حواسيب خارقة في أدمغتنا.. هل يمكن لفيزياء الكم أن تفسر الوعي البشري؟

The Atlantic
مقدمة للترجمة:
على مدى مئات السنوات من التفكير الفلسفي والعلمي، لم يتمكَّن أحد من فهم لغز الوعي، هذه الحالة العادية جدا، والغريبة جدا، التي تدرك فيها أنك أنت مَن يقرأ هذا الكلام الآن، وأنك أنت مَن يتحدَّث مع هذا الشخص الواقف أمامك مع العلم بوجود انفصال بينك وبينه. مؤخرا، ظهرت بعض الفرضيات من عالم الكوانتم لتشرح إمكانية أن نُفسِّر ظاهرة الوعي بأنها نتيجة لعمليات كمومية مُعقَّدة، في هذه المادة نعرض لواحدة من أحدث تلك الفرضيات.

مادة الترجمة:
يبعث مجرد ذكر مصطلح “الوعي الكمي” في نفوس معظم الفيزيائيين شعورا بالذهول والرعدة، إذ يبدو أنه يُثير تأملات غامضة ومشوقة لمعالم العصر الحديث، وإذا ثبتت صحة الفرضية الجديدة عن الوعي الكمي، فإن هذا يعني أن التأثيرات الكمية تلعب بالفعل دورا مهما في عملية الوعي البشري.

في أواخر عام 2015، أثار الفيزيائي ماثيو فيشر من جامعة كاليفورنيا الانتباه حول الورقة البحثية التي نشرها في دورية “أنيلز أوف فيزيكس” (Annals of Physics) مُقتَرِحا أن اللف المغزلي لذرات الفوسفور يمكن أن يعمل بمنزلة كيُوبتات (وحدات كمية) بدائية في الدماغ، التي ستُمكِّن الدماغ من العمل مثل حاسوب كمي.

قبل عشر سنوات، رفض العديد من العلماء فرضية فيشر بوصفها هراء، ومع ذلك استطاعت هذه الفرضية أن تُثير حماس بعض علماء الفيزياء، وعلى رأسهم عالِم الرياضيات والكونيات الشهير روجر بنروز الذي اقترح عام 1989 أن التراكيب البروتينية الغامضة التي تُدعَى الأنيبيبات الدقيقة (Microtubules) لعبت دورا مهما في تشكيل الوعي البشري باستغلالها للتأثيرات الكمية.

لعبت الأنيبيبات الدقيقة دورا مهما في تشكيل الوعي البشري باستغلالها للتأثيرات الكمية
في الوقت الذي يرى فيه بعض الباحثين مثل الفيلسوفة الأميركية بجامعة كاليفورنيا “باتريشيا تشيرشلاند” أن مثل هذه الفكرة قد تبدو معقولة إلى حدٍّ ما، فإن فرضية فيشر تواجه العقبة الشاقة نفسها التي سبق أن واجهتها الأنيبيبات الدقيقة، وهي ظاهرة تُسمى فك الترابط الكمي (quantum decoherence). ‏فمثلا تعتمد الحواسيب الكمية على سلوك ذرات متناهية الصغر تُشكِّل وحدات متناهية الصغر تُسمى “الكيُوبتات” (qubits) أو “البتات الكمومية”، وعند بناء هذه الحواسيب ستحتاج إلى ربط عدة كيوبتات معا عن طريق خاصية تُسمى التشابك الكمي (entanglement).

لكن المشكلة أن هذه الكيوبتات المتشابكة توجد في حالة هشة، لذا لا بد أن تكون بعيدة كل البُعد عن أي ضوضاء قد تصل إليها من البيئة المحيطة، لأن مجرد اصطدام فوتون واحد بالكيُوبت سيكون كافيا لفك الترابط الكمي للنظام بأكمله، فيؤدي بدوره إلى تدمير التشابك ومحو خصائص الكم من النظام. تخيَّل معي أن من الصعب للغاية إجراء معالجة كمية في بيئة معملية شديدة الإحكام (وفائقة البرودة)، فما بالك بأدمغتنا التي تُمثِّل بيئة دافئة ورطبة يستحيل معها الحفاظ على الترابط لفترات طويلة.

