عن رفع مستوى العلاقات التركية الإسرائيلية

أعلنت تركيا وإسرائيل نهاية أغسطس/آب الماضي عن استعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بينهما، عبر تسمية سفراء جدد؛ علماً أنها كانت تدار عبر قائمين بالأعمال فقط، لا قناصل حتى. هذا الأسبوع أعلنت إسرائيل فعلاً عن تسمية إيريت ليليان سفيرة لها في أنقرة، وهي القائمة بالأعمال حالياً، بينما يفترض أن تصدر التسمية التركية خلال أيام أيضاً. تشير الترجيحات نحو أفق أولوتاش رئيس مركز الأبحاث الاستراتيجية في الخارجية، رغم التحفظات أو التسريبات الإسرائيلية المعترضة بحجة دعمه وانحيازه إلى الفلسطينيين وروايتهم تجاه الصراع مع إسرائيل.

أثار الإعلان ولا شك جدلاً وردود أفعال واسعة، خاصة بين محبي وداعمي تركيا وسياستها؛ كثر بل الغالبية الشعبية الساحقة في العالمين العربي والإسلامي، يمكن شرح الأمر ووضعه في سياقاته التاريخية والسياسية والواقعية الصحيحة وفهمه ضمن ثلاث قواعد أساسية:

الأولى أننا أمام رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية القائمة أصلاً، التي لم تنقطع بين الجانبين، أي لسنا بصدد تنفيذ أو تطبيق تقليدي للتطبيع، كما هو متعارف عليه في العالم العربي.

الثانية لسنا أمام تحالف بين الجانبين بأي حال من الأحوال، مرحلة التحالف طويت إلى غير رجعة، لم تدم أصلاً إلا سنواتٍ قليلة، في تسعينيات القرن الماضي، زمن أوسلو ووادي عربة والمفاوضات العربية متعددة الأطراف مع إسرائيل.

القاعدة الثالثة؛ رفع مستوى العلاقات، لن يؤثر إطلاقاً على المسؤولية التركية تجاه القدس والقضية الفلسطينية بشكل عام، ولا على الدعم والمساعدات التركية السخية للفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة وحتى في الأراضي المحتلة عام 1948، التي لا تجد الدولة العبرية وسيلة لوقفها أو التأثير جدياً عليها.

أعلام إسرائيل وتركيا خلف دبابة إسرائيلية معروضة في متحف للدبابات في اللطرون غربي القدس، 18 أغسطس 2022 (فرانس برس)
أعلام إسرائيل وتركيا خلف دبابة ميركافا معروضة في متحف للدبابات في اللطرون غربي القدس، 18 أغسطس 2022 (فرانس برس)
بدايةً؛ لا بد من العودة إلى شرح وتوضيح مصطلح أو مفهوم التطبيع، المتعارف عليه عربياً، الذي شهدناه خلال العقود الأربعة الماضية؛ أي منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، وإقامة علاقات دبلوماسية رسمية بينهما، وإنهاء حالة العداء والحرب، والسعي إلى إنزال؛ أو للدقة تعميم؛ العلاقات إلى المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والفني والرياضي، الذي واجه عناداً مستمراً من الرأي العام العربي، ولا يزال حاضراً إلى الآن، حتى مع موجة التطبيع الجديدة، التي بدأت مع اتفاقيات إبراهام.

هذه العلاقات قائمة أصلاً في تركيا، التي لم تكن أول دولة إسلامية تقيم علاقات مع إسرائيل؛ الثانية بعد إيران، حتى زمن تركيا القديمة “الأتاتوركية” وتحكّم العسكر بسياستها الداخلية والخارجية.

كانت القضية الفلسطينية حاضرة دوماً وعاملاً مركزياً في تحديد علاقتها مع إسرائيل، إذ خفضت مرتين رغم عدم وصولها مستوى السفراء، الأولى في خمسينيات القرن الماضي، احتجاجاً على العدوان الثلاثي ضد مصر، والثانية في ثمانينيات القرن نفسه، احتجاجاً على إعلان إسرائيل القدس عاصمة موحدة أبدية للدولة العبرية.

الأمر نفسه حصل في حقبة تركيا الجديدة؛ التي بدأت مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة مطلع القرن الجاري، تعبيراً عن مركزية القضية الفلسطينية في العقل الجمعي الرسمي والشعبي، إذ خفض مستوى العلاقات، التي كانت على مستوى السفراء مرتين، الأولى بعد جريمة أسطول الحرية 2010، والثانية بعد تنكيل إسرائيل بمسيرة العودة السلمية على حدود غزة في العام 2019، بينهما قاد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما؛ وساطة من أجل تحسين العلاقة، وإعادة تبادل السفراء، تضمنت اعتذار إسرائيل، وتقديم تعويضات لأسر شهداء الأسطول من الأتراك، ما أدى إلى إعادة تسمية السفراء قبل تخفيض مستوى العلاقات مرة أخرى بعد ثلاث سنوات تقريباً.

