حركة شهداء الصليب .. دروس وعبر

بقلم : ليلي حمدان

شهدت قرطبة في منتصف القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، بروز “حركة شهداء الصليب”. وهي حركة دينية نصرانية قدمت أكثر من 50 من أتباعها قربانًا؛ في سبيل إغاظة المسلمين، وسبّ النبي -صلى الله عليه وسلم- في حوادث وهجمات أخذت شكل العمليات “الاستشهادية” لنصرة الصليب.

ولا تولي المراجع الإسلامية الاهتمام بشكل واضح بحركة شهداء الصليب؛ التي كانت تغذيها عقيدة دينية ويقودها قساوسة بارزون في تاريخ الأندلس. مع أن التفرس في تفاصيل واقعها يلخص لنا العديد من المفاهيم والمفارقات المهمة التي تسمح بتقديم تفسيرات لواقعنا اليوم.

وقد ذاع صيت حركة شهداء الصليب بين عامي 235 و244هـ (850 و859م)، وحمل أعضاؤها لقب “شهداء قرطبة” الذين وصفهم الباحث -المهتم بشأنهم من جامعة شيستر ببريطانيا- بول ميدلتون، بـ”الشهداء المتطرفين”؛ لأنهم كانوا يقدمون أنفسهم طواعية للسلطات الإسلامية ويسيئون لمقام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبالتالي يجلبون عقوبة الإعدام الأكيدة لأنفسهم[1].  ووصف الكاتب لويس توركيه دي مايرن، في كتابه “التاريخ العام للإسبانية”، “شهداء قرطبة النصارى”، بأنهم متمردون تم تخليد ذكراهم بلا ضمير من قبل يولوجيوس[2] كـ”شهداء”.[3]

وهكذا قامت هذه الحركة الصليبية في قرطبة على هدف الإساءة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وتعمد السب والشتم والاستهزاء به -صلى الله عليه وسلم-، وبشكل صريح وواضح أمام المسلمين وقضاتهم. ويتم ذلك بشكل استفزازي ومتقصد لإثارة السخط وإلحاق الأذية بالأمة المسلمة. مع أن النصارى في ذلك الزمان كانوا يعيشون في الأندلس برفاهية واطمئنان، بصفتهم أهل الذمة، فيحظون بكل حقوقهم تحت سلطان الدولة الإسلامية، ويحصلون على الحماية بشكل قانوني ولا يعانون الاضطهاد.
إلا أن العقيدة التي كانت تذكي أحقاد قائد حركة شهداء الصليب، القس يولوجيوس، أجَّجت مشاعر الكراهية والبغضاء للمسلمين، وتحولت لحركة تتسابق على “الاستشهاد” بشتم النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، كما تحولت النزعة الدينية العميقة، لسلسلة من الهجمات “الاستشهادية” على المسلمين بالتركيز على شخص نبيهم -صلى الله عليه وسلم- بشكل خاص، مع علم النصارى أن مصير شاتم النبي كان حتمًا الإعدام. ومع يقينهم أن الفرار من الحد في دولة تطبق الشريعة الإسلامية كان مستحيلًا.

“شهداء قرطبة”

وفي الوقت الذي يقتل فيه النصراني “الاستشهادي” وهو في حالة اعتداء على المسلمين مدركًا أن مصيره الموت؛ يطلق عليه النصارى وصف “شهيد قرطبة”، ليصبح رمزًا لكل ما يتصل بالهوية النصرانية الإسبانية. وعلى عكس ما حاول بعض الباحثين العلمانيين تشخيصه من أن دوافع هؤلاء “الاستشهاديين” كانت قومية بحتة، تتفق أغلب الدراسات الغربية على أن دوافع هؤلاء “الاستشهاديين” كانت أيديولوجية تشكلت في السياق الاجتماعي والديني الذي كانت تعمل فيه في الأندلس باعتبار النصارى خاضعين لحكم الغالبية المسلمة الأقوى، وباعتبار الصعود الإسلامي أصبح أكبر عامل يهدد النصرانية بالانقراض في البلاد.

أول هجوم لحركة شهداء الصليب

كان أول “الاستشهاديين” النصارى في حركة شهداء الصليب يسمى “بيرفكتوس” الذي خرج في يوم 1 شوال سنة 236هـ (10 نيسان 851م)، ووقف في طريق المسلمين عند خروجهم من مصلى عيد الفطر، وأخذ في سب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فانتهى أمره إلى الإعدام.