ومع ذلك، ازدادت خلال العقد الماضي الأدلة التي تُشير إلى أن بعض الأنظمة البيولوجية تستعين بميكانيكا الكم، مثل عملية البناء الضوئي التي تلعب فيها التأثيرات الكمية دورا لمساعدة النباتات على تحويل ضوء الشمس إلى طاقة، كما لاحظ العلماء أيضا أن الطيور المهاجرة تملك “بوصلة كمية” تُمكِّنها من استغلال المجالات المغناطيسية الموجودة في الأرض للتنقل، فضلا عن حاسة الشم عند الإنسان التي لها جذور متعلقة بميكانيكا الكم.

تنسجم فكرة فيشر عن المعالجة الكمية في الدماغ البشري عامة مع هذا المجال المُستجَد لبيولوجيا الكم الذي أَطلَق عليه اسم “علم الأعصاب الكمومي”، وطوَّر من خلاله فرضيات معقَّدة تتضمَّن الفيزياء النووية والكيمياء العضوية وعلم الأعصاب وعلم الأحياء. في الوقت الذي شكَّك فيه الكثيرون بفرضية فيشر، قرَّر بعض الباحثين أن يُولوا انتباههم إلى هذه الفرضية بمنحها فرصة للتأمل.

تعليقا على ذلك، كتب جون بريسكيل، الفيزيائي في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا: “إن أولئك الذين قرأوا ورقة فيشر البحثية سيدركون حتما أن هذا الرجل العجوز ليس مجنونا كما وصفته معظم الأوساط العلمية، لعله يُخطِّط لشيء ما يحاول تفسيره، كما أن فرضيته على الأقل تُثير بعض التساؤلات المهمة للغاية”.

كان أحد العلماء الذين ساورهم الشك إزاء فرضية فيشر هو سينثيل تودادري، عالِم الفيزياء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وصديق فيشر منذ فترة طويلة. رأى تودادري أن فيشر أعاد صياغة السؤال المحوري: “هل تحدث بالفعل عمليات معالجة كمية في الدماغ؟”، وأن طريقة الصياغة هذه ساعدت في اختبار الفرضية، وعن هذا يقول: “كان الافتراض القائم وقتها في جميع الأوساط العلمية يرفض احتمالية وجود عملية معالجة للمعلومات الكمية في الدماغ، إلى أن جاء فيشر ليُشير إلى وجود ثغرة واحدة في هذا الافتراض، لذا كنا نترقَّب الخطوة التالية لمعرفة ما إذا كان بإمكانه سد هذه الثغرة”. وبالفعل بدأ فيشر في جمع فريق لإجراء اختبارات معملية لتقديم إجابة نهائية عن هذا السؤال.

ينحدر فيشر من أسرة رائدة في مجال الفيزياء، فوالده الفيزيائي البارز بجامعة ماريلاند “مايكل فيشر” الذي حاز على العديد من التكريمات والجوائز على مدار حياته جرَّاء عمله في الفيزياء الإحصائية. أما شقيقه دانيال فيشر فهو عالم الفيزياء التطبيقية بجامعة ستانفورد، والمتخصِّص في مجال الديناميكا التطورية، وجاء من بعدهما ماثيو فيشر ليسير على خُطاهما مُحقِّقا نجاحا باهرا في مجال الفيزياء بحصوله على جائزة أوليفر باكلي عام 2015 عن أبحاثه حول انتقالات الطور الكمومي (جائزة أوليفر باكلي هي جائزة سنوية تمنحها الجمعية الفيزيائية الأميركية تقديرا وتشجيعا للإسهامات النظرية أو التجريبية البارزة في مجال الفيزياء).

