سيطرة الحاكم المستبد على الاوقاف في بلداننا

بقلم : عبد الرحمن يوسف

نحن العرب والمسلمين لنا فلسفة في الحكم، ولنا أساليب وأعراف امتدت لقرون، وهذه الفلسفة السياسية التي جاء بها الإسلام تفصل بين الحاكم والمحكوم، فتجعل للأمة وجودا أكبر من وجود الحاكم، وتجعل للأمة مؤسساتها التي تستطيع أن تستمر بها حياتها حتى لو ضعفت الدولة أو انهارت، أي أن الأمة في فلسفة الحكم الإسلامي أهم من الحاكم، وقوة الأمة أعظم من قوة الدولة.. لأن الدولة في حقيقتها ليست إلا وسيلة لبقاء الأمة، والحاكم ما هو إلا خادم للناس.
للأمة مؤسساتها، ومن أهم ما يميز هذه المؤسسات التي تملكها الأمة أنها مستقلة؛ مستقلة في تمويلها بالدرجة الأولى، وبالتالي مستمرة في قراراتها وتوجهاتها إلى حد كبير.
لذلك للأمة مؤسساتها، ومن أهم ما يميز هذه المؤسسات التي تملكها الأمة أنها مستقلة؛ مستقلة في تمويلها بالدرجة الأولى، وبالتالي مستمرة في قراراتها وتوجهاتها إلى حد كبير.

كانت الأمة لا الدولة هي من يقوم بالخدمات الأساسية للمجتمع، وذلك من خلال الأوقاف. والأوقاف لم تكن عملا اعتباطيا أبدا، بل كان الناس يملكون حسا اجتماعيا سياسيا خيريا لا مثيل له، تربى هذا الحس عبر مئات السنين من تجارب الوقف.

الحاكم حين يسيطر على المال بإمكانه أن يمنح الشعراء الذين يمدحونه مئات الملايين من الدراهم من خزينة الدولة في الوقت الذي يجوع فيه الناس ولا يكادون يجدون قوت يومهم، أما أوقاف الناس ووجهاء المجتمع وأعيانه.. فمن المستحيل أن تجد فيها واقفا يقف ماله من أجل أمر غير مفيد.

ستجد في تاريخ الأوقاف في التاريخ الإسلامي بعض الواقفين الذين وقفوا بعض أموالهم من أجل الكلاب والقطط الحيوانات الضالة، وستجد بعضهم قد وقفها من أجل حاجات الناس حتى لو كانت بسيطة، مثل إناء فخار انكسر من خادم ذهب ليشتري لسيده غرضا ما.. هذه الأوقاف ليست سفها، بل هي مؤشر يوضح رفاهية المجتمع في ذلك الوقت، أي أن حاجات المجتمع الأساسية في ذلك الوقت كانت مشبعة، وأصبحت هذه الأمور بمقاييس ذلك الوقت مقبولة.
كان من أهم ما قامت به دولة الاستبداد في الوطن العربي كله، أن اخترعت اختراعا ملعونا اسمه “وزارة الأوقاف”.. وهو مجرد بوابة لسرقة هذه الثروات التي لا حصر لها، وجعلها بأمر السلطان، فلا ينفق وقف من ريعه على أي شخص غضب السلطان عليه
كانت الأوقاف مؤسسة تكفل التعليم المجاني للطلاب النابهين، وذلك حتى فترة قريبة قبيل الخمسينات من القرن العشرين (والدي فضيلة الشيخ القرضاوي حفظه الله أحد هؤلاء التلاميذ)..

جزء ضخم من عمل وزارة الموارد المائية كان تمويله من الأوقاف، من خلال أوقاف تنفق على صيانة الترع والجسور وغيرها، وكانت كل هذه الأوقاف تتحرك باستقلالية شبه كاملة عن الدولة..

لذلك كان من أهم ما قامت به دولة الاستبداد في الوطن العربي كله، أن اخترعت اختراعا ملعونا اسمه “وزارة الأوقاف”.. وهو مجرد بوابة لسرقة هذه الثروات التي لا حصر لها، وجعلها بأمر السلطان، فلا ينفق وقف من ريعه على أي شخص غضب السلطان عليه.

