كيف تخطط الهند لاستغلال شواطئها في انتاج وقود نووي؟

تستحضر شواطئ الهند الدافئة صور النخيل والشمس المشرقة وأطباق السمك بالكاري، لكن تلك الشواطئ تحمل سرا آخر؛ فهي غنية بعنصر “الثوريوم” الذي طالما اعتبر بديلا، أقل تلوثا وأكثر أمنا، لأنواع الوقود النووي المعتادة.

وتضع الهند نصب أعينها منذ زمن استثمار ما لديها من مخزون الثوريوم الذي يقدر بما بين 300 ألف إلى 850 ألف طن، مما يعد غالبا المخزون الأضخم عالميا، ومع ذلك لم يشهد استغلال هذا الاحتياطي خطوات كبيرة.

ومع تجدد الاهتمام بمادة الثوريوم وتقنيات الاستفادة منه، عاد الاهتمام بهذا الحلم، إذ تمكن علماء هولنديون في العام الماضي من تشغيل أول مفاعل تجريبي جديد يعمل بالثوريوم، وهو ما لم يحدث منذ عقود، بينما تعمل شركات ناشئة على ترويج تقنيات الاستفادة من ذلك العنصر في الغرب، وقد خصصت الصين السنة الماضية مبلغ 3.3 مليارات دولار للإنفاق على تطوير مفاعلات يمكن أن تعمل بالثوريوم.

ويقول المتحمسون للفكرة إن الثوريوم قادر على توليد طاقة دون مخلفات كربونية، ودون مخلفات نووية خطيرة، فضلا عن تدني مخاطر تعرض مفاعلاته لحوادث إشعاعية، وصعوبة استخدامه في صناعة الأسلحة النووية مقارنة بغيره من العناصر النووية الأخرى.

ومع ذلك، هناك من العراقيل ما يحول دون الاستفادة منه على نطاق تجاري واسع، منها التقدم على صعيد الطاقة المتجددة وارتفاع كلفة استخدام العنصر وما يثيره المتشككون بشأن سلامة منشآته ومدى حفاظها على البيئة.

ويرجع تبني الهند للثوريوم لظروف تاريخية وجغرافية خاصة بها. ويعتقد علماء الهند باستراتيجية طويلة المدى للوصول إلى الاعتماد طاقة خالية من الكربون في بلد يتوقع أن يبلغ سكانه 1,7 مليار نسمة عام 2060.

ويقول سريكومار بانرجي، الذي كان مسؤولا عن إدارة الطاقة النووية الهندية حتى عام 2012: “الهند بلد متعطش للطاقة، ولا بديل أمامنا سوى الاعتماد على خامات محلية على المدى البعيد تلبي حاجات بلد سيضم خمس سكان العالم”

تضخ الهند مخصصات مالي ضخمة لخدمة برنامجها النووي، تشمل أربعة مفاعلات للماء الثقيل في كايغا بولاية كارنتاكا.

وفي الوقت الحالي، تعمل كافة المنشآت النووية التجارية باليورانيوم، ويرجع ذلك لاعتبارات جيوسياسية، فاستخدام الغرب للطاقة النووية جاء بالتزامن مع تطويره للقنبلة الذرية، فنواتج تخصيب اليورانيوم سهلة الاستخدام في تطوير تلك الأسلحة.

ويقول جيف باركس، المهندس النووي بجامعة كمبردج، إنه لولا ذلك لربما كان العالم قد اتجه لاستخدام الثوريوم في توليد الطاقة.

أما الهند فلها استراتيجية مختلفة نظرا لشح ما لديها من احتياطي اليورانيوم، مما جعل مؤسس برنامجها النووي، هومي بابا، لا يرى بديلا عن الثوريوم على المدى الطويل لتوافره لديها.

ونواة الثوريوم لا تنشطر تلقائيا، وبترك هذا العنصر لحاله فإنه يتدنى ببطء باعثا أشعة ألفا غير القادرة حتى على اختراق جلد الإنسان، ومن ثم لا خوف على رواد الشواطئ الهندية من وجود رمال مشعة.

ولكي يتم تحويله إلى وقود نووي يلزم خلطه بمادة انشطارية كالبلوتونيوم تطلق نيوترونات أثناء انشطارها تلتقطها ذرات الثوريوم لتتحول إلى نظير انشطاري لليورانيوم يطلق عليه “يو-233”. ونظير العنصر هو صورة أخرى للعنصر يختلف في عدد النيوترونات.

ويشبه راتان كومار سينها، الذي خلف بانرجي في رئاسة إدارة الطاقة النووية الهندية حتى عام 2015، مادة الثوريوم بالخشب الذي أصابه البلل، والذي لا يشعل نارا وهو حالته الرطبة حتى يوضع في فرن تجفيف، عندها يشتعل كوقود؛ وهكذا فالمرحلتان الأولى والثانية من استراتيجية الهند تهدف لتحويل احتياطي البلاد الضخم من الثوريوم إلى مادة انشطارية.

