لهذا ستعود الجزيرة العربية «مروجًا وأنهارًا» كما كانت

بقلم : المعز صلاح – مدون سوداني

روى الإمام مسلم في صحيحه أن النبي، صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا».

المستوى الدلالي:

يتناول الحديث المذكور في الأعلى بُعدَين:

الأول: يتعلق بالماضي، وهو أن الجزيرة العربية كانت تغطيها الزروع، وتكسوها المروج، وتجري خلالها الأنهار، وتتميز بالمناخ المطير، والموارد المائية العذبة.

الثاني: يتعلق بالمستقبل، ومفاده بأنه لو لم يبق لقيام الساعة إلا برهة من الزمن لكان لزامًا أن يعاد تشكيل النظام البيئي، وتعود أرض العرب وارفة الظلال وتجري في ربوعها الأنهار كما كانت، حتى «تعود».

يفصح هذا الحديث عن حقيقتين علميتين، وهي ظاهرة تبدل المناخ العالمي، والذي يحدث عبر آلاف السنين وببطء لا تنفع معه الملاحظة المباشرة، بل عبر الشواهد الأحفورية (النباتية والحيوانية)، ونوع التربة، وأنظمة التصريف السائدة وقتها، والحقيقة الثانية هي الدورات الجيولوجية المتعاقبة التي لم يتمكن العلماء من تفهم آلية حدوثها إلا بعد ظهور علم الجيولوجيا في القرن السادس عشر، إبان ازدهار عصر النهضة.

الحقيقة العلمية:

في منتصف القرن العشرين بدأ العلماء يدرسون ما يسمونه دورة الطقس، أو دورة المناخ، ووجدوا أن هنالك دورات يمر بها طقس الأرض، ووجدت كذلك شواهد على مرور الأرض دوريًّا بعدد من العصور الجليدية، فقد توصل المختصون مثلًا إلى أن قارة أوروبا كانت مغطاة بطبقات من الجليد يبلغ سمكها مئات الأمتار منذ أكثر من عشرة آلاف سنة، وقد وجدت شواهد كثيرة على أن الحزام الذي يشمل الصحراء العربية كان بالفعل يومًا ما غنيًّا بالمطر والمروج الخضراء، وأيد المسح بالأقمار الصناعية لمنطقة الربع الخالي هذا النبأ العجيب الذي مفاده ما يلي: قال الدكتور ماكلور McClure في أطروحته للدكتوراه عام 1984 في لندن: «إن منطقة الربع الخالي تشكلت قبل حوالي مليوني سنة، ولكن هذه الصحراء لا تبقى على حالها، بل تتبع نظامًا جيولوجيًّا مدهشًا. حيث نلاحظ أن الأنهار والغابات تغطي هذه المنطقة كل فترة من الزمن»، وقال: «قبل 37 ألف، وحتى 17 ألف سنة كانت مغطاة بالمروج والأنهار العذبة، ثم بعد ذلك حدث تغير في المناخ، وتشكلت الصحراء من جديد، وبعد ذلك أي قبل حوالي 10 آلاف إلى 5 آلاف سنة عادت وغُطيت بالمروج والغابات والبحيرات والأنهار، وهكذا وفق دورة عجيبة! وقد عثرنا في منطقة الربع الخالي على أسنان لفرس النهر، وكانت بحالة جيدة، وعثرنا على آثار لمخلوقات نهرية عديدة، وحيوانات مثل الجمال والخراف والغزلان كانت ترعى ذات يوم».

وتساءل قائلًا: «هل يمكن للأمطار أن تعود بغزارة إلى منطقة الربع الخالي فتعود البحيرات والمروج والأنهار من جديد؟»، وهو كمتخصص يرجح أن تعود الأمطار وتعود البحيرات والمروج إلى هذه المنطقة في وقت ما في المستقبل.

ووجد الدكتور فاروق الباز، مدير مركز الاستشعار عن بعد في جامعة بوسطن الأمريكية، أن نهرًا كان يمتد لمسافة طويلة قد دفنته رمال الصحراء في الربع الخالي، وهذا النهر كان موجودًا قبل 6 آلاف سنة، ويبلغ طوله 800 كيلو متر، وكان هذا النهر ينبع من جبال الحجاز ويمتد ويتفرع إلى دلتا تغطي أجزاءً كبيرة من الجزيرة حتى يصب في البحر.

وقد قال الدكتور رون بلوم من وكالة ناسا، إن أول مرة في التاريخ يعلم فيها الناس أن الجزيرة العربية كانت ذات يوم مغطاة بالأنهار كان في عام 1972، من خلال الصور الملتقطة بواسطة القمر الصناعي «لاندسات1 Landsat-1»، فقد مكنتنا هذه التقنية الحديثة من رؤية ما لم يره أحد من قبل، ثم التقطت في عام 1981 بعض الصور للمنطقة، والتي أكدت وجود آثار لمجاري أنهار في الصحراء، وفي عام 1994 تأكدت هذه الحقيقة أكثر.

الأدلة على كون الجزيرة العربية كانت مروجًا وأنهارًا:

1. كما سبق، فنتائج بيانات الاستشعار عن بعد بينت وجود مجرى نهر عملاق مطمور تحت التراب، ينبع من غرب الجزيرة، ويصب في الكويت.

