طغرل بك.. أين أنت من بغداد اليوم ؟

بقلم :اياد العطية – كاتب عراقي

في بداية القرن الثالث للهجرة بدأت الدولة العباسية بالضعف والإنحدار, وخيم عليها التمزق والتشرذم, وكان مقر حكمها ودار خلافتها في بغداد “دار السلام” التي بناها جدهم أبو جعفر المنصور سنة 145 هجرية, وبدأت تخرج عنها المدن والأقاليم معلنة دولها المستقلة عن الخلافة, وأصبح الأمراء وولاة الأقاليم يتقاتلون فيما بينهم بُغية السيطرة على الأراضي وتوسعة الملك, كما بدأت تظهر على الساحة الفرق والحركات الفكرية المنحرفة وتدعو علنا إلى معتقداتها التي تتعارض مع العقيدة الإسلامية علنا وعلى أراضي الخلافة الإسلامية, مثل القرامطة وغيرها, في حالة تعكس ضعف الدولة وتقهرها !.

وفي سنة 321 هجرية بدأت تظهر على الساحة قوى أخرى, وبدأت بالتوسع والانتشار في فارس, ثم سيطرت على ما حولها من المدن والأقاليم, وهي “الدولة البويهية” فانتشرت كانتشار النار في الهشيم, حتى دخل أحمد بن بويه إلى بغداد سنة 334 هجرية, وقلده الخليفة المستكفي بالله, الحكم, والسلطة, ولقبه ب “معز الدولة” وولاه الحكم على كل بلاد المسلمين, ولم يبق للخليفة من الخلافة إلا إسمها والخاتم الذي يحمله في يده, وخضعت الخلافة للدولة البويهية بشكل كامل! .

بغداد عاصمة الدولة العباسية, ومقر حكم الخليفة كانت منارة للعلم والفقه, إضافة إلى كونها مركزا عالميا للتجارة, قوية, منيعة,مهابة, كيف لا, وهي مركز الحكم ودار القرار, الدولة التي توسعت وملكت مشارق الأرض ومغاربها, قبل أن تأتي سنين الضعف والهوان والذل .

أصبحت بغداد في عهد الدولة البويهية, مدينة للبدع, والخرافات, والعقائد الفاسدة التي جلبها معهم البويهيون,وهي خليط من طقوس المجوس والوثنيين, وصارت أسيرة بيد هؤلاء الشراذمة!.

استمر حكم هؤلاء الأقزام قرابة 126 عاما, وكان نصيب بغداد من حكمهم 113 عاما, أذاقوا أهلها أصناف العذاب, وسادت عقائدهم الفاسدة في كل مكان, وانتشر السب والطعن والتكفير للصحابة رضوان الله عليهم أجمعين, وخربت بغداد, ولم تعد كما هي في زمن المنصور والرشيد والمأمون .

لقد سيطرت على بغداد الحروب الاهلية, والاقتتال الطائفي بين المسلمين, وبين غلاة الشيعة الذين غذت عقائدهم الفاسدة الدولة البويهية, لقد أدخلت هذه الدولة المشؤومة عقائد وبدعا لم يكن أهالي بغداد معتادين عليها حتى الشيعة منهم !.

لا تكاد تمر سنة من السنين حتى ينشب القتل بين الفريقين, فتُسفك الدماء, وتُحرق البيوت, وتُنهب الأموال, وتُخرب الأسواق, ولم يكن باستطاعة الخليفة أن يوقف ذلك أبدا, فلم يكن له سلطة فعلية إلا على خدمه وأهل بيته, والحكم خارج أبواب قصره في كل أمور الرعية للدولة البويهية قبحها الله .

وفي عهد الخليفة القائم بأمر الله, ظهرت قوة أخرى في بلاد فارس وبلاد الترك, وظهر اسم السلطان العادل طغرل بك السلجوقي التركي على الساحة, وبدأت قصص بطولاته تنتشر في أرجاء المعمورة, وهو يفتح البلدان, ويخضع الملوك, ويهدم القلاع .

وكان الخليفة القائم بأمر الله من خيرة خلفاء بني العباس دينا, وعلما, وأدبا, وشجاعة, ولكنه مغلوب على أمره, فالجيوش, والقوة, والأموال بيد الدولة البويهية وسلاطينها, فكتب كتابا إلى السلطان طغرل بك يستنجد به, ويحثه على دخول بغداد واستلام السلطة والحكم فيها, والقضاء على الدولة البويهية وتهديدات الدولة الفاطمية .

