سجن التميز.. كيف تنشئ طفلا معقدا دون أن تشعر؟

سارة جمال

اعتاد الآباء على أساليب المقارنة بين الأطفال كوسيلة لتحفيزهم على الوصول إلى مستويات الكمال، حتى تحولت إلى روتين يومي يتكرر في مواقف مختلفة، كأن يقولوا “شقيقك أذكى منك”، و”أختك أكثر تهذيبا”، ظنا منهم أن المقارنة ستؤتي ثمارها في تحفيز الطفل وتشجيعه على التميز.

لا تقتصر قائمة المقارنات بين الأبناء على ذلك فحسب، وإنما تتسع في عالم المدرسة لمستويات أخرى تتعلق بالتحصيل الدراسي، ويصبح الأمر سباقا تنافسيا غير متكافئ الفرص، البعض ينجح في التميز بحسب معايير المدرسة، والبعض الآخر لا يمكنه اللحاق بركب المتفوقين ويتولد داخله شعور الإحباط والاستسلام.

سجن التميز للأطفال
تقول الاستشارية النفسية سحر طلعت “هذه بعض أشكال المقارنات السائدة في مجتمعاتنا، ليست الوحيدة، ولكن السمة الغالبة فيها أنها تميز لصالح طفل ضد طفل آخر. إما بسبب بعض السلوكيات أو بعض المقومات الجسدية، وكثر الحديث عن خطورة وضرر التميز السلبي على نفسية الطفل، وكيف أنه يهز ثقته بنفسه ويدمر إحساسه بقيمته”.

وأضافت طلعت “لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل يقع الضرر على الطفل الأضعف فقط، وماذا عن الطفل المثالي المقارَن به، ذلك الطفل الذي نصفه بالمهذب والذكي المطيع والأجمل والخفيض الصوت؟ وماذا عن الطفلة الجميلة ذات الشعر الناعم والبشرة الفاتحة، وماذا عن الأطفال التي كانت المقارنة دوما لصالحهم؟ هل نتيجة هذه المقارنات إيجابية عليهم أم أن لها أيضا أضرارها على من وصفوا بالمميزين؟”.

تجيب طلعت “إن هذه المقارنات لا تضر فقط الطفل الذي تعرض للمقارنة السلبية ولكنها أيضا تضر الطفل الذي تعرض للمقارنة الإيجابية أيضا”.

وصول الأبناء لمستويات الكمال لن يتحقق لكنه يترك أثره النفسي السلبي في طفلك (مواقع التواصل)
وصول الأبناء لمستويات الكمال لن يتحقق لكنه يترك أثره النفسي السلبي في طفلك (مواقع التواصل)
وتابعت أن الطفل الذي تعرض للتمييز الإيجابي اعتاد أن يكون في منزلة ومكانة أعلى من أقرانه، فإذا كان الأهل ومجتمع المدرسة الصغير حققوا له هذه المكانة، فإن تحقيق نفس المكانة في الحياة أمر شبه مستحيل، إذ لا يوجد إنسان على وجه الأرض يمكن أن يكون مميزا طوال الوقت في كل ما يقوم به.

ولكن طفلنا الجميل أصبح مسجونا في “سجن التميز” -أيا كان نوع هذا التميز- وهو يسعى للحصول على هذه المكانة السامية دوما، يسعى أن يكون الأميز فيما يقوم به من أعمال، والأغنى الذي يمتلك ما لا يمتلكه الآخرون أو الأعلى درجات علمية.

تقول طلعت “خلال رحلة الوصول إلى هذه المكانة المثالية، تتكون الشخصيات الكمالية التي لا ترضى أبدا ولا تسعد بأي نجاح أو إنجاز تحققه لأنه ناقص، فلو كان الأول على فصله الدراسي فهو حزين لأنه لم يكن الأول على المدرسة، وقد يصل الأمر لأن يصل إلى هذا المستوى من التميز على حساب الآخرين، فيستخدم مهاراته وذكاءه في الإيقاع بالآخرين أو في التحقير من شأن إنجازاتهم أو قد ينسبها لنفسه”.

صراع القبول المشروط
أما عن تأثيرها عليه داخليا -بحسب طلعت- فإنه بات متكررا في غرف العلاج أن نجد الطفل الذي تعرض للتميز الإيجابي وصلت له رسالة قبول مشروط، “أنت مقبول لأنك مهذب أو متفوق دراسيا أو تمتلك ملامح شكلية مميزة”.

والطفل كأي إنسان بداخله كل المتناقضات، بداخله جزء مطيع وجزء متمرد، وجزء منظم ومجتهد وآخر كسول وفوضوي، وهو في أشد الاحتياج لأن يحصل على “القبول غير المشروط”، يحتاج لأن تصل إليه هذه الرسالة من والديه “نحن نقبلك بكل ما فيك، نقبل قوتك وضعفك، نقبلك كما أنت”، وهذه الرسالة هي التي ستساعد الطفل على أن يحقق الالتئام بين جميع أجزائه وأن يصل إلى التوازن والتناغم فيما بينها.

الفوضى وارتكاب الأخطاء حق لكل طفل لكي ينشأ سويا مبدعا (بيكسابي)
الفوضى وارتكاب الأخطاء حق لكل طفل لكي ينشأ سويا مبدعا (بيكسابي)
وتابعت “أما رسالة القبول المشروط فتخلق صراعا داخله يدفن الجزء التلقائي الحر المبدع، أو يدفن الجزء الغاضب، ودفنها لا يعني موتها، ولكنها تظل أجزاء من شخصيته مضطربة وقلقة، وقد تنفجر مسببة نوبات غضب مدمرة أو أشكالا من الأمراض النفسية المختلفة. وقد يعيش الطفل لا يقبل فشله وضعفه مما يجعله مهزوزا يخشى المغامرات والمواجهات، أو تجعله طفلا خانعا خاضعا، يعجز عن أن يقول لا، ويستسلم بسهولة في أبسط الأزمات ولا يستطيع أن يحمي حدوده”.

وختمت طلعت حديثها بأن المقارنات بين الأطفال تضر كل أطفالنا، وأكثر ما يحتاجه منا أطفالنا هو الحب والقبول غير المشروط، وعلى بساطة الكلمات فإن معناها ليس بسيطا. فالأهم ليس مجرد تنشئة أطفال يمتلكون صورة نموذجية دون أخطاء، فتظل حياتهم مهددة دائما بتحقيق هذا المستوى من المثالية، وإلا فقدوا مكانتهم المميزة لدى الآباء، فالأولوية دائما لتنشئة طفل سوي وليس طفلا مثاليا.

شاهد أيضاً

مقال بموقع بريطاني: هذه طريقة محاسبة إسرائيل على تعذيب الفلسطينيين

ترى سماح جبر، وهي طبيبة ورئيسة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية، أنه وسط تصاعد حالات تعذيب الفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، هناك حاجة ملحة إلى قيام المتخصصين في مجال الصحة بتوثيق مثل هذه الفظائع بشكل صحيح.