لقد جردوا المجتمع من مؤسساته التي كانت تخدمه.. وأصبح كل شيء بيد الدولة، بيد الأجهزة الأمنية للدولة، وبالتالي لن يتمكن طالب مجتهد من نيل مستحقاته من الوقف المخصص لأمثاله إلا إذا كان عبدا ذليلا لأجهزة الأمن تلك، أو على الأقل إلا إذا ثبت أنه من غير المغضوب عليهم..

لقد أصبح كل شيء في عنق الدولة، لو انهارت هذه الدولة، أو ضعفت، أو أصبح على رأسها عميل فاجر، أو لو اهتز أداؤها بسبب جائحة أو كارثة طبيعية.. سترى الناس لا حول لهم ولا قوة، لا يملكون إلا جهودا مبعثرة، وطاقات مهدرة، ولا يكادون يجدون وسيلة منظمة ليسعفوا أنفسهم، ويغيثوا أحبابهم.

* * *

استفاد الحاكم من تأميم الأوقاف ثروات لا حدود لها، فهذه الأوقاف تمثل مدخرات الأمة منذ قرون،.هناك أوقاف في مصر والشام والعراق عمرها ألف سنة وأكثر، وهي اليوم بيد لصوص المال العام يتحكمون فيها كيف شاؤوا.
استفاد الحاكم من تأميم الأوقاف ثروات لا حدود لها، فهذه الأوقاف تمثل مدخرات الأمة منذ قرون،.هناك أوقاف في مصر والشام والعراق عمرها ألف سنة وأكثر، وهي اليوم بيد لصوص المال العام يتحكمون فيها كيف شاؤوا
كم من قصور ومزارع وأراض وضِيَع كانت وقفا لخير الناس نهبها الضباط الذين يحكمون وأصبحت ملكا للدولة، ثم بعد ذلك يخترعون من الأسباب لنقل ملكيتها لفرد من أصحاب النفوذ بـ”تراب الفلوس”، بمزاد مصطنع.. كم من آثار تاريخية سُرقت وبيعت في الأسواق السوداء تحت إشراف هذه العصابات المنظمة التي تحكم الوطن العربي كله..

* * *

في مصر الآن محاولات لهدم مقابر الإمام الشافعي، وهي أرض موقوفة منذ قرون، أرض لا يملك حاكم أن يتصرف فيها بأي شكل من الأشكال، مر عليها عشرات الأنظمة، ومئات الحكام، ولم يفكر أحد في الاعتداء عليها..

هذه المقابر فيها من الإبداع الفني ما لا يفوق الوصف، إبداع في البناء، وفي الخط العربي، وفي الزخرفة الإسلامية.. ثروة عمرانية تاريخية لا تقدر بمال.. ولو كان عند هؤلاء الضباط أي قدر من العلم والفهم.. لحولوا هذه المقابر إلى مزارات تدر المليارات (طالما همهم كله محصور في المال).. ولكن جهلهم الفطري وغباءهم الطبيعي أكبر من أن يؤهلهم للتفكير في مثل هذه الأمور.

يرتكبون هذه الجرائم ببرود تام، لأنهم لا يشعرون بالانتماء لهذه الأرض. ويعلمون أنهم زائلون، لذلك يتصرفون كما يتصرف المحتل.. بل أسوأ..
يرتكبون هذه الجرائم ببرود تام، لأنهم لا يشعرون بالانتماء لهذه الأرض. ويعلمون أنهم زائلون، لذلك يتصرفون كما يتصرف المحتل.. بل أسوأ
مقابر القاهرة – ومنها مقابر الإمام الشافعي – تعتبر جزءا من وجه مدينة القاهرة، وإزالة أي جزء فيها كأنه ضربة سكين في وجه امرأة حسناء، ومن يقوم بمثل هذه الاعتداءات لا يمكن أن يكون مصريا أو وطنيا.. كل ذلك من أجل “كوبري” مزعوم، وجوده كعدمه..

مقابر الإمام الشافعي تراث لا يمكن حصره، فيها قبر الإمام الشافعي، ومئات من الشخصيات التاريخية، والأولياء، والولاة، والفقهاء، والأولياء وآحاد الناس من أسر مصرية على مر العصور، والاعتداء على هذه المقابر هو جزء من الإجراءات التي تتخذها الحكومات العربية من أجل السيطرة والاستمرار في الحكم، وذلك بتأميم مؤسسات الأمة، وتحويلها لمجرد ثكنات عسكرية تأتمر بأمر ضابط عميل يسكن القصر الرئاسي..

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".