وفي البداية، ينتج البلوتونيوم عبر مفاعلات تقليدية تعمل باليورانيوم، ثم يتم تخصيب ناتج اليورانيوم من البلوتونيوم بالمزيد من اليورانيوم عبر “مفاعلات توليد” حتى يمكن استخدامه في تحويل الثوريوم إلى نظير اليورانيوم 233.

مازالت كارثة فوكوشيما تلقى بظلالها على أي منشأة نووية جديدة، ولكن الداعمين للثوريوم يؤكدون أن استخدامه سيجعل المحطات النووية أكثر أمنا

وفي المرحلة الأخيرة، يتم الجمع بين اليورانيوم 233 ومزيد من الثوريوم لبدء مفاعلات توليد حراري تواصل دورتها تلقائيا بالتزود بالثوريوم الخام.

لكن تحقيق هذا التصور الذي وضعه المهندس بابا لا يخلو من صعوبات، ليس أقلها أن الهند سارت منفردة، لأن الغرب كان يركز على اليورانيوم، ناهيك عن عزلتها بسبب برنامجها للأسلحة النووية ورفضها التوقيع على معاهدة حظر الانتشار النووي، مما حرمها لعقود من الاستفادة من التجارة الدولية في الوقود النووي والتقنيات النووية.

ويقول سينها إنه بات بمقدور الهند الآن السير بخطى أسرع بعد رفع العراقيل عقب توقيع الهند والولايات المتحدة على اتفاقية نووية للأغراض المدنية عام 2008. لكن منذ طورت الهند مفاعلات الماء الثقيل المضغوط التي تعمل باليورانيوم في السبعينيات لم تكتمل المرحلة الثانية؛ إذ لم يبلغ مفاعل التوليد التجريبي الذي بدأ تشغيله عام 1985 طاقته المفترضة بمقدار 40 ميغاوات.

ومن المخطط أن يبدأ هذا العام تشغيل مفاعل التوليد السريع بطاقة 500 ميغاوات – والذي سيكون نموذجا لمفاعلات أخرى مثيلة – ولكنه جاء متأخرا عن موعده الأصلي الذي كان مقررا عام 2010. أي أن الأمر باختصار لا يسير كما ينبغي.

كما سيتعين على الهند التأكد من خبرتها عمليا قبل توسيع المشروع، إذ يقول بانرجي إن توليد الوقود المطلوب سيستغرق وقتا يقدره بعشر سنوات لمضاعفة البلوتونيوم لبناء مفاعل آخر بينما يحتاج الثوريوم لأمد أطول.

وهذا هو السبب في أنه سيتم استخدام البلوتونيوم لبناء الشبكة المطلوبة قبل الاتجاه لتحويل الثوريوم إلى نظير اليورانيوم 233، والذي يمثل استخلاصه من الثوريوم المنضب صعوبة أخرى، لأن دائرة الوقود ستنتج بالإضافة إلى اليورانيوم 233 نظيرا آخر هو اليورانيوم 232 الذي يطلق أشعة جاما الخطيرة.

وقد نفذ الباحثون بمركز بابا للبحوث الذرية تلك العملية على سبيل التجريب، ولكن تنفيذها على نطاق واسع سيحتاج لمنشآت ذات حماية عالية من الإشعاع، ولاستخدام أجهزة روبوت لعدم تعريض العاملين للخطر.

وقد استكملت الهند تصميم مفاعلها الأول لوقود الثوريوم، وهو مفاعل متطور للماء الثقيل، ولكن لا يتوقع البدء في بنائه قريبا، إذ يؤكد سينها، بصفته المسؤول عن تصميمه، أنه ليس نموذجا للمرحلة الثالثة، ولا يزال يلزمه مواد انشطارية إضافية.

تضم شواطئ كيرالا جنوبي الهند نحو 16 في المئة من احتياطات البلاد من الثوريوم الذي يسعى العلماء لاستخدامه كوقود نووي

وفي نهاية المطاف، من المفترض أن تصل الهند إلى مفاعل توليد حراري دائم يعمل بنظير اليورانيوم 233 والثوريوم معا، ومن ثم يعاد تزويده بوقود الثوريوم الطبيعي.

ولم يستقر العلماء بعد على تصميم ذاك المفاعل وإن أجمعوا على أفضلية استخدام مزيج الملح المصهور كوقود ومبرد، باعتبار أن هذا التصميم يلقى دعما في الغرب والصين، بينما تجري الهند عليه أعمال بحث وتطوير.

وحتى المؤسسة النووية الهندية تقر بأنه ليس متوقعا أن تولد البلاد ما يكفي من الطاقة من الثوريوم قبل منتصف القرن الحالي، على الأقل.

ويقول إم في رامانا، الأستاذ بجامعة بريتيش كولومبيا الكندية، والذي ألف كتابا عن السياسة النووية للهند: “الثوريوم مثار حديث منذ سبعين عاما، وسوف يستمر الحديث عنه كأمر مستقبلي”.

