قل سيروا في الأرض فانظرو كيف كان عاقبة المجرمي

(الحلقة الثالثة في ذكر صفات هؤلاء المجرمين)

صفة التعالم والجحود

{أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمه إءله مع الله، تعالى الله عما يشركون}

خلق الله تعالى الإنسان وميزه بالقدرة على التطوير والإبداع، ودقة المشاهدة والمحاكاة، فاستطاع أن يطور كثيرا من وسائل عيشه، انطلاقا من تلك المشاهدات والمحاكاة، بل وضع علوما وقواعد لذلك في كل المجالات والعلوم، واستطاع أن يستنتج قوانين من ذلك أصبح الاعتماد عليها من ضرورات حياته، وما زالت تلك المشاهدة والتقليد والمحاكاة مستمرة فاعلة قائمة محتاجا إليها فقيرا إليها لا يستطيع الاستغناء عنها، خاصة في الظلمات، سواء كانت ظلمات حقيقية في البر والبحر حيث لا مرشد ولا هادي إلا تلكم المخلوقات الكونية من نجوم أو رياح أو اتجاهات أو معالم، او كانت ظلمات معنوية حين يقف عاجزا حائرا تائها لا يجد جوابا أو تفسيرا أو حين يكون محتاجا إلى تطوير وسيلة فيغيب عنه رأس الخيط كما يقال، فيفكر ويقدر، وينظر ويعيد النظر، فيهتدي إلى الحل أو القانون من خلال نظر ومشاهدة وتأمل لمثال سابق، واغلب العلم التجريبي بل كله معتمد على المثال السابق، وقوام العلم اليوم على التجربة والنظر والمشاهدة والمثال السابق، في كل المجالات..

السؤال هنا:
من الذي خلق وأوجد المثال السابق؟
من الذي منح الإنسان القدرة على ذلك التأمل والمشاهدة والتقليد والمحاكاة، ومن ثم التطوير؟
من الذي هدى ويسر وأرشد وألان وقرب ؟
لو لم يوجد ذلك المثال السابق، أو تلك المعالم الظاهرة، أو تلك الهداية الباهرة، كيف سيكون حال ذلك الإنسان؟

هنا يأتي الجواب عن ذلك التساؤل اللاحق (أءله مع الله) : لا إله إلا الله

فالله عزوجل هو موجد وخالق ومكون المثال السابق، وهو الذي منح الإنسان عقلا وحواس تشاهد ويفكر ويتأمل ويربط ويحاكي ويقلد ويطور، وبالتالي يخرج نفسه وغيره والبشرية من ظلمات البر والبحر، ظلمات الهلاك المحقق، وظلمات الجهل. وظلمات العجز، وظلمات التخلف..

تلك الظلمات التي يفر منها الإنسان ويكرهها ويرهبها ويشمئز منها، ولا يتمنى أن يلقاها، ويسارع إلى الخروج منها، والتخلص منها..
فلولا المثال السابق
ولولا نور التفكير والتأمل والمشاهدة
ولولا تيسير التطبيق وتعبيد الطريق وإزالة المعيق..
لما استطاع فعل شيء..

إذن فهو محتاج لذلك المثال، فقير لذلك النور، مضطر لذلك التيسير..

وهذه الحاجة وذلك الفقر، وتلك الضرورة ملازمة له مستمرة معه لا يستطيع الاستغناء عنها، ولا تجاوزها ولا الانصراف عنها، ولا الزهد فيها..لذلك جاء التعبير بالفعل المضارع (يهديكم، يرسل) للدلالة على ذلك الدوام والاستمرار والتعلق اللازم غير المنفك..

والمنتج الوحيد لذلك المثال، والمانح الوحيد لذلك النور، والهادي الوحيد لذلك التيسير والموفر له، هو الله عزوجل، وبالتالي فالإنسان مدين شاء أم أبى إلى ذلك الخالق، وهذا الدين مستمر لا يمكن قضاؤه ولا تجاوزه ولا سداده..

لذلك جاء التعبير بالهداية التي دونها التيه والغواية والضلال والانحراف، وبعد الطريق وإضاعة الطاقة، والدمار والهلاك عند انقطاع الطريق، وانعدام المنقذ، وشح الوسيلة..

هنا يقف الإنسان السوي ليجيب عن تساؤل: أءله مع الله!! فيصرخ عاليا: لا إله إلا الله..

ومن أهم تلك النعم والوسائل التي فيها الهداية المادية والمعنوية في ظلمات البر والبحر، وتتمثل فيها حاجة الإنسان المطلقة إليها، وفقره إليها، وعدم استغنائه عنها مهما تقدم علمه وتطورت وسائله، والمشاهدات والدراسات والتقارير شاهدة على ذلك، إنها نعمة الرياح، فالله عزوجل هو الذي يرسلها، وجاء التعبير بالإرسال، لما فيه من معاني النفع والقصد، كما أن الرسالة تكون المقصودة في الإرسال، محملة بالنفع، وجاء التعبير بالمضارع كذلك للدلالة على استمرار ذلك الإرسال، واستمرار حاجة الإنسان إليه، فلا تتصور حياة بدون رياح، ولا تتصور حركة بدون رياح ولا إنتاج بدون رياح، ولا أرض بدون رياح، فهو يرسلها سبحانه منتشرة متفرقة متنوعة مبشرة، فانتشارها ليس عبثيا، بل هو بإحكام وانتظام وتنوع لكل ريح وقتها ودورها وفعلها وأثرها، ومقدارها ونفعها، ولابد للإنسان أن يساهم في الحفاظ على ذلك الانتظام، حتى لا تخرج تلك الرياح عن ضابط الرحمة، فالله عزوجل أرسلها ويرسلها رحمة، فيها الرحمة ومن أجل الرحمة ومآلها الرحمة..