الاكتئاب وبداية اكتشاف الحقائق

وفي خضم هذه النجاحات، قرَّر فيشر الابتعاد عن مجال الفيزياء وكل ما له علاقة بعلم الأحياء والكيمياء وعلم الأعصاب وفيزياء الكم بسبب معاناته مع مرض الاكتئاب. يتذكَّر فيشر بوضوح ذلك اليوم في فبراير/شباط عام 1986، عندما استيقظ وهو يشعر بالخدر والإنهاك الشديد وكأنه لم يذق طعم النوم منذ أسبوع. لم يساعده النوم الإضافي على التحسُّن، ولم يُحقِّق تعديل نظامه الغذائي وممارسة الرياضة أي فائدة، وأظهرت اختبارات الدم أن الأمور على ما يُرام ولا توجد مشكلة، لكنه مع ذلك ظلَّ يُعاني من الاكتئاب لمدة عامين كاملين واصفا هذه الفترة: “كنت كلما استيقظت عانيت من صداع نصفي يجتاح جسدي بأكمله دون رحمة”.

ازداد الأمر سوءا لدرجة أنه فكَّر في الانتحار، لكن أنقذته من هذه الأفكار ولادة ابنته الأولى وأعطته سببا للاستمرار في مقاومة هذا الاكتئاب. في النهاية، وجد طبيبا نفسيا وصف له علاجا مناسبا وبدأت حالته تتحسَّن ويتلاشى الألم تدريجيا، وفي غضون تسعة أشهر انبثق الأمل من رحم المعاناة وبدأ يشعر بأنه يُولد من جديد. أقنعته تجربته مع الاكتئاب أن العقاقير نجحت في شفائه، لكنه تفاجأ عندما اكتشف أن علماء الأعصاب لا يفهمون سوى القليل عن الآليات الدقيقة وراء كيفية عمل الدماغ البشري.

أثار ذلك فضوله، وبالنظر إلى خبرته في مجال ميكانيكا الكم، وجد نفسه يُفكِّر في إمكانية أن يكون للعمليات الكمية دور في الدماغ البشري. لذا قرَّر أن يُكرِّس وقته لمعرفة المزيد عن هذا الموضوع مُستفيدا من تجربته السابقة مع مضادات الاكتئاب باعتبارها نقطة انطلاق. لاحظ فيشر أن جميع الأدوية النفسية تقريبا مُكوَّنة من جزيئات معقَّدة، لذا قرَّر أن يُركِّز على أبسط أنواع العناصر وهو الليثيوم الذي يظهر على شكل كرة من الإلكترونات تُحيط بالنواة.

ركَّز فيشر على حقيقة أن الليثيوم المتاح في الصيدليات هو في الغالب نظير شائع يُسمى “الليثيوم -7″، وأحاله هذا الاستنتاج إلى التساؤل التالي: هل يمكن لنظير مختلف مثل “الليثيوم -6″، وهو الأندر، أن يعطي النتائج نفسها؟ من الناحية النظرية لا بد أن تكون النتائج متطابقة، لأن النظيرَيْن متطابقان كيميائيا والاختلاف بينهما فقط في عدد النيوترونات الموجودة بالنواة، لكن عمليا أثبتت التجارب أن تأثير النظيرَيْن مختلف تماما.

في عام 1986، درس العلماء في جامعة كورنيل الأميركية تأثيرات النظيرَيْن على سلوك الفئران الحوامل بإجراء دراسة قسَّموا فيها الفئران إلى ثلاث مجموعات، زوَّدوا المجموعة الأولى بـ “الليثيوم -7″، والمجموعة الثانية بـ “الليثيوم -6″، ولم تتلقَّ المجموعة الثالثة أي شيء لمقارنة النتائج بها. بمجرد ولادة الفئران الصغيرة، لاحظ العلماء أن الفئران التي تلقَّت “الليثيوم -6” أظهرت سلوكيات أمومة أقوى بكثير من الفئران التي تلقَّت “الليثيوم -7” ومن المجموعة التي لم يزوِّدوها بأي شيء.

هذه النتائج أدهشت فيشر الذي اعتقد أن السر قد يكمن في اللف المغزلي للنواة، وهي خاصية كمية تؤثر على مدة بقاء كل ذرة في حالة ترابط، أي بمعزل عن بيئتها، فكلما قلَّ اللف المغزلي، قلَّ تفاعل النواة مع المجالات الكهربائية والمغناطيسية حولها، وتباطأت سرعتها في فك الترابط.

