حريق الأقصى.. ذاكرة اللهب وذكريات المرابطين

أمين حبلّا

رغم مرور خمسين عاما على حريق الأقصى لا يزال اللهب المتصاعد يؤطر العلاقة بين المقدسيين والأقصى، ولا يزال دخان الأروقة المقدسة في المسجد الذي صلت فيه الأنبياء والصحابة، يملأ الأفق ويدفع المقدسيين كل حين إلى أن يحيطوا بالأقصى إحاطة السوار بالمعصم، والحب بالشغاف، والأشواق بأفئدة المرابطين بالأقصى المبارك وحراسه الذين التفوا حول الأقصى وزيتونه السامق منذ أن قرر صهيوني حاقد أن يحرق الحرم الثالث من حيث القداسة في قلوب المسلمين.

يرتفع الأقصى في شغاف المسلمين على رنين الإسراء والمعراج، يوم أسري بالرسول المعظم محمد صلى الله عليه وسلم من بطحاء مكة إلى الأقصى ثم عرج به إلى السماء ليأخذ الدين والقيم والتعاليم الإيمانية ويؤوب إلى الأرض في رحلة اخترقت الزمان والمكان وآفاق الأبد، وفتحت نافذة أخرى بين الأرض والسماء.

وعلى حفيف أجنحة البراق وهو يقطع آماد الزمن وأعماق الكون في رحلة الأبد الكريم؛ حلّق الأقصى في قلوب المسلمين، ثم جاءت العهدة العمرية لتضيف قداسة أخرى إلى الروح والريحان والألق الإسلامي الذي أحاط بالأقصى منزل الأنبياء ومعراج المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم ومضمار خيل الفاتحين ورباط الأولياء وفقراء الصوفية.

كان الأقصى أبرز المحطات التي يشد إليها آلاف الحجيج المسلمين رحالهم بعد أن يؤدوا مناسك الحج الأكبر في مكة وضواحيها، وكان أيضا قبلة آلاف العلماء والنساك الذي آووا إلى سواريه وأحضانه المفعمة بالعلم والإيمان.

هكذا شب الحريق

في الحادي والعشرين من أغسطس/آب 1969 ارتفعت ألسنة اللهب في الجناح الشرقي للمصلى الواقع في الجهة الجنوبية من المسجد الأقصى، وقضى الحريق على أجزاء مهمة من المسجد الأقصى من بينها سقفه وسجاده وزخارفه النادرة وكل محتوياته من المصاحف والأثاث.

كما أتت النيران أيضا على محرابه ومنبره التاريخي المتكئ على مئات السنين من القداسة والفخر بعد أن صنعه السلطان نور الدين زنكي وجعله خالصا لتحرير المسجد الأقصى، وأحضره صلاح الدين الأيوبي من مدينة حلب.

لم تكن الأيدي التي أشعلت المسجد الأقصى قليلة، فمنذ قيام دولة الاحتلال في العام 1948 ونكسة العام 1967، بدأت إسرائيل سعيا حثيثا لتهويد المدينة المقدسة وتغيير معالم المسجد الأقصى، ولكن الشرارة التي تولت إشعال الفتيل كانت يد سائح أسترالي مسيحي صهيوني اسمه دينس مايكل روهان.

استمر الحريق لأكثر من 20 ساعة، وحاول المقدسيون إخماده بطرق ووسائل بدائية بعد أن قطع الاحتلال الماء عن المصلى القبلي ومحيطه، وتباطأ في إرسال سيارات الإطفاء إلى درجة التمالؤ والمشاركة في الجريمة.

تبين من خلال التحقيقات أن المادة الحارقة التي أشعلت المسجد الأقصى سكبت من داخل المصلى القبلي ومن خارجه.

وكعادة الاحتلال في التنكر للحقائق ادعت سلطة تل أبيب لأول وهلة أن الأمر ناتج عن تماس كهربائي قبل أن تعترف لاحقا بعد أن حاصرتها الأدلة الكثيرة بأن الفاعل هو دينس مايكل روهان، وأضافت إلى جريمته وصفه بأنه مصاب بمرض نفسي وانفصام في الشخصية وأنه معتوه وأنها ستخضعه للمحاكمة، ولم يطل الانتظار حتى أفرجت عنه وألبسته ثوب الجنون بعد أن ألبس هو الأقصى حلة من لهب ونيران أتت على ميراث مئات السنين من خدمة المسلمين للأقصى الشريف.