واستغل ذلك يولوجيوس وقام بتألیف تقرير عن الحادث؛ حيث صور بيرفكتوس على أنه ضحية في شهادة زور كانت خلف اشتعال فتيل الحقد الذي استمر قرابة عقد من الزمان ولا تزال آثاره إلى يومنا هذا. ولم يتردد قساوسة قرطبة في الترويج لشائعة أن برفيكتوس من القديسين ونسبوا إليه الكرامات وشفاء الأمراض، لاستعطاف الناس وجذب الانتباه وكسب التأييد والتجنيد.

وبعد هذه الحادثة ظهر “استشهادي” جديد، يسمى إسحاق، ولعله كان أبرز “الاستشهاديين” سياسيًا لمكانته بين النصارى ولوصوله لوظيفة مرموقة عند المسلمين؛ حيث ما لبث أن ترك عمله وانعزل لفترة في دير “تابانوس”، الواقع في جبال شمال قرطبة، لمدة 3 سنوات يشحن نفسه بالكراهيةويعدها للنيل من المسلمين. ثم في يوم من الأيام عاد إلى قرطبة، وطلب من القاضي المسلم أن يمثل أمامه لاعتناق الإسلام، فما أن شرع القاضي في تعليمه أسس هذا الدين، حتى هجم عليه إسحاق شتمًا وإساءةً للنبي -صلى الله عليه وسلم- وللإسلام، بصوت مرتفع وبشكل عنيف، وفي مجلس جُعل لتنفيذ القانون الإسلامي بما فيه الحكم على المسيء للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كان ذلك هجومه “الاستشهادي”! ..

وبعدما تأكد القاضي المسلم أن إسحاق لم يكن مخمورًا ولا مجنونًا ليقدم على مثل فعلته التي ستكلفه حياته، وضح لديه أن إسحاق مستعد للموت من أجل طيشه هذا!

توالي الهجمات المسيئة للنبي -صلى الله عليه وسلم-

وبالفعل تم إعدام إسحاق، بعد موافقة الخليفة عبد الرحمن بن الحكم على إقامة الحد عليه، في 26 ذي القعدة 236هـ (3 يونيو 851م). وقطع رأسه وتم تعليقه في مكان مرتفع ليشاهده الناس للاعتبار من مصير شاتم الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
ولقد كان إسحاق متعمدًا إلحاق أشد الأذى بالمسلمين ليقتلوه، ولم يكن الوحيد الذي يحمل هذا الحقد الأعمى، فقد لحقه 6 نصارى آخرين أعدموا بنفس الطريقة في غضون 48 ساعة، حيث هاجموا بنفس الطريقة بالإساءة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وعن قصد ليتم إعدامهم، وارتفع عددهم الإجمالي خلال أقل من أسبوع إلى 8 أعضاء من الحركة حملوا بعدها بين النصارى وسام “شهداء قرطبة”.
وهدأت هذه الروح العدائية لفترة نسبية، ثم عاودت الظهور من جديدة وكان من بين “الاستشهاديين” نساء لم يختلف إقدامهن وعزمهن على الاعتداء على المسلمين عن الرجال، مع أن التعامل معهن كان بطول صبر وحلم. وأصبح كل نصراني يريد تنفيذ هجومه بهذا الشكل، يتخلص من ممتلكاته مبكرًا ويؤمّن أبناءه قبل الارتماء في ساحة الموت.

وقائد حركة شهداء الصليب، هو يولوجيوس، الراهب من أصل أرستقراطي، الذي ولد في سلسلة من أعضاء مجلس الشيوخ في مدينة قرطبة النبيلة، كرسه والده لكنيسة القديس “زويلوس” حيث وقع تحت التأثير الكبير للراهب “سيرينديو”، الذي كان يشتهر بحكمته بين النصارى.

تعلم يولوجيوس مسؤوليات الكهنوت، ودرس ما كتبه المؤلفون الآباء الموجودون في قرطبة في ذلك الوقت؛ لكن برنامجه التعليمي تضمن أيضًا دروسًا في الاختلافات العقائدية بين النصرانية والإسلام، ودروسًا مصممة لإعداد رجل دين أندلسي للمتطلبات الخاصة لبيئة التعددية الدينية في البلاد. كما أظهر تقشفًا وزهدًا جذب له الأنظار والمعجبين.

