حديث :لا تدعوا على أنفسكم

كيف يستجيب الله دعاء فيه ضرر وظلم وهذا يتعارض مع حكمته وعدله؟
كيف يؤذى شخص أو حيوان بخطإ غيره دون ان يكون له جريرة في ذلك باستجابة دعائه، والله تعالى يقول: ولا تزر وازرة وزر أخرى؟
واين هذا الحديث من قوله تعالى {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}

الحديث يركز على مسؤوليتين وأصلين اثنين:
– المسؤولية اللفظية.
– مسؤولية الجهر بالسوء أو تلطيخ الأسماع والأجواء بسيئ الكلام.

للإجابة على هذه التساؤلات لابد من الوقوف على قصة هذا الحديث:
عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: سرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة بطن بُواط – جبل من جبال جُهينة -، وهو يطلب المجديّ بن عمرو الجهني، وكان النّاضح – البعير الذي يُستقى عليه – يعتقّبه منّا الخمسة والسّتة والسّبعة، فدارت عقبة رجل من الأنصار – العُقبة ركوب هذا مرة وهذا مرة – على ناضح له، فأناخه فركبه، ثم بعثه فتلدّن عليه بعض التلدُّن – أي تلكّأ وتوقّف -، فقال له: شَأْ لعنك الله – كلمة زجر للبعير -، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من هذا اللاعن بعيره؟) قال: أنا يا رسول الله، قال: (انزل عنه، فلا تصحبنا بملعون، لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعةً يُسأل فيها عطاء فيستجيبَ لكم).

يظهر من الحديث تصوير للاحوال التي ذكر فيها:
فحال السفر كله وخاصة هذا السفر وما فيه من تعب ومشقة وتنقل وتغرب وابتلاءات وشدة، ويمعن تلك الأحوال والظروف القاسية، قلة المركوب فكان الخمسة والستة والسبعة يتعاقبون على بعير واحد، ووجهة هذا السفر غزوة ومعركة وقتال، كل هذا ينقل لنا موجزا عن احوال ذلك السفر وظروفه القاسية، في خضم ذلك كله، حان دور رجل انصاري ليركب، فتلكأ البعير فلعنه، ويظهر من هذا الحديث أنه لم يقصد الدعاء عليه باللعنة وإنما اراد زجره، بعد توقفه وتلكئه، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل حتى يسمع منه توجيهه وإرشاده وحتى يكون حديثه ذا مناسبة فيستمع الجميع له، فقال الحديث…
فكل اسباب التضجر وسوء المزاج كانت حاضرة ظاهرة من تعب وتعاقب ومشقة سفر…
ولم يكن قصد الإضرار بالدعاء حاضرا، إذ قال ما قال من لعن لأجل زجر البعير…
والملعون بعير وهو حيوان غير مكلف ولا داخل في الرحمة الخاصة.. وإن كان داخلا في الرحمة العامة…( ورحمتي وسعت كل شيء)
ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بذكر النهي العام، بل ربطه بالحدث والمناسبة..
رغم هذا كله جاء النهي عن الدعاء ليس على البعير فقط بل على النفس والولد والمال والبعير من المال..

هنا تشكلت لنا الصورة كاملة تقريبا حول الحدث والحديث والجو الذي قيل فيه..

بعد أن عرفنا صورته وأجواءه، لننتقل إلى لفظه وسياقه لنجيب على تلك التساؤلات:
ظهر لنا من قبل بأن الدعاء لم يكن مقصودا وأن الحالة كانت شاقة وغير عادية وان الملعون كان حيوانا، ورغم ءلك جاء النهي والتنبيه والتحذير، هذا كله يدل على أن هذا الحديث يدخل تحت أصل مهم متفق عليه متوارد الأدلة متواترها، وهو مسؤولية المكلف على ألفاظه وأقواله، كما قال تعالى ( وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (أن الرجل لينطق بالكلمة لا يلقي لها بالا فترفعه درجات وإنه لينطق بالكلمة لا يلقي لها بالا فتهوي به) وقوله صلى الله عليه وسلم (وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم) إضافة إلى ما ورد من ثواب على الكلمة الطيبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن إثم على النميمة والغيبة والسخرية وغيرها..