من هو المجرم؟

ينتمي روهان –المولود في العام 1947 بأستراليا- إلى إحدى الطوائف المسيحية، ويتبع إحدى الكنائس الإنجيلية المسيحية التي عرفت باسم كنيسة الرب العالمية، ولم تكن له وظيفة غير قص صوف الأغنام في بلاده، وأداء بعض الطقوس المسيحية وقراءة مجلة “الحقيقة الواضحة” الصادرة عن كنيسة الرب العالمية.

ولأن روهان كان من أصحاب النزعات المشيحانية، فقد كان يؤمن بعودة المسيح، وأن شرط ذلك هو عودة بني إسرائيل إلى أرض فلسطين وبناء الهيكل الثالث.

وجاءت نكسة العام 1967 وهزيمة العرب، لتؤجج الطموحات والأحقاد الدينية عند روهان، ولتنقله من مرحلة الانتظار إلى الادعاء بأنه مبعوث من الرب للإسهام في عودة المسيح.

وصل روهان إلى فلسطين المحتلة في عام الحريق ذاته (1969)، وكان عمره 28 عاما، وانضم إلى إحدى الكيبوتسات الزراعية قرب مستوطنة نتانيا، وتعلم العبرية، وظل يعبر عن آماله وطموحاته ويؤكد لأصدقائه الجدد بأنه مكلف من الرب بمهمة عظيمة.

وللقيام بجريمته انتقل روهان إلى القدس في 20 يوليو/تموز 1969. وقبل تنفيذ العمية بنحو شهر استأجر غرفة في فندق ريفولي في شارع صلاح الدين الأيوبي، مقابل باب الساهرة في القدس، وكان مقيما في الغرفة رقم 107.

قضى روهان أغلب وقته متجولا وسائحا في ردهات وباحات المسجد الأقصى، وكان يتقرب إلى المصلين ورواد المسجد الأقصى ويدّعي أنه سائح يود أخذ صور كثيرة للمسجد المقدس.

في الحادي عشر من أغسطس/آب 1969 أقدم روهان على محاولته الأولى لإحراق المسجد الأقصى؛ حيث تسلق المجرم أشجار الأقصى الشاهدة على مئات السنين من الشرف والقداسة، ولم تشتعل النيران بالنحو الذي كان يريد روهان، فتسلق الجدار راجعا ومخططا لحريق أوسع وأكبر، جاعلا البداية من منبر صلاح الدين الخشبي المضمخ بعطر الفتح والشهادة، وهو ما تم بالفعل المؤلم والجريمة النكراء والإفلات من العقاب.

عاد روهان ثانية في الحادي والعشرين من أغسطس/آب 1969، ودخل المسجد من باب الأسباط في ساعات الصباح الأولى، ألقى التحية على بعض الحراس ورواد المسجد وانطلق إلى الباحة المشرّفة للمسجد الذي كان خاليا من عمّاره، ووضع على منبر صلاح الدين رداء مغمسا بالبنزين، وبدأ في سكب البنزين على فرش المسجد وأشعل اللهب بنيران أحقاده، قبل أن يخرج من المسجد ركضا ويلقي حقيبته المثقلة بالجريمة في المقبرة القريبة من الحرم، ثم أخذ سيارة أجرة إلى المحطة المركزية حيث استقل حافلة إلى تل أبيب، ومنها حافلة أخرى إلى كيبوتس “مشمار هشارون” حيث اعتقل بعدها بيومين من هناك.

خضع روهان بعد اعتقاله لمحاكمة لم تطل كثيرا، تطابقت فيها أقواله مع روايات الشهود، بينما كان طاقم الدفاع عنه في المحكمة يستند إلى ادعاء واحد وهو أن روهان مريض نفسيا، وأنه يعاني من انفصام في الشخصية من نوع جنون العظمة، أو ما يُسمى “الانفصام الارتيابي”.

وفي نهاية المحاكمة أقرت المحكمة أن لا عقاب عليه وأخلت سبيله وحولته للعلاج النفسي، قبل أن تسمح له في العام 1974 بالعودة إلى أستراليا؛ حيث توفي هناك في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1995.

