فضل العلم و العالم

مصادر مختلفة بتصرف

ولم يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستزادة من شيء إلا من العلم، فقال له سبحانه وتعالى: ﴿ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً ﴾؛ [طه: 114]. وما ذاك إلا لما للعلم من أثر في حياة البشر، فأهل العلم هم الأحياء، وسائر الناس أموات.

إن العالم نور يهتدي به الناس في أمور دينهم ودنياهم ، ولا يخفى على كثير من قصة الرجل الذي من بني إسرائيل قتل تسعاً وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض فدلّ على رجلٍ عابد فسأله هل له من توبة ؟ فكأن العابد إستعظم الأمر فقال: لا فقتله فأتم به المئة، ثم ذهب إلي عالم فسأله فأخبره أن له توبة وأنه لا شيء يحول بينه وبين التوبة، ثم دلّه على بلد أهله صالحون ليخرج إليها فخرج فأتاه الموت في أثناء الطريق …..والقصة مشهورة فأنظر الفرق بين العالم والجاهل .

إن الله يرفع أهل العلم في الآخرة وفي الدنيا، أما في الآخرة فإن الله يرفعهم درجات بحسب ما قاموا به من الدعوة إلي الله عزَّ وجلّ والعمل بما عملوا وفي الدنيا يرفعهم الله بين عباده بحسب ما قاموا به قال الله تعالى: ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) ( سورة المجادلة، الآية: 11). 
وليس هذا فقط فللعلم فضائل غيرها ومناقب وآيات وأخبار صحيحة مشهورة مبسوطة في طلب العلم .

عقد ابن القيم – رحمه الله تعالى – مقارنة بين العلم والمال يحسن إيرادها في هذا المقام فقد فضل العلم على المال من عدة وجوه أهمها: 
أن العلم ميراث الأنبياء والمال ميراث الملوك والأغنياء 0 
أن العلم يحرس صاحبه وصاحب المال يحرس ماله. 
أن العلم يزداد بالبذل والعطاء والمال تذهبه النفقات – عدا الصدقة. 
أن العلم يرافق صاحبه حتى في قبره والمال يفارقه بعد موته إلا ما كان من صدقة جارية 0 
أن العلم يحكم على المال فالعلم حاكم والمال محكوم عليه. 
أن المال يحصل للبر والفاجر والمسلم والكافر أما العلم النافع فلا يحصل إلا للمؤمن. 
أن العالم يحتاج إليه الملوك ومن دونهم وصاحب المال يحتاج إليه أهل العدم والفاقة والحاجة. 
أن صاحب المال قد يصبح معدماً فقيراً بين عشية أو ضحاها والعلم لا يخشى عليه الفناء إلا بتفريط صاحبه. 
أن المال يدعو الإنسان للدنيا والعلم يدعوه لعبادة ربه. 
أن المال قد يكون سبباً في هلاك صاحبه فكم أختطف من الأغنياء بسبب مالهم !! أما العلم ففيه حياةٌ لصاحبه حتى بعد موته. 
سعادة العلم دائمة وسعادة المال زائلة. 
أن العالم قدره وقيمته في ذاته أما الغني فقيمته في ماله. 
أن الغني يدعو الناس بماله إلي الدنيا والعالم يدعو الناس بعلمه إلي الآخرة. 

وهاك مثالاً يبين فضل العلم على الإنسان إنه يدور في زمن الخليفة العباسي هارون الرشيد إنها قصة تلميذ الإمام أبي حنيفة ( أبو يوسف ) التي يرويها علي بن الجعد فيقول: ” أخبرني أبو يوسف قال توفي أبي إبراهيم بن حبيب وخلفني صغيراً في حجر أمي فأسلمتني إلي قصار أخدمه فكنت أدع القصار وأمر إلي حلقة أبي حنيفة فأجلس أسمع فكانت أمي تجيء خلفي إلي الحلقة فتأخذ بيدي وتذهب بي إلي القصار وكان أبو حنيفة يعني بي لما يرى من حضوري وحرصي على التعلم فلما كثر ذلك على أمي وطال عليها هربي قالت لأبي حنيفة ما لهذا الصبي فساد غيرك هذا صبي يتيم لا شيء له وإنما أطعمه من مغزلي وآمل أن يكسب دانقاً يعود به على نفسه فقال لها أبو حنيفة: قري يا رعناء ها هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق – فانصرفت عنه وقالت له: أنت يا شيخ قد خرفت وذهب عقلك !! …. فأكمل أبو يوسف فقال: ثم لزمت أبا حنيفة وكان يتعهدني بماله فما ترك لي خلة فنفعني الله بالعلم ورفعني حتى تقلدت القضاء وكنت أجالس هارون الرشيد وآكل معه على مائدته فلما كان في بعض الأيام قدم إلي هارون الرشيد فالوذجاً بدهن الفستق فضحكت فقال لي مم ضحكت ؟ فقلت: خيراً أبقى الله أمير المؤمنين قال: لتخبرني – وألح علي – فأخبرته بالقصة من أولها إلي آخرها فعجب من ذلك وقال لعمري: إنه العلم ليرفع وينفع ديناً ودنيا وترحم على أبي حنيفة وقال: كان ينظر بعين عقله ما لا يراه بعين رأسه. 
وهذا عبيد الله بن كثير يروي عن أبيه أنه قال: ” ميراث العلم خير من ميراث الذهب والفضة والنفس الصالحة خير من اللؤلؤ ولا يستطاع العلم براحة الجسم “. 

