كورونا و الدين

بقلم صالح مبارك 

أتنقل بين صفحات الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لأقرأ آراء الناس بأزمة فيروس الكورونا غير المسبوقة فأرى آراءاً عجيبة وتطرفا في شتى الاتجاهات. الملحدون واللادينيون شامتون بإغلاق المساجد ومنع العمرة وكأن الإغلاق خاص بدور العبادة بينما يشكر بعض “المتدينين” الفيروس لأنه تسبب في إغلاق البارات ودور اللهو… وتناسى الطرفان أن الفيروس كان سبب إغلاق كل مكان تجمع بشري سواء كان للهو أو الدراسة أو العبادة أو غير ذلك. الفئة الأولى ترى ما حصل نصراً فكرياً على العقائد الدينية فيتساءلون: “هل ما يحصل الآن بإرادة الله ، فإن كان كذلك فكيف لله أن يتسبب في هذه المعاناة للبشرية إن كان فعلاً رباً رحيماً عطوفاً؟” بل قد يتمادى أحدهم إلى حد السخافة فيقول “أين الله من كل هذا؟ إن العلم هو الذي يفسر ويبحث ويجد الحل!” هؤلاء يتصورون أن قدرة الله لا تتجلى إلا في المعجزات فإذا أتت الأمور من خلال القوانين الطبيعية (والتي نسميها سنن الله في الكون) فما دخلها – حسب زعمه – بقدرة الله وإرادته؟ وكأن الأمور إما أن تكون حسب قوانين الطبيعة وتفسيرات العلماء تفسيرها فلا دخل لإرادة الله فيها حينئذٍ… أو أن تكون معجزات خارقة على مبدأ القوم الذين قالوا لنبيّهم ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا). بل يشتط بعضهم في الغرور والسفه فيسأل “إذن لِمَ لا يرفع الله المعاناة عن الشعب الفلاني ويفعل كذا وكذا؟” وكأنه يسائل الله ويحاسبه بدلا من العكس!

من جهة أخرى ينطلق بعض “المتدينين” في محاولات لتفسير ما يحصل وكأنهم يعلمون الغيب وما وراء ظواهر الطبيعة وأحداثها فيؤكد أحدهم أن فيروس الكورونا “جندي من جنود الله” بل زعم بعضهم أنها ذُكِرت في القرآن الكريم ، بينما يستعمل آخرون المقولة التي يكررونها في كل حادثة ومصيبة (إن هذا الوباء عقوبة ربانية لنا بسبب ذنوبنا ومعاصينا فعلينا التوبة والعودة إلى الله) وهذا بالمناسبة أسلوبٌ يستخدمه علماء السلطان حين يشتد ظلمه لتخدير الشعب وتحويل أنظارهم عن الظالم. لا شك أن كل شيء في الكون بما ذلك فيروس كورونا من خلق الله ولا شك أنه لا يحصل أمر في هذا الكون إلا بإرادة الله ، ورغم أني أرى مبدأ التوبة والعودة إلى الله صحيحاً في كل الظروف ولكني أرفض الربط بين ذلك والأحداث والمصائب – على الأقل بصيغة الجزم – فليس لي أن أتألى على الله تعالى وأزعم أني أعرف الأسباب الغيبية لهذه الأحداث وحكمتها وهل هي عقوبة أم ابتلاء أم نعمة فربّ أمر نراه شراً ويأتي الخير من خلاله. أضف إلى ذلك أن الابتلاء والمحن حصلت للرسل ومنهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أحبُّ خلق الله إليه فكيف يكون ذلك عقوبة ربانية؟

فئة آخرى من “المتدينين” تنظر إلى الأمور بعين العاطفة وتغييب العقل والفكر فهم حزينون لرؤية الحرم فارغاً من الزوار والمصلين ، وكذلك المساجد التي لم يستطع المصلون زيارتها والصلاة والعبادة فيها. أجيب هؤلاء بأنه منظر حزين فعلا ولكنه أقل سوءاً بألف مرة من منظر الجثث المكدسة ، والمرضى الذين ينتظرون دورهم في أروقة المستشفيات المكتظة. إني أعتبر من غلبت عاطفته عقله فخالف الأوامر وقام بتجمعات للصلاة أو غيرها آثماً ومجرماً في حق نفسه وغيره. مخالفة التعليمات والاستهتار بها ليس مقصوراً على “المتدينين” فبعضهم يقيم حفل زفافٍ ولا يبالي وآخرون يجتمعون لمباراة كرة أو اللهو وغيره ويرمون بالتعليمات عرض الحائط ولكن يدهشني ويؤلمني أكثر من يفعل ذلك بحسن نية ظناً منه أنه يتقرب إلى الله بصلاة الجماعة وهو لا يدرك أن حفظ النفس من مقاصد الشريعة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذِنَ لعمار بن ياسر أن ينطق كلمة الكفر ويذكر الرسول بسوء حين يتعرض للتعذيب ويخشى أن يؤدي ذلك إلى موته. وكذلك كان قرار سيدنا خالد بن الوليد الانسحاب بجيش المسلمين في مؤتة حفاظاً على أرواحهم لأن لم يكن يرى أن هزيمة جيش الروم كانت ممكنة بالجيش الذي كان معه. النوايا الحسنة مع التفكير الخاطئ تؤدي إلى الكوارث.