لم يحترق المسجد الأقصى فحسب، بل احترقت معه أفئدة وقلوب ملايين المسلمين في أرجاء الأرض، وكانت الجريمة أكبر من الترميم -الذي استغرق نحو عشرين عاما- خصوصا في وقعها على قلوب المسلمين الذين وجدوا أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى النبي صلى الله عليه عرضة للهب نيران الحقد الصهيوني.

ذكريات المرابطين

يتذكر الشيخ جودة الأنصاري كبير سدنة المسجد الأقصى عام 1969 أن روهان كان يطيل الإقامة في المسجد وأنه في أحد الأيام طرده من المسجد بعد أن توجس من طول مكثه رغم أنه ليس مصليا ولا سائحا، وفي أحيان أخرى نقل حراس الأقصى مشاهدتهم لروهان داخل المسجد أثناء أوقات الصلاة، أو متجاوزا للحدود المرسومة للسياح.

ليس الأنصاري وحده من غرس الحريق في قلبه مخالب الألم، فلا تزال الذكرى المؤلمة تلح على المقدسيين في الذكرى الخمسين، وفق ما توثقه شهاداتهم وتصريحاتهم لوسائل الإعلام في ذكرى الحريق من كل عام.

يتذكر نادر إشتيه ابن السادسة والثمانين ما حدث كما لو كان قد مر أمس حينما ترك عمله مسرعا إلى المصلى القبلي الذي التهمته النيران يومها.

يتذكر إشتيه أن “المصلى القبلي كان يُغلق بعد صلاة الفجر حتى الثامنة صباحا، وكان خاليا من المصلين، لكن مايكل روهان تمكّن من دخوله بحجة رغبته بالتصوير، وأضرم النار في منبر صلاح الدين الأثري الخشبي، لتشتعل بسرعة وتأتي على السقف الخشبي والنوافذ والأعمدة الرخامية وصولا إلى محراب زكريا شرقا”.

ويضيف إشتيه في حديث سابق للجزيرة قال فيه “إن الحريق استمر من الصباح حتى مغرب ذلك اليوم، كما استمر إعمار المسجد وترميمه جراء الحريق منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا” دون أن ينتهي إعمار المسجد أو يزول لهب الحريق من القلوب المكلومة.

نهر الدموع

أما عثمان الحلبي فيتذكر أن دموع المقدسيين كانت أكثر من الماء المتدفق لإطفاء حريق الأقصى، ويؤكد للجزيرة “أكادُ أجزم أن الدموع التي ذرفناها في ذلك اليوم فاقت كمية المياه التي سكبناها لإخماد الحريق، كان يوما أسود وأليما لن أنساه ما حييت”.

أما مدير الأملاك الوقفية بالقدس والمسجد الأقصى ناجح بكيرات الذي كان يبلغ من العمر في ذلك الوقت 12 عاما، فيذكر كيف تعرضت أيدي الكثير من المقدسيين لحروق بسبب استخدام أدوات بدائية في إخماد النيران.

وقال بكيرات للجزيرة “إن ذلك اليوم كان مؤلما وبكت فيه قلوب الفلسطينيين قبل عيونهم”، مؤكدا أن إشعال النار في هذا المكان بالتحديد هدفه حرق الذاكرة والهوية الإسلامية، فـ”منبر صلاح الدين الأيوبي يعد رمزا للتحرير، والتخطيط لحرقه كان بمثابة حرق فكرة تحرير القدس مرة أخرى”.

السبات العميق

توقعت غولدا مائير أن تحترق إسرائيل في اليوم الموالي لحريق الأقصى تحت نيران الغضب العربي، قضت ليلها في رعب وحزن، وفي الصباح انبلج الأفق عن “سبات عميق” يعيشه العرب وفق ما كتبت مائير بعد ذلك.

ولم تزد الإدانات العربية والدولية على بيانات خجولة تندد وتشجب، وأعمال ترميم بدأت عمليا بعد الحريق وانتهت بوضع منبر جديد مماثل لمنبر صلاح الدين سنة 2007.

في الذكرى الخمسين لحريق المسجد الأقصى لا يزال اللهب مرتفعا ولا تزال المخاطر محدقة بالأقصى حفرا تحت أساساته الطاهرة وتدنيسا لرحابه المقدسة، ولا يزال المقدسيون أيضا -كما كانوا- حراس الأقصى بالقلوب النابضة بالحب والإيمان والتضحية.

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".