فاستجاب السلطان لأمر الخليفة, وسار بجيش عظيم إلى بغداد سنة 447 هجرية, واعتقل “الملك الرحيم” فور دخوله بغداد, وهو آخر ملوك الدولة البويهية, وحبسه في إحدى القلاع, وأعاد إلى بغداد هيبتها, وللخليفة حكمه, وخلافته, وسلطانه, وقلده الخليفة القائم بأمر الله السلطنة, وخوله في الحكم, ولقبه بملك المشرق والمغرب .

لقد خلص السلطان طغرل بك بغداد من حكم البويهيين, وقضى على الحروب الطائفية في بغداد, وأعاد الأمن والتعايش بين الناس مرة أخرى, ثم خرج يكمل مسيرته وغزواته باتجاه بلاد ما وراء النهر, وكذلك ليعيد أخاه إبراهيم إلى طاعته بعد أن تمرد عليه, فلحقه من بقي من الجند, فخلت بغداد من أي قوة تحميها, فاستغل هذا الفراغ الأمني اللعين “البساسيري” وهو قائد عسكري تركي له قوته وسطوته وجيشه, وقد تمرد على الخلافة العباسية, وبايع الدولة الفاطمية في مصر, فبدأ بقتال المدن واخضاعها للدولة الفاطمية, وكان ظالما متجبرا, فسار بجيشه باتجاه بغداد, فاضطربت المدينة, وخرج أهلها حاملين أموالهم ومتاعهم, خائفين من بطش هذا الطاغية الطائفي الحاقد, حتى باتوا في الشوارع والطرقات, مشهداً يعكس ظلم هذا الطاغية وتجبره .

وفي سنة 450 هجرية دخل البساسيري بجيشه من جانب الكرخ, وهو يحمل رايات الدولة الفاطمية, وشعاراتهم, فاستقبله غلاة الشيعة وأدخلوه المدينة فرحين بقدومه, فعاث في المدينة فسادا, وقتلا, ونهبا, وتخريبا لكل معالم المدينة وأهلها, وحاصر الخليفة في قصره محاولا قتله, وقد تجمع كثير من أهالي بغداد للدفاع عنه, وحصلت مجازر على باب قصره, حتى استطاع

رئيس الرؤساء أن يفاوض قريش بن بدران, الذي تعاون مع البساسيري في دخول بغداد, فأمن قريش بن بدران على سلامة الخليفة, ثم حصل الاتفاق بينها على اعتقال الخليفة ونفيه إلى الأنبار لحين الاتفاق حول مصيره, شريطة أن يسلم بن بدران رئيس الرؤساء للبساسيري, وتم تسليم رئيس الرؤساء فعذبه البساسيري عذابا شديدا, وصلبه حتى مات رحمه الله, وسير الخليفة إلى الأنبار معتقلا .

فعادت بغداد مرة أخرى أسيرة ذليلة, وخٌطب للدول الفاطمية في مساجدها, وعادت إلى بغداد الحروب الطائفية, والإقتتال المذهبي, حتى أُثقل على الناس كثرة القتل, والنهب, والتخريب, واستمر هذا الحال سنة كاملة, حتى استطاع السلطان العادل أن ينهي حروبه في بلاد فارس, وكان قد وصلته أخبار بغداد, فشمرعن ساعديه, وجيش الجيوش وسار باتجاه بغداد عازما على تحريرها, فكتب السلطان إلى قريش بن بدران فحيده .

فارتجف هؤلاء المحتلون عندما سمعوا بتحرك ملك المشرق والمغرب السلطان طغرل بك باتجاه بغداد, فخرج قريش بن بدران الى الموصل بعد أن أخذ الأمان من السلطان, وفر الطاغية البساسيري إلى واسط وتجحفل بجيوشه هناك, ولما انتقل البساسيري من بغداد صحبه أهل الكرخ من غلاة الشيعة, وانحدروا في دجلة إلى واسط, خائفين على أنفسهم من غضب طغرل بك, بعد أن ساندوا البساسيري في ظلمه للخليفة وأهالي بغداد, حتى سهلوا عليه احتلالها, وأعلنوا ولاءهم للدولة الفاطمية, كما كان ولاؤهم من قبل للمحتلين البويهيين .

ثم دخل السلطان طغرل بك بغداد سنة 451 هجرية بجيش عظيم وكان يوما مشهودا, أعز الله به المؤمنين وأذل به أعداءه, وأرسل السلطان إلى الخليفة مراكب كثيرة من أنواع الخيول وغيرها، وسرادق عظيمة، وملابس فاخرة, وكل ما يليق بالخليفة في السفر، وأمر الوزير عميد الملك الكندري باعادة الخليفة إلى مقر خلافته في بغداد عزيزا كريما موقرا, بعد أن نفاه المحتلون إلى الأنبار وكادوا يقتلونه .

