عندما تشيخ الجدران..

محمد الكايد

6 رجال كل واحد منهم بحجم أمة، يحمل في داخله آمالا وأحلاما لا أظن أن هذا الكون يتسع لها، دخلوا إلى المعتقلات في ريعان شبابهم، وأكلت الزنازين الضيقة وأقبية التحقيق من أعمارهم ما أكلت، واستهلكت قضبان السجون وأرضياتها الباردة من أجسادهم ما استهلكت، وغزا الشيب مفارقهم لكن شيئا لم يفارقهم، ابتسامتهم التي تغيظ العدو، وعزيمتهم التي يتعجب منها سجانهم كما يتعجب منها العالم أجمع، حتى راودنا الشك هل هم من في السجن أم نحن، لمعان الحرية والكرامة دوما بأعينهم، وحسرات الخذلان والذل دوما بأعيننا.

ورغم الأحكام الجائرة التي صدرت بحقهم ظلما وعدوانا فإن بهم من التفاؤل والأمل ما يحتاجه شاب يقف أعلى بناية شاهقة ليلقي نفسه بعد أن ضاقت به الحياة، وفيهم من الرجولة ما يحتاجه ذلك الذي يُقطّع شرايين يده حين تتركه حبيبته التي عرفها منذ 20 يوما ولا ينظر لأولئك الأبطال الذين يقبعون في سجون الظالمين منذ 20 عاما.

في عروقهم تسيل دماء الحرية التي نحتاجها جميعا حين نصمت على الذل والمهانة ونحن نرى العدو ينكل بنا ويستبيح أرضنا ومقدساتنا ولا نتفوه بكلمة، لا بل وصلنا من الانحطاط ما جعل بعضنا يؤيد أعداءنا ويدافع عن ظلمهم كأنه واحد منهم قد سجد جده لعجل السامري.

لم نتعلم من أولئك الأبطال شيئا، والحمد لله أنهم لم يتعلموا منا شيئا، بل يا ليتهم سلموا من شر أبناء جلدتهم وإخوانهم في الدين والوطن، فعندما لانت الأرض لهم وتفتت الصخر من تحتهم قست قلوب الخونة والعملاء وسلموهم للعدو دون أدنى مشاعر من الإنسانية.

ولعل تلك المجندة التي غفت عيناها عنهم ومروا من تحتها بها من الشرف وإن كان قليلا لكنه بالتأكيد أكثر من شرف ذلك الكائن الحقير الذي وشى بهم ودل العدو على مكانهم، وأكاد أجزم أن صفعات العدو وهراواتهم التي نزلت على أولئك الأبطال كالمطر لحظة الإمساك بهم وإن كان بها الكثير من الألم لكنها بكل تأكيد لا تعادل ألم الطعنة التي تلقوها ممن ظنوا أنه أخ لهم وسيكون عونهم في محنتهم، يا لقذارتنا التي ليس لها حد، رغم أنهم سجنوا ظلما وقضوا أكثر من نصف أعمارهم في زنازين المحتل وعندما يحفرون الصخر وينالون حريتهم تتحرك جينات الغدر والخيانة بداخلنا، وتستنفر الحقارة في جوانحنا ونسلمهم لأعدائهم حتى يذوقوا المرار أعواما جديدة في ظلمات من وراء ظلمات.

لكن لا تيأسوا أيها الأبطال فلن تنال طعنة الخونة من عزيمتكم، فما كلنا عملاء وخونة، بل فينا الكثير كانت قلوبهم معكم، ودعاؤهم لكم في جنح الظلام ما فارقهم، فلقد رسمتم بعضا من ابتسامة النصر على وجوهنا، ولقد أيقظتم الأمل فينا بعد أن غط في سبات عميق سنين طويلة، ولقد أحييتم ضمائرنا من موتها، لا تيأسوا يا أهل الكفاح والنضال، فلقد كتبتم تاريخا أبيض ناصعا مشرفا وسط صفحات سوداء من المهانة والعار، ولقد سطرتم معاني البطولة في معمعة الهزائم التي نعيشها، لا تحزنوا لأنكم أصبحتم قدوة لأطفالنا وفخرا لأمهاتنا وأملا لشبابنا، ولا تقلقوا أبدا لأنكم أصحاب الحق وأصحاب الأرض، فسواعدكم أقوى من القيد، وهاماتكم أعلى من جدران السجون، وأعينكم تبصر ما وراء الأفق لتصل عنان السماء، وصدقوني أنتم الأحرار لا نحن، وأنتم من تنعمون بالكرامة لا نحن، وتلك الزنازين التي تقبعون فيها أوسع من عالمنا، ابتسموا بافتخار فحق لكم ذلك، أما نحن فلنبكِ على خيبتنا ولنتحسر على التفريط بأمثالكم.

هي الحياة هكذا أيها الأبطال، هناك من يدفع الثمن دائما من عمره وصحته وزهرة شبابه، من يضحي بكل شيء من أجل مبادئه ووطنه ومقدساته، هناك من يرسم أحلاما لأمته، ويعبّد الطريق بجسده ليسير عليها غيره، هناك من يسقي الأرض بدمائه ودموعه من أجل أن تبقى حية يانعة مخضرة، هناك من يخلق من نفسه أسطورة تبقى مع الزمن ولا تنتهي، ويدون في صفحات التاريخ قصصا من البطولة تروى للأطفال قبل النوم ليعرفوا قدوتهم ويحلموا بالسير على خطاهم.

تهالكت أجسادنا من حملكم الثقيل وتطأطأت رؤوسنا من الصمت الطويل، ورسم الانكسار خطوطه بين تجاعيد وجهنا تنساب منه المرارة مع انسياب دموع الحسرة والقهر، أما أنتم فشباب رغم مرور السنين، ووجوهكم ناصعة رغم القيد ورغم أنوف السجانين، لن تضعفوا أبدا، ولن تتراجعوا أبدا، ولن تسلموا حياتكم لأقداركم أبدا، صدقوني يا عظماء سوف تشيخ الجدران من حولكم ولن تشيخوا أبدا.

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".