ويضيف أن تكلفة توليد الطاقة بالوسائل النووية التقليدية باهظة، فماذا لو أضيفت إليها تكلفة تطوير مفاعلات الثوريوم وعمليات معالجة الوقود المعقدة؟

لكن أنصار الثوريوم يقولون إن فوائده تجب التكلفة، ومع ذلك يظل رامانا غير مقتنع، ويقول إنه حتى فائدة السلامة التي يتحدثون عنها باعتبار مفاعلات الثوريوم أقل عرضة للحوادث لا يمكن التكهن بها حتى تبدأ المفاعلات عملها بشكل كامل، مضيفا “حتى كارثة تشيرنوبل وفوكوشيما وغيرهما لم يتوقع أحد وقوعها”.

ويعني ناتج اليورانيوم 232 أن مخلفات الثوريوم ستكون أشد خطورة على المدى القصير، لكن ناتجه من النظائر سيكون أكثر أمنا على المدى الأطول نظرا لانخفاض إشعاعها، مما يعني سهولة التعامل معها وتخزينها.

لكن المهندس النووي بجامعة كمبردج، جيف باركس، يضيف أن تلك المنافع هامشية لأن العالم لم يجد بعد سبيلا مقنعا للتعامل مع النفايات النووية ككل، وربما كانت فائدة الثوريوم الأكبر هي صعوبة استخدامه في تطوير أسلحة نووية.

ويقول رامامورتي راجارامان، أستاذ الفيزياء بجامعة جواهرلال نهرو في نيودلهي، إن “فخرا مؤسسيا” يقف وراء تمسك الهند ببرنامجها للثوريوم إذ لا تريد المؤسسة النووية الهندية أن تنحي جانبا برنامجا اعتبرته رائدا، والأهم ما أكد عليه مؤسس البرنامج النووي الهندي هومي بابا من أهمية اكتفاء الهند ذاتيا، خاصة بعد ما تعرضت له البلاد من عزلة نووي.

والهند رابع بلدان العالم في استخدام طاقة الرياح وخامسه في الطاقة الشمسية ولكن لا الرياح ولا الشمس يُعتمد عليها بالكامل في سد حاجة البلاد بأسرها لكونها مصادر غير ثابتة. ويقول كاكودكار: “الطاقة النووية تظل الخيار الوحيد الواسع بخلاف الوقود الأحفوري، وفي حالة الهند ليس سوى الثوريوم للقيام بالمهمة”.

وتختلف الآراء حول مدى الحاجة لتوفير الاكتفاء الذاتي من الطاقة الآمنة، وحين كان هومي بابا مستشارا للاستراتيجية النووية للهند كان الاعتقاد أن مخزون اليورانيوم في العالم أقل مما عُرف لاحقا، وكان الخوف أن تتسع الأنشطة النووية بسرعة في العالم بشكل يسرع من نضوبه، ولكن منذ التسعينيات تدنى استخدام الطاقة النووية عالميا وأثبت اليورانيوم توافره.

وتعمل الهند على تنويع مصادر طاقتها، ففضلا عن العمل المستمر في مجال طاقة الرياح والطاقة الشمسية، أقرت الحكومة إنشاء 12 مفاعلا جديد للمياه الثقيلة تضاف إلى 22 مفاعلا قيد التشغيل وتسعة تحت الإنشاء، كما تبحث إمكانية الدخول في صفقات لبناء مفاعلات بتصميمات خارجية من روسيا وفرنسا والولايات المتحدة. لكن بعد أن الهند قطعت شوطا مع الثوريوم، لا يعتقد باركس أنها ستتخلى عنه كسبيل للطاقة على المدى البعيد.

ولا يعتقد العلماء النوويون الهنود أن الثوريوم مفيد بالضرورة للبلدان المتقدمة، حيث لديها تقنيات اليورانيوم ومنشآته بالفعل، بينما الفرصة في البلدان النامية للاستفادة من الثوريوم لتوافره بكثرة ولصعوبة استخدامه في الأسلحة النووية، مما يجعله بديلا واعدا للطاقة دون ما يحدثه الكربون من تلوث للبيئة.

ويخلص كاكودكار بالقول: “من يرغب في المضي قدما نحو طاقة خالية من الكربون لن يجد أمامه سوى الطاقة النووية، وليس من سبيل لنمو تلك الطاقة دون الثوريوم، والعالم بانتظار من يحقق الريادة”.

شاهد أيضاً

مقال بموقع بريطاني: هذه طريقة محاسبة إسرائيل على تعذيب الفلسطينيين

ترى سماح جبر، وهي طبيبة ورئيسة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية، أنه وسط تصاعد حالات تعذيب الفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، هناك حاجة ملحة إلى قيام المتخصصين في مجال الصحة بتوثيق مثل هذه الفظائع بشكل صحيح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *