مكان في التصميم فالممرات ثلاثة، وتوجد ثلاثة أعمدة على جانبي الصحن، وهناك ثلاث نوافذ للواجهة، وثلاثة أقواس تفصل صحن الكنيسة عن الممرات الجانبية.

وبنيت الكنيسة بالحجر الجيري المحلي في منتصف القرن الخامس الميلادي، واعتبرت أحد أفضل الأمثلة التي تم الحفاظ عليها في الهندسة المعمارية للكنائس السورية ذات نمط “البازليك”، وهي عبارة عن كاتدرائية عريضة الأضلاع ومتناسبة بشكل رائع، بحسب دارك.

وجرى تضمين الكنيسة السورية القديمة في أحد مواقع التراث العالمي التابعة لليونسكو، فيما اعتبرته دارك اعترافا متأخرا بقيمتها التراثية ضمن الموقع الخاص “بالمدن المنسية” أو القرى القديمة في شمال سوريا ويرجع تاريخها إلى القرون الميلادية الأولى.

ورغم أن احتلال الفرنجة (الفرنسيين) للمنطقة أدى لتدهور “المدن المنسية” وقراها وهاجر كثير من سكان المنطقة للسهول الداخلية، بينما تحولت بعض مبانيها وكنائسها لحصون حربية، تقول دارك إن الصليبيين الفرنجة رأوا هذه التصميمات الكنسية في القرن الثاني عشر، واستلهموا أفكارها المعمارية وجلبوا التصميم معهم إلى أوروبا حيث تم تطويرها أكثر.

القوس القوطي أم العربي؟
وتضيف دارك أن ما يسمى اليوم “القوس القوطي” لدى المعماريين مثل السائد في نوتردام وفي جميع الكاتدرائيات العظيمة في أوروبا، كان تصميما معماريا شوهد لأول مرة في مسجد ابن طولون في القاهرة وجرى تمريره لاحقا عبر تجار أمالفي الإيطالية إلى صقلية، وأتاحت الهندسة المعمارية القوطية للمباني أن تكون أخف وزنا وأن ترتفع لحدود عالية.

فمن خلال معرفتهم المتقدمة بالهندسة وقوانين الرياضيات، طوّر المسلمون كلا من حدوة الحصان -التي شوهدت لأول مرة في الجامع الأموي بدمشق ثم طورها الأمويون في الأندلس في المسجد الكبير بقرطبة- والقوس المدبب لإعطاء مزيد من الارتفاع عن القوس الكلاسيكي بحسب دارك.

كاتدرائية نوتردام ظلت طوال قرون أيقونة معمارية وقبلة سياحية عالمية (الأناضول)

وكان أول مبنى يستخدم القوس المدبب في أوروبا هو دير مونتي كاسينو عام 1071، بتمويل من تجار أمالفي الإيطاليين. ثم انتقل شمالا إلى كنيسة كلوني التي تضم 150 قوسا مدببا في ممراتها.

وانتشر التصميم لاحقا استنادا لهذه الكنائس، وهما اثنتان من الكنائس الأكثر نفوذا في أوروبا، حيث كان هذا القوس “القوطي” المدبب أقوى من القوس المدور الذي استخدمه الرومان والنورمان، مما سمح ببناءٍ أكبر وأطول وأجمل وأكثر تعقيدا، مثل الكاتدرائيات الكبرى في أوروبا.

وربما لم تتقن أي ثقافة تصميم واستخدام القوس أكثر من المسلمين، فمن خلال وراثة أشكال القوس السابقة من الإغريق والرومان، طور المسلمون مجموعة متنوعة من الأشكال الجديدة بما في ذلك حدوة الحصان، والرقائق المتعددة، والأقواس المدببة.

ويعود الشغف الذي أبداه المسلمون لهذه الفكرة التصميمية إلى المعاني الروحية والرمزية المرتبطة بها، بالإضافة إلى مزاياها الوظيفية بالطبع.

وأصبحت الأقواس الإسلامية بهندستها المعمارية مستخدمة باعتبارها ميزة هيكلية وزخرفية كبيرة تجمع بين الجمال والوظيفية، وسرعان ما انتشر القوس في جميع الثقافات ليصبح تدريجيا سمة معمارية عالمية، بحسب الأكاديمي بمؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة (FSTC) بمانشستر رباح سعود.

وبخلاف الأقواس المعمارية هناك مقتطفات أخرى من التصاميم الإسلامية يمكن العثور عليها أيضا في نوتردام بحسب دارك، وتشمل فكرة القبو المضلع الذي يرجع تاريخه إلى العصر العباسي في القرن الثامن بالعراق، والنوافذ الوردية التي شوهدت لأول مرة في قصر هشام الأموي المسمى “خربة المفجر” من القرن الثامن الميلادي في الضفة الغربية بالقرب من أريحا.

واستلهم الأوربيون أيضا في نوتردام برج “المستدقة” ذات الـ750 طنا التي انهارت بعد احتراق الهيكل الخشبي الداخلي الواقع أسفلها أثناء حريق نوتردام، ويعود أول برج مستدق معروف إلى الجامع الأموي بدمشق الذي بني في أوائل القرن الثامن.

الأصول الإسلامية للعمارة القوطية
وفي إنجلترا بني أول برج مستدق على قمة كاتدرائية القديس بولس عام 1221 وتعرض للدمار في حريق لندن الكبير ثم أعيد بناؤه في عام 1710 على يد المعماري الإنجليزي كريستوفر رن الذي كان من كبار المعجبين بالعمارة الإسلامية.

وأجرى رن دراسة مقارنة واسعة على الأنماط المعمارية القوطية والمغاربية والعثمانية، وأعرب فيها عن تقديره لجمال الهندسة المعمارية في المساجد العثمانية والمغربية التي درسها بدقة من خلال خبرته وموهبته.

واكتشف رن بصمات وآثار العمارة الإسلامية في العمارة الغربية (التي أصبح يشار إليها باسم القوطية)، وبعد تحقيق عميق في مختلف العناصر الهيكلية والزخرفية لهذا الفن، أصبح رن مقتنعا بالجذور الإسلامية للعمارة القوطية، بحسب مؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة (FSTC).

واعتقد أن كلا من الحقائق التاريخية والخصائص المادية لهذا النمط، تشير إلى أصل مسلم مؤسسا ما يسمى “نظرية ساراسيني”.

ورأى رن أن المسلمين بنوا مساجدهم بأقواس مستديرة لأنهم يكرهون الشكل المسيحي المستوحى من الصليب، مؤكدا أنهم كانوا شغوفين بالفنون والتعلم، وهو ما افتقده القوط الذين كانوا مدمرين أكثر منهم بنائين، بحسب شرحه لنظريته الساراسينية (العربية الإسلامية).

واعتبر رن أن المسلمين بنوا مبانيهم بالحجارة الصغيرة، وصنعوا أعمدتهم الخاصة التي تتكون من العديد من القطع، وشيدوا أقواسهم المدببة من دون أحجار مرصوصة.

شاهد أيضاً

أم على قلوب أقفالها؟

القرآن الكريم كلام الله تعالى، وهو أفضل وأعظم ما تعبد به وبذلت فيه الأوقات والأعمار، إنه كتاب هداية وسعادة وحياة وشفاء وبركة ونور وبرهان وفرقان،