طبعاً لن أذكر بعض المنحرفين دينياً ممن يمارسون طقوساً منكرة وشعوذة زعماً منهم أنها تشفي المريض أو تحمي السليم من المرض ، وهؤلاء موجودون في كل الأديان فهم لا يؤمنون بالعلم بل يرون أنك إما أن تسير في طريق العلم أو الإيمان ، فإذا آمنت حسب طريقتهم فعليك التسليم دون التفات لطبيب أو عالم. للأسف ضحايا هؤلاء غالبا لا يعيشون ليكتشفوا زيف ودجل تلك الادعاءات.

لكن لتعد إلى الملاحدة واللادينيين ممن يريدون إقصاء الدين كلياً فما دور الدين ؟ لنترك الأمور للعلماء وليسكت رجال الدين بحسب زعمهم. إذا كان المقصود هم رجال الدين المنحرفين المشعوذين ممن يقصون العلم والمنطق فأنا أوافق بالتأكيد ، لكن علماء الدين الذي يفهمون الدين بأنه داعمٌ للعلم وبأن المؤمن بالله لا بد وأن يمتثل لقول الله تعالى (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ) وقوله (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعملون… إنما يتذكر أولو الألباب) وكذلك الآيات الكثيرة (إن في ذلك لآياتٍ لقوم يعقلون – يسمعون – يتفكرون) هؤلاء العلماء الذين يفهمون الفقه فهماً مقاصدياً وليس جزئياً ، هؤلاء لهم دورٌ مهم جداً في المجتمع فهم يجعلون من العلم النافع عبادةً ما بعدها عبادة (الخلق كلهم عيال الله فأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله) وهؤلاء لهم دور في توعية الناس وتطمينهم بأننا نفعل ما بوسعنا لكن الأمر كله بيد الله فالمؤمن يحاول أن يصل بإيمانه إلى مرحلة (لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون) وهي مرحلة لا يمكن لملحدٍ أو لاديني أن يصل إليها فالإيمان بالله والثقة به والتوكل عليه وتفويض الأمر إليه هي عماد تلك المرحلة المفعمة بالرضى والطمأنينة فنحن نؤمن بـ (عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ) فهي تجارةٌ رابحةٌ على جميع الأحوال: الملحد واللاديني يريد تجارةً رابحةً في الدنيا والمؤمن يريد تجارةً رابحةً أيضاً ولكن فضاءه أوسع فهو يشمل الدنيا والآخرة.

ومن لطائف الأمور أن علماء الطب أجروا تجربة عجيبة منذ سنوات (وهي منشورة في مجلة جمعية الطب الأميركية JAMA) وجدوا خلالها أن الذين يملكون عقيدة دينية قوية (بغض النظر عن الدين) يشفون بنسبة أكبر وأسرع من غير المؤمنين ، وربما يعود ذلك إلى أن الجهاز المناعي للإنسان بقرأ نفسيته ويتصرف بناء عليها فالإنسان المتفائل الذي يقبل قضاء الله برضى يكون جهازه المناعي بشكل عام أفضل من ذلك المتشائم الساخط الذي يلوم الأقدار فيما يحصل له. فما أجمل من أن يكون الدين محفّزاً ومصدر تفاؤلٍ وارتياحٍ وسكينة؟ ومن المعلوم والثابت تجريبياً أن التوتر والإجهاد النفسي يُنْقِصُ من مناعة الشخص وهنا يأتي دور الإيمان والتسليم والرضى في خفض ذلك التوتر والإجهاد.

هناك دور آخر لعلماء الدين الواعين ذوي الفهم المقاصدي في تحويط العلم بالأخلاق فالعلم من دون أخلاق يؤدي إلى كوارث وقد أدى فعلا لذلك. خذ مثلا علوم الزراعة والتغذية والأدوية فالعالِم الجشع الذي يجري أبحاثاً لزيادة الإنتاج على حساب النوعية وصحة المستهلك أو يكون سبباً في أمراض تحدث بين الناس كي يبيعهم العلاج لاحقاً ، الموضوع كبير جداً وأوسع من أن نغطيه ببضعة أسطر هنا لكن الأمر الهام هو أن الدين يجب أن يكون وازعاً خلقياً يمنع صاحبه من الكذب والغش والإساءة للآخرين بأي شكل من الأشكال. في هذا السياق لا ننكر أن بعض اللادينيين يشاركون أيضاً في وضع الرقابة الأخلاقية على العلماء وأرباب الصناعات لما فيه مصلحة البشرية وهذا مجال يمكن للمتمسكين بالأخلاق من متدينين وغيرهم أن يقفوا في وجه العلم حين يحيد عن طريقه في خدمة البشرية ليخدم مصالح فئات صغيرة جشعة أنانية. علماء الدين أيضاً يمارسون التوعية الأخلاقية للشعب وهي ضرورية خاصة وقت الأزمات حيث يفزع الناس ويفكر كل منهم بالنجاة بنفسه على حساب حقوق الآخرين.

في الخلاصة أرى أن علماء الدين الواعين الصادقين يؤدون دوراً مهماً جداً في المجتمع جنباً إلى جنب مع علماء الطب والعلوم وكذلك السلطات وأولياء الأمر فيساعدون في توعية الناس وانضباطها وتحسن الوضع النفسي والاجتماعي لها.

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".