فهذا الحديث يدخل تحت هذا الأصل وينبه عليه، بغض النظر عن القصد، والمراد المكنون مادام الظاهر ظاهرا واضحا وجليا، فلابد من استحضار تلك المسؤولية اللفظية في كل الأحوال رخائها وشدتها وفي كل الظروف حضرها وسفرها، ولا ينبغي إسقاط تلك المسؤولية على السامع، بأنه ينبغي أن يفهم القصد وأن يؤول وأن يحمل على أحسن محمل، فذلك ملف آخر، وتلك مسؤوليته هو وشأنه هو ولا دخل للمتكلم فيه، وعلى اللافظ أن يهتم بلفظه، وألا يتسرع في إخراجه، وأن يتحرى ما أمكن، فلا سبيل للاطلاع على القصود إلا من خلال الألفاط…لذلك جاء في الحديث الآخر ( لا يلقي لها بالا)
وتزيد الدقة والمسؤولية مع المقامات الجدية كمقام الدعاء لفظا ومعنى، فلا ينبغي التساهل في شأنه ورميه على عواهنه دون تريث وحضور أو تركيز، فلكل مقام مقال، ولكل باب حكم، فلا ينبغي ان يطغى جانب اللاجدية سواء كان انفعالا أو مزاحا على كل الأحوال، فتجد الغاضب يتمادى بغضبه حتى يقع في الكفر فيتعذر بغضبه، وتجد المازح يتمادى بمزاحه حتى يقتحم الجديات والمقدسات فيتعذر بمزاحه…
يأتي هذا الحديث ليوقف هذه المهزلة، ويعدل هذا الخلل، ويرفع من منسوب الاهتمام بالمسؤولية اللفظية…

حتى وإن كان المستمع أو المخاطب حكيما عادلا؟

نعم وإن كان كذلك، فالمخاطب في الدعاء هو الله تعالى العدل الحكيم سبحانه، المطلع على الأسرار والسرائر والمرادات والمقاصد، الرحيم الغفور، ورغم ذلك لابد من استحضار هذه المسؤولية واليقظة من الغفلة، عدم الاتكاء على العفو والرحمة والغفران، وعدم القصد، مع عدم قطع الرجاء في ذلك، فابن آدم خطاء يتعريه الضعف والنسيان والجهل والغفلة، فهو بحاجة ماسة في كل أحواله إلى ذلك، ولكن المقام مقام تعليم وتدريب وتنبيه..
ويزيد الأمر اهتماما بهذه المسؤولية أن الموجه له اللعن حيوان غير مكلف، ولا مدرك لمعنى اللعن، وهذا يأخذنا إلى أصل آخر، وهو التحذير من تلطيخ الأسماع بسيء الكلام، وإن كان غير موجه لها، وهذا أصل عظيم مهم غاب وغفل عنه كثير من الناس أفرادا وجماعات، ويظن البعض بأنه يحق له أن يسب ويشتم ويلعن، ما دام أن ذلك غير موجه إليك، وإن سمعته أذنك، ولا يحق لك أن تتدخل أو تزجر او تنهى، هذا إن قبل من الموجه له ذلك الفاجر من الكلام الاعتراض أو التدخل!!

فالأصل ألا لعن ولا شتم ولا سب، وإن كان ذلك موجها إلى حيوان او جماد، وكان القصد الزجر او المنع…
ومن هنا تصفو الأجواء، وترقى الأذواق…

وهذا الأصلان – المسؤولية اللفظية، وعدم تلطيخ الأسماع بسيئ الكلام- ، يسريان على جميع الأحوال، العادية والاستثنائية، إلا من كان مظلوما ظلما بينا، يقدر ذلك الاستثناء بقدر يقيده ختم الآية بوصف الله تعالى بالسمع والعلم، فالله مطلع تمام الاطلاع على ذلك الظلم والاعتداء ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم،وكان الله سميعا عليما)

ومما يجعل المسلم منتبها حذرا متيقظا حريصا على مسؤوليته اللفظية، أنها تسري في مقام الدعاء على النفس، وعلى الأولاد وعلى المال، لذلك أضاف النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء على النفس والولد باعتبار انهما اهم وأشد زجرا عن التلاعب بتلك المسؤولية او الغفلة عنها، فأهم ما يتهم به الإنسان نفسه فيقضي حياته ليجلب لها مصالحها، ويصرف عنها المفاسد والمضار، وياتي بعد ذلك الولد، الذي هو امتداد للأب، ومفخرة له ومجبنة حرصا على نموه وتمامه وصلاحه، وياتي بعد الولد المال، الذي هو عصب لذلك كله، فلا صلاح لنفس ولا لولد دون مال، فلا ينبغي الاستهتار بهذه المسؤولية فيما يتعلق بالنفس، ولا بالولد ولا بالمال، وخاصة في مقامات الجدية كالدعاء، مهما كانت الظروف والأحوال…