استنادا إلى حقيقة أن “الليثيوم -7” يختلف عن “الليثيوم -6” في عدد النيوترونات، فإنهما بالتأكيد مختلفان أيضا في اللف المغزلي، وبالتالي يتفكَّك “الليثيوم -7” بسرعة كبيرة جدا لكي يحدث الإدراك الكمي، في حين يظل “الليثيوم -6” متشابكا لفترة أطول. اكتشف فيشر إذن مادتين متشابهتين في جميع الجوانب المهمة باستثناء اللف المغزلي الذي قد يُغيِّر تماما من تأثيراتهما على السلوك، وعدَّ ذلك إشارة لافتة إلى أن العمليات الكمية قد تلعب بالفعل دورا فعَّالا في العمليات الإدراكية.

ومع ذلك، فإن الانتقال من فرضية جديدة مثيرة للاهتمام إلى محاولة إثبات حقيقة أن العمليات الكمية تلعب دورا في الدماغ هو مجازفة، إذ يحتاج الدماغ إلى آلية لتخزين المعلومات الكمية في كيوبتات (البتات الكمومية) لفترة زمنية طويلة بما يكفي لتشابك الكيوبتات المختلفة، ولا بد لهذا التشابك أن يتمتع ببعض السبل المُمكنة كيميائيا للتأثير على كيفية تحفيز الخلايا العصبية بطريقة ما، بجانب ضرورة وجود بعض الوسائل لنقل المعلومات الكمية المُخزَّنة في الكيوبتات المنتشرة في جميع أجزاء الدماغ.

المشكلة أن هذا الأمر يصعب تحقيقه، فعلى مدار خمس سنوات قضاها فيشر في بحثه، لم يُحدِّد سوى عنصر واحد مؤكَّد يمكنه تخزين المعلومات الكمية في الدماغ وهو ذرات الفوسفور، العنصر البيولوجي الوحيد غير الهيدروجين الذي يملك لفًّا مغزليا منخفضا إلى الدرجة التي تُتيح فترات أطول من الترابط، لكن بشرط ربط الفوسفور بأيونات الكالسيوم لتمتد فترات ترابط ذراته وتُشكِّل مجموعات، لأن الفوسفور بمفرده لا يمكنه تكوين كيوبتات مستقرة.

أدلة على وجود الكيوبتات في الدماغ

في عام 1975، لاحظ آرون بوسن، العالِم بجامعة كورنيل الأميركية، وجود تكتلات غريبة من ذرات الكالسيوم والفوسفور في الأشعة السينية للعظام، فرسم نموذجا لتلك التجمعات مُكوَّنا من تسع ذرات كالسيوم وست ذرات فوسفور الذي أطلق عليه العلماء فيما بعد “جزيئات بوسنر” تكريما له. وفي الألفينيات، ظهرت هذه التكتلات مرة أخرى عندما أجرى العلماء نموذجا لمحاكاة نمو العظام في سائل اصطناعي ولاحظوا هذه التجمعات وهي تطفو على السائل. توصَّلت التجارب اللاحقة إلى دليل على وجود تكتلات مشابهة في الجسم، وهذا ما جعل فيشر يعتقد أن جزيئات بوسنر يمكن أن تكون بمنزلة كيوبت طبيعي في الدماغ أيضا.

هذه هي الصورة الكاملة للموضوع، لكن كما هو الحال دوما فإن الخطر الأعظم يكمن في التفاصيل الصغيرة التي أمضى فيشر السنوات القليلة الماضية في صياغتها. فعند متابعة العمليات التي تحدث في الخلية، سنجد أنها تبدأ بمركب كيميائي يُسمى “بيروفوسفات” (pyrophosphate) يتكوَّن من جزيئين فوسفات مرتبطين معا، وكل جزيء يتألف من ذرة فوسفور مُحَاطة بعدة ذرات من الأكسجين مع لف مغزلي مقداره صفر.