قضى يولوجيوس عمره في استفزاز المسلمين ومهاجمتهم، وكتابة المؤلفات في “شيطنة” دينهم والطعن في نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، وتحريض النصارى على روح “الاستشهاد” في سبيل إغاظة المسلمين واستمر في عناده وعدوانه حتى قطع رأسه في 29 من ذي القعدة لعام 244هـ (11 مارس 859م) جزاءً وفاقًا.
كان لتحريض يولوجيوس ودعمه وتشجيعه دور هام وحاسم في حركة شهداء الصليب، منذ البداية وحتى النهاية. لقد كان يهوّن عليهم لحظة الموت ويعظم في أعينهم الهدف من هذا الموت في سبيل القضية النصرانية.

يولوجيوس المخادع

كان الأمر الأكثر إشكالية بالنسبة ليولوجيوس غياب عامل الاضطهاد والتعذيب من المسلمين للنصارى، الذي كان يمكن أن يساعد في تبرير أفعال “الشهداء”. فالغالبية العظمى من “الشهداء” القدامى الذين تم الاحتفال بوفاتهم وتعظيمها كبطولة في قرطبة، ماتوا خلال فترات محددة من الاضطهاد النصراني وليس الإسلامي لهم، لا سيما في عهد “ديسيوس” في منتصف القرن الثالث الميلادي، و”دقلديانوس” في أوائل القرن الرابع الميلادي. وعادة، كما في حالة أسیکیوس وفيكتوريا، اعتقل القضاة النصارى المتمردين، وأمروهم بتكريم آلهة الإمبراطورية، وعاقبوهم على رفضهم تكريمها بالتعذيب والإعدام.

وفي تناقض واضح، لم يكن ذلك حال النصارى في قرطبة؛ فقد تقدم إسحاق ومعظم من تبعوه، للتنديد بالإسلام والإساءة للنبي -صلى الله عليه وسلم- في انتهاك متعمد لقوانين الدولة الإسلامية، دون وجود أي استدعاء أو استعداء لهم، ودون أي ضغط للتخلي عن دينهم.
لكن يولوجيوس المخادع أعاد صياغة مشاعر خصومه وكتب محرضًا: “لم يجبرهم أي عنف (شهداء الرومان في الاضطهاد) على إنكار إيمانهم أو يضطرهم للابتعاد عن ممارسة الدين المقدس والتقوى. ولكنهم سلموا أنفسهم لتدمير إرادتهم الحرة وبسبب كبريائهم -التي هي بداية كل خطيئة- لقد قتلوا أنفسهم وخسروا أرواحهم وبذلك أثبتوا أنهم لا يستحقون رتب الشهداء الرومان”.

فسحب بذلك وصف “الشهداء” من قتلى النصارى الرومان في عصر الاضطهاد، وألغى صفة الاضطهاد رغم وضوحها. ثم حوَّل “دفع الجزية للمسلمين” و”إضعاف الكنائس في الأندلس” لحالة اضطهاد بتهويلها، ورآها سببًا وجيهًا لقتل النفس. فيصبح بذلك أفراد حركته “الاستشهاديون” في هذه الظروف “شهداء قرطبة”.

ولم تكن هذه هي الوسيلة الوحيدة التي استخدمها يولوجيوس لخلق شعور بالاضطهاد. وعلى الرغم من أن وفاة إسحاق كانت بلا شك الحافز الذي أدى إلى اندلاع المعارضة “الاستشهادية” الأولى، والأكثر ضراوة في قرطبة بحسب المراجع الغربية، إلا أن سببها الأول يعود لاستغلال يولوجيوس لهجوم بيرفكتوس وإعدامه حيث صور بيرفكتوس على أنه ضحية وأن التعاطف معه ونصرته قضية عقدية.

شاهد أيضاً

هكذا علقت الفصائل الفلسطينية في لبنان على مهاجمة إيران إسرائيل

واكبت القوى والفصائل الفلسطينية الوطنية والإسلامية في لبنان الهجوم الإيراني بالمسيَّرات والصواريخ على إسرائيل فجر الأحد، والذي استمر لنحو 5 ساعات، ردا على قصف قنصليتها بالعاصمة السورية دمشق مطلع أبريل/نيسان الجاري مما أدى إلى استشهاد عدد من قادتها العسكريين والمستشارين.