وهذه بعض منافع ورحمات تلك الرياح:

1-المحافظة على درجة حرارة سطح الأرض؛ فكما هو معروفٌ عندما يسخن الهواء القريب من سطح الأرض يخف وزنه ويرتفع للأعلى، فيحل محله هواءً بارداً يخفف من حرارتها، فلولا هذه الحركة لزادت درجة حرارة الأرض سنةً بعد سنةٍ لتصبح في الآخر محرقةً لكل ما يقترب منها فتنعدم الحياة عليها.
2-نقل مادة اللقاح بين النباتات حيث تنتج ذكور النباتات مادة اللقاح المسؤولة عن تلقيح النبات الأنثى، ولكن لولا الرياح لبقيت مادة اللقاح عند النبات الذكر ولما حصل تلقيح للنبات الأنثى وبذلك تموت النباتات ويهدم كل ما يعتمد عليها.
3-نزول المطر، فعندما ترتفع الرياح الدافئة إلى طبقات الجو العليا الباردة فإنها تتكاثف ويتساقط المطر.
4-تحريك السفن في البحار والمحيطات، حيث لا بد من وجود الهواء لإتمام عملية الاحتراق التي تعتمد عليها وقود هذه السفن.
5-الرياح مصدر من مصادر الطاقة البديلة الدائمة والمتجددة والنظيفة، فعندما يتم تسليط الرياح على التوربينات فإنها تولِّد الطاقة الكهربائية، كما أنها تعتبر صحيةً لعدم انطلاق الغازات والمخلفات السامة منها.
6-نقل الغبار والأتربة وتفتيت الصخور وترسيبها في أماكن اصطدامها بها، وبالتالي تشكيل الرسوبيات التي تعتبر مظهراً جمالياً نتيجة الأشكال الهندسية الجميلة التي تنتج، وفي نفس الوقت لهذه الرياح دورٌ في عمليات حت الصخور التي تكون في طريقها فتشكل أيضاً المناظر الجميلة مثل الموائد الصخرية.
إءله مع الله!! لا إله إلا الله

قد يقول لي قائل: قد أطلت في ذلك هذه النعم ومنافعها وحصريتها وضرورتها، فما علاقة ذلك ببيان صفة اخرى من صفات أولئك المجرمين؟؟

الجواب: بضدها تعرف الأشياء!! إذا عرفنا أهمية هذه النعم وضرورتها ودوام الفقر إليها، وحصريتها على الله عزوجل، ظهرت لنا وقاحة ولؤم وسفالة الجاحدين والمنكرين والمتجاهلين المجرمين!!

صفة المجرمين التي نستشفها من هذه الآية، هي صفة التعالم، وهو ادعاء العلم وإنكار فضل المعلم والهادي والمرشد، ومما يزيد الموقف وقاحة وصلافة، هو أنه مع استمرار الحاجة لذلك التعليم، ولتلك الهداية وعدم الانفكاك عنها، يمارس أكابر المجرمين التعالم والجحود زعم الاستغناء، وأنهم إنما أوتوا ذلك على علم عندهم، وأنهم يستطيعون ويستطيعون، وأنهم منمكنون من كل شيء، وأنهم قادرون على فكاك أنفسهم في ظلمات البر والبحر… تعالم وجحود ووقاحة منقطعة النظير، مع فقرهم وعجزهم واضطرارهم، وقد يظهر ذلك الفقر جليا إلا أنهم يسارعون إلى طمسه ومواراته بأي شماعة..
هذا التعالم وعدم الاعتراف يقومون بترسيخه، ومنهجته ونشره وإذاعته وتعليمه، مع إلغاء أي إشارة تشير إلى ذلك الدين، وذلك الفقر وتلك الحاجة..
فالله يهدي وهم ينكرون ويتعالمون..
والله يرسل وهم يجحدون ولا يعترفون..
لينسب إليهم أصل العلم، فينتفخون متألهين مكابرين، فتأتي أدنى ريح من هنا أو هناك لتكشف عجزهم وعورات فقرهم، وتنسب العلم والهداية والإرسال إلى العليم الخبير الهادي الرحيم، سبحانه وتعالى..
أءله مع الله!! لا إله إلا الله

سفيان أبوزيد

شاهد أيضاً

مقال بموقع بريطاني: هذه طريقة محاسبة إسرائيل على تعذيب الفلسطينيين

ترى سماح جبر، وهي طبيبة ورئيسة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية، أنه وسط تصاعد حالات تعذيب الفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، هناك حاجة ملحة إلى قيام المتخصصين في مجال الصحة بتوثيق مثل هذه الفظائع بشكل صحيح.