وأما معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال: (تعلموا العلم ـ دققوا في هذا الحديث الطويل ـ تعلموا العلم فإن تعلُّمه لله ـ أي مخلصاً به ـ خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه صدقة، وبذله لأهله قربة ـ أثمن هدية ـ وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، والدليل على الدين، والنصير في السرَّاء والضراء، والوزير عند الإخلاء, والقريـب عند القرباء، هو منـار سبيل الجنة، يرفـع الله به أقواماً يجعلهم في الخير قادة وسادة، يُقتدى بهم، يدل على الخير، وتقتفى به آثاره، يجعلك مع الملائكة والمُقَرَّبين، يسبِّح لك كل رَطْبٍ ويابس، تستغفر لك حتى الحيتان في البحر، وهوامُّ السِباع في البَر، به يطاع الله عزَّ وجل ـ بالعلم يطاع الله عز وجل، كيف تطيعه إن لم تعلم ما أمره وما نهيه ؟ ـ وبه يُعْبَد الله عزَّ وجل، وبه يوحَّد الله عزَّ وجل، وبه يُمَجَّد الله عزَّ وجل، وبه يتورَّع الإنسان ـ يكون ورعاً ـ وبه توصل الأرحام، وبه يُعرف الحلال والحرام. هو إمام العمل يلهمه السُعداء ويحرم منه الأشقياء). 

الإمام الحسن رضي الله عنه يقول: ” لولا العلم لصار الناس مثل البهائـم “، كلكم يعلم أن كل شيءٍ ماديٍ يشغل حيزاً في الفراغ، له وزن، له طول، له عرض، له ارتفاع، لكن النبات هو شيءٌ ماديٌ يشغل حيِّزاً وينمو، والحيوان شيءٌ ماديٌ يشغل حيزاً وينمو ويتحرك، ولكن الإنسان شيءٌ ماديٌ يشغل حيزاً ويتحرَّك ويدرك، ويفكر، ويعقل، فحينما يُعَطِّل الإنسان عقله، حينما يُلْغي عقله، حينما يحتقر عقله، حينما يستخدم عقله في غير ما خُلِق له هبط إلى مستوى البهائم؛ كتلةٌ من لحمٍ ودم، تبحث عن طعامٍ وشراب، تقتنص اللّذات، تريد أن تأخذ كل شيء بجهلٍ كبير، فالإمام الحسن يقول: ” لولا العلم لصار الناس مثل البهائم “، أي أن طلاب العلم يخرجون الناس من حد البهيمية إلى حد الإنسانية. 

يقول يحيى بن معاذ ـ أحد العارفين بالله ـ: ” العلماء أرحم بأمة محمدٍ من آبائهم وأمهاتهم، قالوا: كيف ذلك ؟ العالم أرحم بتلميذه من الأب والأم بابنيهما ؟‍! قال : إليكم الجواب ، الآباء والأمهات يحفظون أولادهم من نار الدنيا ـ يخافون عليهم المرض ، يخافون عليهم الحريق، يخافون عليهم الفقر ـ ولكن العلماء يحفظون أتباعهم من نار الآخرة . تنتهي فضائل الأبوة في الدنيا، لكن فضائل طلب العلم تستمر إلى أبد الآبدين “. 

قال العلامة ابن جماعة رحمه الله: لأن نفع العلم يعم صاحبه والناس، والنوافل البدنية مقصورة على صاحبها.
ولأن العلم مصحح لغيره من العبادات؛ فهي تفتقر إليه وتتوقف عليه ولا يتوقف هو عليها.
ولأن العلماء ورثة الأنبياء، وليس ذلك للمتعبدين.
ولأن طاعة العالِم واجبة على غيره فيه.
ولأن العلم يبقى أثره بعد موت صاحبه، وغيره من النوافل ينقطع بموت صاحبها.
ولأن في بقاء العلم إحياءُ الشريعة وحفظ معالم المِلَّة.

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".