بقلم الأستاذ عبد الرحمان بن عبد الكريم الزيد في مجلة اشراقات
فِي مقَام آخر يتحدث أنس بن مَالك عَن وَاقعَة حصلت فِي الْـمَدِينَة سبقهمْ لاجتلاء أمرهَا رَسُول الله –صلى الله عليه وسلم- يَقُول أنس – رَضِي الله عَنهُ-: «كَانَ رَسُول الله –صلى الله عليه وسلم- أحسن النَّاس وَكَانَ أَجود النَّاس، وَكَانَ أَشْجَع النَّاس، وَلَقَد فزع أهل الْـمَدِينَة ذَات لَيْلَة فَانْطَلق نَاس قِبَل الصَّوْت، فَتَلقاهُمْ رَسُول الله –صلى الله عليه وسلم- رَاجعا، وَقد سبقهمْ إِلَى الصَّوْت وَهُوَ على فرس لأبي طَلْحَة عُري «أَي لَيْسَ عَلَيْهَا لجام» وَفِي عُنُقه السَّيْف وَهُوَ يَقُول: «لم تراعوا لم تراعوا».
هَكَذَا كَانَ –صلى الله عليه وسلم- قدوة فِي الشجَاعَة والإقدام وَفِي كل خير. وَكَثِيرًا مَا يحث النَّبِي –صلى الله عليه وسلم- أَصْحَابه على شَيْء ثمَّ يعلمهُمْ بِفِعْلِهِ فيقرن لَهُم القَوْل بِالْفِعْلِ، والأمثلة على ذَلِك كَثِيرَة فَمن ذَلِك أَن النَّبِي –صلى الله عليه وسلم- حثَّ على تَعْجِيل الْفطر للصَّائِم فَقَالَ فِي حَدِيث سهل بن سعد «لَا يزَال النَّاس بِخَير مَا عجلوا الْفطر» مُتَّفق عَلَيْهِ ثمَّ ترَاهُ يطبق ذَلِك عمليًا.
وَهَكَذَا رَسَّخ رَسُول الله –صلى الله عليه وسلم- عِنْد صحابته الِاقْتِدَاء بِهِ حَتَّى كَانُوا يتسابقون لمعْرِفَة أَفعاله وأحواله فَهَذَا ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ يبيت عِنْد خَالَته مَيْمُونَة بنت الْحَارِث – رَضِي الله عَنْهَا- ليعرف صَلَاة النَّبِي –صلى الله عليه وسلم- بِاللَّيْلِ. وَهَذَا ابْن عمر -رَضِي الله عَنهُ- لما دخل النَّبِي –صلى الله عليه وسلم- عَام الْفَتْح الْكَعْبَة وبلال وَعُثْمَان بن طَلْحَة وأغلق عَلَيْهِم الْبَاب. فَلَمَّا فتح الْبَاب ابتدره ابْن عمر وَسَأَلَ بِلَالًا مَا فعل النَّبِي –صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: «صلَّى بَين ذَيْنك العمودين الْـمُتَقَدِّمين»؛ بل كَانَ ابْن عمر – رَضِي الله عَنهُ- فِي حجه بعد وَفَاة النَّبِي –صلى الله عليه وسلم- يتتبع الْـمَوَاضِع الَّتِي كَانَ يُصَلِّي فِيهَا النَّبِي –صلى الله عليه وسلم- فِي طَرِيقه فَيصَلي فِيهَا. ونجد من شدَّة حرص الصَّحَابَة – رَضِي الله عَنْهُم- على الْخَيْر والاقتداء بِنَبِيِّهِمْ –صلى الله عليه وسلم- أَنهم اقتدوا بِهِ فِيمَا هُوَ من خَصَائِصه صلى الله عليه وسلم. فَفِي الحَدِيث عَن أبي هُرَيْرَة -رَضِي الله عَنهُ- قَالَ: «نهى رَسُول الله –صلى الله عليه وسلم- عَن الْوِصَال – فِي الصّيام – فَقَالَ رجل من الْـمُسلمين: فَإنَّك تواصل يَا رَسُول الله؟ قَالَ: «وَأَيكُمْ مثلي إِنِّي أَبيت يطعمني رَبِّي ويسقيني». فَلَمَّا أَبَوا أَن ينْتَهوا عَن الْوِصَال وَاصل بهم يَوْمًا ثمَّ يَوْمًا ثمَّ رَأَوْا الْهلَال فَقَالَ: «لَو تَأَخّر الْهلَال لزدتكم كالمنكّل لَهُم حِين أَبَوا أَن ينْتَهوا» مُتَّفق عَلَيْهِ وَهَذَا حرص مِنْهُم – رَضِي الله عَنْهُم- على الْخَيْر وظنًا أَن نهي النَّبِي لَهُم من بَاب الشَّفَقَة عَلَيْهِم وهم لحرصهم على الْخَيْر وَقُوَّة عزيمتهم رَأَوْا أَنهم قادرون على مُتَابعَة النَّبِي –صلى الله عليه وسلم- فِي هَذِه الْعِبَادَة. وَهَكَذَا يتَبَيَّن أثر الْقدْوَة فِي النُّفُوس وأهميتها فِي التربية. وَإِذا تخلفت الْقدْوَة ضعفت التربية وَلَا ترى للمبادئ والتوجيهات أثرا وواقعًا عمليا، وَلِهَذَا نجد النُّصُوص الشَّرْعِيَّة تحذر من مُخَالفَة الْعَالم لما يُعلمه ﴿يٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [سُورَة الصَّفّ/2] ويشنع الله عز وَجل على طَائِفَة مِمَّن قبلنَا هَذِه الْخصْلَة فَيَقُول: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتٰبَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [سُورَة الْبَقَرَة /44]