هذا يعني أن العلاقات قائمة أصلاً؛ حتى مع تخفيض مستوى التبادل الدبلوماسي تواصلت في السياق الاقتصادي، حجم التبادل التجاري الذي يدار من القطاع الخاص، في نظامين ديمقراطيين يعتمدان مبدأ السوق الحرة؛ إسرائيل ديمقراطية لليهود ويهودية للعرب كما يقول عن حق أهلنا في الأراضي المحتلة عام 1948، استمر بل ارتفع خلال السنوات القليلة الماضية ليلامس حدود السبعة مليارات دولار، يميل بوضوح لصالح تركيا، تعتبر من أكبر الشركاء التجاريين للدولة العبرية، حتى زمن القطيعة أو شبه القطيعة السياسية.

من زيارة جاووش أوغلو إلى المسجد الأقصى، 25 مايو 2022 (مصطفى الخاروف/الأناضول)
من زيارة جاووش أوغلو إلى المسجد الأقصى، 25 مايو 2022 (مصطفى الخاروف/الأناضول)
التحالف كان استثناءً في علاقتهما، امتد فترة وجيزة في تسعينيات القرن الماضي فقط، بعد معاهدات أوسلو ووادي عربة وعملية مدريد، التي أطلقت المفاوضات العربية الإسرائيلية متعددة الأطراف، حول قضايا إقليمية مثل اللاجئين والمياه والتعاون الاقتصادي، أُديرت العلاقات آنذاك من قبل العسكر. استندت طفرة العلاقات الثنائية على افتراض إنهاء الصراع بين الفلسطينيين والعرب من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى.

إضافة إلى العوامل السابقة، وفي أسباب القطيعة الرسمية خلال العقد الماضي، لا بد من الإشارة إلى ممارسات الدولة العبرية في حقبة رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو، التي أدت إلى برود في العلاقات حتى مع الولايات المتحدة والدول الغربية الداعمة تقليدياً للدولة العبرية، مثل تعليق الحوار الاستراتيجي مع الاتحاد الأوروبي معظم تلك الفترة؛ التي استمرت عقداً تقريباً، كان التوتر مع تركيا جزءاً منها. خاصة على خلفية الجمود مع السلطة الفلسطينية ومقاطعتها وإيقاف المفاوضات وعملية التسوية معها.

في أسباب أو خلفية تحسن العلاقات الآن؛ يمكن الإشارة إلى رحيل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي أثار التوتر في المنطقة والعالم، وجائحة كورونا وما خلفته من آثار أممية، إضافة إلى تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، تحديداً في قطاعي الطاقة والمواد الغذائية.

الرئيس الإسرائيل إسحاق هرتسوغ في كنيس نيفا شالوم في اسطنبول في 10 مارس 2022(Getty)
الرئيس الإسرائيل إسحاق هرتسوغ في كنيس نيفا شالوم في اسطنبول في 10 مارس 2022(Getty)

في ذات السياق؛ يجب الانتباه كذلك إلى اكتشاف ثروات هائلة في شرق المتوسط، وتشكيل تحالف ضد تركيا؛ إسرائيل واليونان وقبرص الرومية ودول عربية أخرى مثل الإمارات ومصر، لمحاصرتها أو حرمانها من حقوقها، ما دعا تركيا إلى التحرك من أجل تفكيك التحالف وإفراغه من جدواه ومحتواه.

عموماً؛ رغم الإعلان عن رفع مستوى العلاقات مع إسرائيل، إلا أن تركيا لم ولن تتخلى عن مسؤوليتها تجاه القضية الفلسطينية، كما أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الثلاثاء الماضي، وستستمر في تقديم المساعدة على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والإعلامية، ودعم الرواية الفلسطينية، ومنظور الحل المتفق عليه “حل الدولتين”.

مع استعدادها لدعم أي تحرك فلسطيني في هذا الصدد، كما قيل صراحة للرئيس محمود عباس في زيارته أنقرة مؤخراً، التي تقيم كذلك علاقات جيدة مع حماس، وكانت نصحتها أساساً اتباع الوسائل السياسية والدبلوماسية مع المقاومة الشعبية” نموذج الشيخ جراح”. ما يقال عن إبعاد قادة الحركة غير صحيح، علماً أن وجود أي نشاط ذي طابع أمني وعسكري على الأراضي التركية غير دقيق، ولم يكن أساساً من قواعد التفاهم التركي الحمساوي.

هذا إضافة إلى الإعلان عن المضي قدماً في دعم الاقتصاد الفلسطيني، ورعاية مشروعات تنموية في الضفة الغربية وغزة، مع مساعدات خاصة لدعم الصمود الفلسطيني في القدس المحتلة؛ تعليمية وصحية واجتماعية أخرى، ودعم مماثل في الأراضي المحتلة عام 1948، وصيانة وترميم المؤسسات والمباني الأثرية والتاريخية ضمن الحفاظ على الذاكرة والرواية الفلسطينية تجاه الصراع.

في كل الأحوال، كان العبء ولا يزال ملقى أساساً على عاتق الفلسطينيين وقياداتهم السياسية بشكل عام، لبلورة سياسة واستراتيجية واضحة متماسكة وعملية لإدارة الصراع مع إسرائيل، ومن ثم طلب الدعم العربي والإسلامي لها.

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".