يؤدي التفاعل بين اللف المغزلي لجزيئات الفوسفات إلى تشابكها بأربع طرق مختلفة: ثلاث منها تجعل محصلة العزم المغزلي تساوي واحدا ويُطلَق عليها “الحالة الثلاثية” (triplet state)، ويكون التشابك فيها ضعيفا جدا. أما الاحتمال الرابع فإن محصلة اللف المغزلي فيه تساوي صفرا، وهي الحالة المنفردة أو الحالة الأحادية (singlet state) التي يُحقِّق فيها التشابك أعلى درجة ممكنة، وهذا أمر بالغ الأهمية في الحوسبة الكمومية (مثل الحوسبة العادية، تحتاج الحوسبة الكمية إلى لغة تتكوَّن من أصفار وآحاد).

بعد ذلك، تُفكِّك الإنزيمات جزيئات الفوسفات المتشابك إلى أيونين من الفوسفات الحر، ومن المفارقات العجيبة أن هذه الجزيئات تظل متشابكة كميًّا حتى بعد انفصالها. يرى فيشر أن هذه العملية تحدث بسرعة أكبر في الحالة الأحادية، فتتحد هذه الأيونات بدورها مع أيونات الكالسيوم وذرات الأكسجين لتكوين جزيئات بوسنر.

ولأن ذرات الكالسيوم أو الأكسجين لا تحتوي على لف مغزلي للنواة، فإن ذلك يحافظ على أن تبقى محصلة اللف المغزلي الكلي مساوية للنصف، فيساعد ذلك في إطالة أوقات الترابط، ونستنتج من ذلك أن وظيفة هذه التكتلات أو التجمعات تتمحور حول حماية الأزواج المتشابكة من التدخل الخارجي، فيسهل عليها الحفاظ على الترابط لفترات أطول بكثير قد تستمر تقريبا لساعات أو أيام أو حتى أسابيع (وهو ما يحاول صديقنا إثباته).

بهذه الطريقة يمكن توزيع التشابك عبر مسافات طويلة نسبيا في الدماغ، فيؤثر ذلك على إطلاق النواقل العصبية وتحفيز الوصلات العصبية (أو نقاط الاشتباك العصبي) للخلايا، وهو ما نعتبره عملية مُذهِلة ومُخيفة تحدث في الدماغ البشري. إن الباحثين الذين يعملون في مجال بيولوجيا الكم مفتونون باقتراح فيشر، ومنهم على سبيل المثال ألكسندرا أولايا كاسترو، عالِمة الفيزياء في كلية لندن الجامعية التي علَّقت على فرضية فيشر بقولها: “إنها فرضية مدروسة جيدا، ورغم أنها لا تعطيك إجابات واضحة، فإنها تُفجِّر أسئلة قد تقودنا فيما بعد إلى طريقة تساعدنا في اختبار خُطوات معينة في الفرضية”.

في السياق ذاته، يقول بيتر هور، عالِم الكيمياء بجامعة أكسفورد، الذي يبحث فيما إذا كانت أنظمة الملاحة للطيور المهاجرة تستفيد من التأثيرات الكمية: “فيشر هو عالم فيزياء نظرية اقترح جزيئات معينة وآليات مُحدَّدة، سالِكا السبل كافة لتفسير كيف يمكن لهذه الآليات أن تؤثر على نشاط الدماغ، وهذا يُتيح الفرصة أمام إمكانية إجراء الاختبارات التجريبية”.

الاختبار التجريبي للنظرية

الفيزيائي ماثيو فيشر من جامعة كاليفورنيا
إن الاختبار التجريبي هو ما يحاول فيشر فعله الآن، فقد قرَّر أن يُمضي إجازة انضم فيها إلى باحثين من جامعة ستانفورد ليُكرِّروا هناك تجربة الفئران الحوامل التي حدثت عام 1986، لأنه يرى أن النتائج الأولية لهذه الدراسة كانت مُخيِّبة للآمال بسبب افتقارها إلى الكثير من المعلومات، لكنه في الوقت ذاته يؤمن بأن تكرار الدراسة مع بروتوكول أقرب إلى تجربة 1986 الأصلية سيجعل النتائج أكثر حسما.