وللامعان في الاهتمام بهذه المسؤولية، أن يحمل الإنسان لفظه على الجدية وأن يتحمل تبعات استهتاره، وتهاونه، فأمر الاستجابة او عدمها غيب، لا يدرى زمانه ولا وقته ولا مكانه ولا حينه، ولا تدرى حكمته، ولا علته ولا سببه، وهذا ما يجعل الإنسان حذرا منتبها مستحضرا لهذه المسؤولية غير غافل، خاصة إذا علم بأنها قد توافق فتحا لباب الاستجابة لحكمة لا تعلم ولا تدرى، وكم من الأمور والأقدار بل والأفعال التي يفعلها الانسان غير مدرك لحكمتها، وهو يعملها دون تشكك او تلكئ..وقد يتسبب ذلك الدعاء في إلحاق الضرر بواحد من المحبوبات الثلاث، ظلما وعدوانا، فتذوق مرارة ذلك، وتشعر بتأنيب ضميرك ومسؤوليتك عن ذلك طيلة حياتك، ولا يخطر ببالك لماذا استجاب الله؟ لأن ذاك شأنه سبحانه، الذي لا نعرف عنه إلا ما أعلمنا به، ويبقى في ذهنك وخلدك: لماذا دعوت؟ لأنها مسؤوليتك وشأنك… كالذي شرب سما او أهمل مرض ولده، او جازف بماله، فإنه لا يسأل: لماذا قتلني الله بالسم؟ او لماذا قتل الله ولدي؟ او لماذا محق الله مالي؟ فإنه سيسأل عن مسؤوليته هو تجاه ذلك، وإن سأل تلك الأسئلة الأولى فإنها لن ترد له نفسه ولا ولده ولا ماله، بل ستزيده جحودا وبعدا..

وإذا استجيب ذلك الدعاء على النفس او الولد او المال، كان ضررا على ذلك ولم يقع ما كان مرجوا منها، فالدعاء على النفس بالمرض مثلا يجعلك متألما غير نائل لمراداتك لو كنت معافى، والدعاء على الولد بالرسوب مثلا يجعلك غير راض وغير مطنئن لجهود بذلتها من أجل فلاحهم، ويجعلك متحملا لتبعات ذلك ماديا ومعنويا، ودعاؤك على مالك بالضياع هو غير مبتغاك من حفظه والاستمتاع به، فيرجعك إلى ما كنت فيه من حاجة وفاقة، وهنا صور النبي صلى الله عليه وسلم هذا المآل الوخيم حين قال للرجل ( لا تصحبنا بملعون) فالرجل أراد بلعن البعير زجره عن التوقف ودفعه للسير فعومل بعكس قصده، لأنه استعمل الوسيلة الخطأ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فذلك البعير الذي أردت بلعنك له ان يتحرك ويصحبنا، فلن يصحبنا، وكأن الله استجاب دعاءه، فاللعنة إخراج من رحمة الله وعونه، ولا يصحب النبيَّ صلى الله عليه وسلم في غزوه من هو ملعون او طلبت له اللعنة، وإن كانت غير مقصودة، ويفهم من عدم القصد كذلك النهي عن تلطيخ الأسماع والأجواء باللعن والسب والشتم وهو الأصل الثاني السالف الذكر…

وقوله صلى الله عليه وسلم ( لا توافقوا من الله ساعة…) فيه دليل على ان تلك الموافقة محتملة لأنها غيبية كما سبق، وبالتالي قد تقع وقد لا تقع وعدم وقوعها غالب، غلبة رحمة الله تعالى وعفوه وتجاوزه وصبره ولطفه وكرمه، وهذا موافق لقوله تعالى {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}
فالغالب الرحمة والمناسب للرحمة وشيوع الرحمة إشاعتها بترك اللعن وتطهير اللسان منه، وإبعاد الأسماع والأجواء عنه، وتحمل المسؤولية اللفظية أحسن تحمل، فلا تصحبنا بمعلون..

والله أعلم..

سفيان أبوزيد

شاهد أيضاً

مقال بموقع بريطاني: هذه طريقة محاسبة إسرائيل على تعذيب الفلسطينيين

ترى سماح جبر، وهي طبيبة ورئيسة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية، أنه وسط تصاعد حالات تعذيب الفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، هناك حاجة ملحة إلى قيام المتخصصين في مجال الصحة بتوثيق مثل هذه الفظائع بشكل صحيح.