وبعد أن انتهى السلطان طغرل بك من ترتيب أوضاع بغداد, واعادة الخليفة القائم بأمر الله إلى مقر حكمه وخلافته, عزم على ملاحقة البساسيري الذي تجحفل في واسط, فأعد جيشا وأرسله باتجاه الكوفة خشية أن يفر البساسيري إلى الشام, وخرج هو بجيش آخر باتجاه واسط, وقدم السرية الأولى لقتاله, فلقوه بأرض واسط، فاقتتلوا هنالك، وانهزم أصحابه، ونجا البساسيري بنفسه على فرس، فتبعه بعض الغلمان، فرموا فرسه بالسهام، وأسقطوه على الأرض فقتله أحد الغلمان وحز رأسه، وحمله إلى السلطان، وأخذت الأتراك من جيش البساسيري من الأموال ما عجزوا عن حمله.

ولما وصل رأس هذا اللعين إلى السلطان طغرل بك أمر أن يرسل إلى بغداد, وأن يُطاف به في المدينة، وأن يخرج الناس والنساء للفرجة عليه، ليكون عبرة لغيره .

هذا جانب من تاريخ بغداد, وكيف أنها خضعت للمحتلين الذي أذاقوها مر العذاب, مشاهد ربما تتشابه مع مشاهد بغداد اليوم !

بغداد عندما كان أهلها يعيشون بسلام, ووئام, وتلاحم, بغض النظر عن معتقداتهم وإن اختلفوا فيها, فلن يصل الأمر إلى الإقتتال والتحزب, وكان من أهم أسباب هذا الأمن, والأمان هو وجود السلطان, الذي يهمه أمر الرعية, ولا يسعى لبث القتل فيهم, معتقدا أن سلامة الرعية من أهم أسباب بقاء ملكه, إن لم تكن سلامتهم دينا وعقيدة, وعندما حل مكانه سلطان آخر, أمثال البويهي و البساسيري, كثر القتل في الناس, وكثر النهب, وسيطر التحزب الطائفي والاقتتال المذهبي على المدينة !.

حالة تجعلنا نعتقد يقينا أن ما يحصل في بغداد اليوم, والحال المتردي لأهل العراق عموما, هو بسبب وصول هؤلاء الشرذمة إلى السلطة والحكم, وتحكمهم بمصائر الناس وحياتهم وأموالهم .

لم يستطع الخليفة الصالح القائم بأمر الله ولا حتى أبوه الخليفة العادل القادر بالله أن يزيحوا ملك وسلطان البويهيين, بالسياسة, والتفاوض, والسلم, بل كان عجزهم عن مواجهتهم بسبب ضعفهم وقلة حيلتهم, وعدم امتلاكهم لأي مصدر للقوة والمال, أما التفاوض والهدنة فما زادتهم إلا ضعفا وذلا ! .

لم تستطيع بغداد أن تتخلص من الدولة البويهية, وتقضي على خطر الدولة الفاطمية الذي مثلها البساسيري, إلا عندما أمتلك السلطان طغرل بك القوة, والجيش, والمال, فدخل بغداد باسمه وسمعته ورهبة الاعداء منه, حتى أنه لم يحتج أن يخوض حربا ضدهم في بغداد, فقد سلم إليه الملك البويهي “الملك الرحيم” بغداد دون قتال, عندما عرف عجزه عن قتاله .

وعندما أغار البساسيري على بغداد واحتلها لسنة كاملة, ونفى الخليفة إلى الأنبار, فر منها فراره من الأسد عندما سمع بتحرك السلطان طغرل بك “صاحب القوة” باتجاه بغداد, فحمل أمواله, وأهله, وصحب معه الخونة والعملاء الذين ساندوه عندما دخل بغداد واحتلها, وفر منها باتجاه واسط !.

لن ينفع بغداد اليوم الذي لم ينفعها في الأمس, قبل دخول طغرل بك, ولن تستطيع بغداد ولا مصلحوها أن يزيحوا عنها محتليها اليوم, بما لم يستطع الخليفة آنذلك ولا من سبقه من السياسيين أن يزيح البويهيين عنها !

إن من يمتلك القوة والقدرة على التغيير بما يناسب المرحلة, هو وحده من يستطيع أن يغير المعادلة على أرض بغداد اليوم, لا تنفعنا المداهنات, ولا تجدي نفعا السياسات, ولن يخرج محتلو بغداد بالمعاهدات, يلزمنا نحن أهل العراق ما كان عند السلطان طغرل بك, فسلام له مني, ودعوتي له أن يعيد جيشه إلى بغداد ؟ .

شاهد أيضاً

في رمضان المقاطعة وغزة غيرتا من خيارات استهلاك الأردنيين

دراسة _ نسبة 93_ من الأردنيين يشاركون في المقاطعة الإقتصادية