تَقَدَّم فيشر بطلب للحصول على تمويل لإجراء مزيد من التجارب المُتعَمِّقة في كيمياء الكم بالتعاون مع مجموعة صغيرة من العلماء في مختلف التخصصات ومن مختلف الجامعات، وأكثر ما يشغل بال فيشر الآن هو التحقُّق مما إذا كان فوسفات الكالسيوم بالفعل يُشكِّل جزيئات بوسنر المستقرة، وما إذا كان يمكن للف المغزلي لأنوية الفسفور أن يخلق تشابكا بين هذه الجزيئات لفترات طويلة.

ولكن حتى بيترهور وأولايا كاسترو يساورهما الشك إزاء افتراض فيشر الأخير عن تشابك الجزيئات لفترات طويلة، وعن هذا تقول أولايا كاسترو: “لأكون صريحة، أعتقد أن من المستبعَد جدا أن توجد فترات تشابك طويلة، لأن أطول مدة زمنية لها علاقة بالنشاطات البيوكيميائية لم تتخطَّ الثواني، وهذا وقت طويل جدا بالمناسبة” (تُخزِّن الخلايا العصبية المعلومات لمدة مايكرو ثانية في الحد الأقصى).

يتفق هور مع وجهة النظر هذه أيضا، ويرى أن الترابط يمكن أن يدوم في أحسن الأحوال لمدة ثانية واحدة فقط، فيُعلِّق قائلا: “إن اعتراضنا على هذه النقطة لا يُفسِد الفكرة برُمَّتها، ولكن كل ما هنالك أن فيشر يحتاج إلى جزيء مختلف للحصول على فترات ترابط أطول، وأعتقد أن جزيئات بوسنر لا تُحقِّق هذا الغرض، لكنني مُتشوِّق لمعرفة كيف ستسير الأمور”.

على الجانب الآخر، يرى علماء آخرون أنه لا داعي للاستعانة بالعمليات الكمية لشرح وظيفة الدماغ، ومنهم على سبيل المثال بول ثاغارد، الفيلسوف في علم الأعصاب بجامعة واترلو في كندا، الذي صرَّح لمجلة “نيو ساينتست” مُبدِيا اعتراضه على فرضية فيشر بقوله: “تتزايد الأدلة حول إمكانية شرح كل شيء يتعلَّق بالعقل من خلال دراسة التفاعلات بين الخلايا العصبية، ولا حاجة هنا إلى المعالجات الكمية”.

تتطلَّب العديد من جوانب فرضية فيشر فحصا أعمق، لذا فهو يأمل أن يتمكَّن من إجراء التجارب لتحقيق ذلك. ربما يُحيلنا هذا إلى بعض التساؤلات المهمة على غرار: هل بنية جزيئات بوسنر متماثلة؟ وإلى أي مدى يمكن للفات المغزلية للأنوية أن تكون معزولة؟ والأهم من ذلك كله، ماذا لو أثبتت كل هذه التجارب أن فرضيته خاطئة؟ هل سيحين الوقت للتخلي عن فكرة الوعي الكمي تماما؟

في النهاية، يحسم فيشر الجدل حول هذه الأسئلة مُصرِّحا: “أعتقد إن لم ينجح الأمر مع اللف المغزلي لنواة الفسفور في المعالجة الكمية، فإن ميكانيكا الكم لن يكون لها تأثير فعَّال على عمليات الإدراك لزمن طويل، لذا أهم شيء حاليا هو محاولة التوصُّل إلى نتيجة تحسم الجدل”.

———————————————————

هذا المقال مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: سمية زاهر.

المصدر : مواقع إلكترونية

شاهد أيضاً

مقال بموقع بريطاني: هذه طريقة محاسبة إسرائيل على تعذيب الفلسطينيين

ترى سماح جبر، وهي طبيبة ورئيسة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية، أنه وسط تصاعد حالات تعذيب الفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، هناك حاجة ملحة إلى قيام المتخصصين في مجال الصحة بتوثيق مثل هذه الفظائع بشكل صحيح.