2. كما أوضحت صور الأقمار الصناعية وجود قلعة «حصن الغراب» مطمورة، وبعد التنقيب عنها وجدوا في جدرانها نقوشًا وكتابات تدل على أن المنطقة كانت تجاور البحر وتنتشر فيها العيون، وتتخللها الأنهار، ويكثر فيها الزرع والضرع، وحالة الترف، ورغد العيش، وكان النشاط السكاني قائمًا على اصطياد الحيوانات البرية من الغابات، وتظهر أنماط العيش التي كانت سائدة حينها، والديانة التي كانوا يتبعونها، وهي ديانة نبي الله هود، عليه الصلاة والسلام.

3. وفي سجلات الأحافير بالمنطقة، تبين وجود هياكل لحيوانات ضخمة معروف أنها تعيش في الغابات، وتقتات على النباتات الخضراء التي لا تتوفر إلا في المساحات الخضراء الكثيفة.

4. وجود رواسب الفحم الحجري، وكذلك الاحتياطي الكبير من البترول، من أكبر الشواهد على كون المنطقة كانت غنية بالمستعمرات النباتية والحيوانية، المكون الأساسي للبترول والفحم النباتي والحيواني.

5. جُمعت عينات من التربة من أعماق بعيدة، وبعد غربلتها تبين وجود أنواع من بذور نباتات قديمة، وبعضها لا يمكن أن تنبت إلا في المروج وبيئات خاصة، وفي وفرة من الماء.

6. كشفت دراسات الآثار بمنطقة الربع الخالي عن وجود طريق للقوافل مدفون تحت الكثبان الرملية، وكشفت عن تقاطع هذه القوافل على مكمن مائي قديم. وأيضًا اكتشفت قلاع ثمانية الأضلاع، يصل ارتفاعها لعشرة أمتار، تضم غُرفًا للتخزين وأخرى للسكنى، سموها مدينة أوبار، بل وصفها مكتشفوها بأنها ليس لها مثيل في البلاد في براعة التصميم والهندسة.

الأدلة على كون الجزيرة العربية بدأت بالفعل بالعودة للمناخ القديم:

1. ما نشهده من تغير مدار الأرض حول الشمس كل بضعة آلاف من السنين.

2. أثناء دوران الأرض حول محورها يحدث ما يسمى بالرفة وهي تغير في زاوية الميل من 21 إلى 24 درجة كل 41 ألف سنة.

3. ما يعرف بدورة ترنح الأرض في الفضاء التي تحدث كل 23 ألف سنة.

كل هذه الدورات الفلكية تؤثر في تغير المناخ على كوكب الأرض، وتؤكد حقيقة التغير المناخي.

فالذي نلحظه من الارتفاع في درجة الحرارة، ومعدل ذوبان الجليد في القطبين، وتأثر مواسم المطر، وظاهرة الاحتباس الحراري التي يعيشها الكوكب، ومشكلة الأمطار الحمضية التي تؤرق الدول الصناعية والعالم، كلها مشاهدات تهيئ الجزيرة العربية والصحراء الكبرى من شرق أفريقيا حتى غربها لتدخل حزام المناطق المطيرة في القريب.

وجه الإعجاز:

بعد ما ذكرناه من حقائق عن تاريخ أرض الجزيرة العربية، وأن البحوث الجيولوجية الدقيقة أثبتت أنها كانت غنية بالجنات الوارفة، والأنهار الجارية، والزروع الخضراء، وكذلك البحوث المستفيضة في علوم الطقس والدورة المناخية، تحتمل أنها كانت وستعود لما كانت عليه.

كانت جزيرة العرب زمن النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، ذات بيئة صحراوية قاحلة ومجدبة، حيث يعاني أهلها أشد المعاناة في وفرة الماء، فضلًا عن الزراعة.

ومن العجيب أن النبي، عليه الصلاة والسلام، أخبر عن ماضي الجزيرة العربية وما ستؤول إليه، في حين أنه لم تتوفر أي شواهد حسية أو خبرية عبر موروثات الآباء أو قصص الكتابيين وقت هذا الإخبار، في القرن السابع الميلادي.

يمكن القول إن النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، قد لخص لنا حقيقتين علميتين بأوضح العبارات الإيجازية، وهما التبدل المناخي، والدورات الجيولوجية المتعاقبة، في كلمتين (حتى تعود)، وهو الذي أوتي جوامع الكلم، ما يفهم ضمنًا أنها كانت، مع العلم بأن علم الجيولوجيا لم يظهر إلا في القرن السادس عشر الميلادي؛ أي بعد ألف عام من البعثة المحمدية، ما يدل بشكل قاطع على أن المتكلم يخبرنا بوحي من عند الله، وليس من نفسه.

شاهد أيضاً

أم على قلوب أقفالها؟

القرآن الكريم كلام الله تعالى، وهو أفضل وأعظم ما تعبد به وبذلت فيه الأوقات والأعمار، إنه كتاب هداية وسعادة وحياة وشفاء وبركة ونور وبرهان وفرقان،