جيفارا غزة”.. شبح المقاومة الذي أرّق المخابرات الإسرائيلية

لم يكن يدري محمد الأسود الذي هجّر مع عائلته في عام النكبة من حيفا إلى غزة، بأنه سيكون جيفارا المقاومة الفلسطينية في السبعينات، وبطلا لفيلم يحكي أسرار مطاردة قوات الاحتلال الإسرائيلي له، ولأماكن تخفيه دائما.

كان مولد “جيفارا ” إعلانا مؤجلا لهوية اللجوء الفلسطيني، بعدما ودع محمد الأسود حيفا وهو طفل صغير لم يتجاوز عمره العامين، محمولا على كفين من وجع، إلى أرضٍ من كبرياء، ليكون منشؤه قريبا من شاطئ بحر غزة، في أحد مخيمات القطاع، قبل أن ينضم إلى حركة القوميين العرب.

وبعد هزيمة حزيران 1967، أصبح جيفارا أحد الذين شكلوا طلائع المقاومة الشعبية، ليبدأ احتراف حرب الشوارع والمباغتات المسلحة، وقد قاده ذلك الاحتراف بشجاعة إلى ميدان الحروب الصغيرة، بتفجير عبوة، أو صنع كمين لجيب عسكري يتسكع في الأزقة.

لم تكن عقدة الفيلم حول تاريخ محمد النضالي، أو كونه أحد كوادر الجبهة الشعبية، بل كانت حول تخفّيه باستمرار، إضافة إلى موقف استشهاده العنيد. فعندما اعتقل محمد الأسود، لم يكن قد سمى نفسه بجيفارا بعد، الأمر الذي أدى إلى حدوث ضبابية ما على صورته بعدما خرج من السجن باسم جيفارا، وهو ما حير المخابرات الإسرائيلية، لتظل هويته محط تساؤل دائم ومستمر، من هو جيفارا الذي أدهشهم بقدرته على التخفي وصنع أوكار اختبائه؟

ندرة الأرشيف البصري.. مطاردة الطيف الذي أعجز المخابرات

تمكن المخرج الفلسطيني خليل المزين من تتبع الشهادات الشفوية والتاريخية التي عاشت قصة محمد الأسود بتفاصيلها، خاصة أن فترة السبعينيات كانت فترة مهمة جدا، وبداية لتحولات تاريخية فيما يخص القضية الفلسطينية، وقد أدت هذه التحولات بطبيعة الحال إلى تغيرات اجتماعية وفكرية كبيرة في المخيمات الفلسطينية، خاصة في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وهي ذات الفترة التي حاول المخرج المزين وصفها لمعاصر فلسطيني متأنق: ” كان المخيم بسيطا، بلا ماء ولا كهرباء ولا حتى حمامات!”. مستذكرا بذلك طفولته في تلك الفترة، عندما كان يستيقظ على طابور بإبريق ماء بلاستيكي، منتظرا دوره على الحمام العام للمخيم قبل أن يذهب إلى المدرسة.

وهي قسوة الحياة المختزلة في الفيلم الذي يحاكي حقبة تاريخية، قبل أن يتعمق في شخصية نضالية مختلفة عبر الديكودراما (الدراما الوثائقية).

لكن المعضلة التي عانى منها المخرج خليل المزين هي افتقار القصة والحقبة الزمنية إلى توثيق بصري، حتى أنه لم يجد سوى ثلاثة صور نادرة لمحمد الأسود، والغريب أن كل صورة كانت مختلفة عن الأخرى، نظرا لتقمصه شخصيات متعددة باختباءاته المختلفة، وهربه من عملاء جهاز المخابرات الإسرائيلية.

الأمر الذي اضطر طاقم العمل إلى تمثيل المشاهد، كاقتحامات الجيش الإسرائيلي، وكيف كانت هيئة بيوت المخيم في ذلك الوقت، إضافة للاستعانة بممثلين ثانويين، وإعادة ترتيب الأماكن التي لا تزال قائمة في غزة كما كانت في السبعينات. الأمر الذي شكل صعوبة تحت وطأة الأوضاع الاقتصادية والسياسية الصعبة في غزة.

يضيف المخرج خليل المزين إشكالية أخرى واجهته في العمل، فرغم طبيعة تلك الإشكالية “التفصيلية”، فإنها قد تؤثر بالبعد الواقعي للفيلم، فهي تتعلق بالشكل الحقيقي لطبيعة الأشياء والعلاقات الاجتماعية، وحتى اختلاف لون الزي للأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية وقتئذ، كضرورة لازمة لدقة العمل وترجمته.

البطل محمد الأسود (جيفارا غزة) وخلفه شعار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

“نحن نحكمها في النهار، وهم يحكمونها في الليل”.. دهاء المقاومة

نشأة “محمد الأسود” ومطاردته واستشهاده في عام 1973، هي المحاور الثلاثة التي يدور حولها فيلم “جيفارا غزة”، إضافة إلى التفاصيل الكثيرة المتبلورة حول الهوية الفلسطينية، والشهادات الشفوية من أشخاص عاشوا المواقف بعينها، فرغم استشهاد بعضهم، وتغييب بعضهم الآخر خلف السجون حتى الآن، فإن حقيقية الأحداث بأبعادها الإنسانية لم تتغير بعد.

فالمخابرات الإسرائيلية ما لبثت أن اخترقت النظام الأمني للجبهة الشعبية، واكتشفت أن جيفارا الذي أرقهم في حرب الشوارع هو ذاته محمد الأسود الثوري العنيد والأسير السابق، فقامت بدس العميل الإسرائيلي “بياو” على مقربة من جيفارا، دون أن يعرف وجهه تماما، غير أن إبطال العمليات المتعمد كشف أوراق العميل، الأمر الذي جعله على حافة الدم لولا فراره، وهو الآن يعمل كمسؤول للسجون الإسرائيلية.

هُدم منزل محمد الأسود، بعد عملية تطويق كبيرة، لكن محمد ورفقاءه تمكنوا من الهرب، ليعتقل الجيش زوجته وداد التي تعرضت لتحقيق قاس لم يسفر عن شيء، الأمر الذي أثار حفيظة وزير الدفاع الإسرائيلي “موشي ديان”، حتى أنه اعترف بتلك الشخصية الداهية، قائلا في الصحافة العبرية: نحن نحكمها في النهار، وهم يحكمونها في الليل.

“يا كوز الذهب يلي انكسرنا فيك”.. أهازيج فتح قبر الشهيد

رغم نجاة محمد الأسود ورفاقه بأنفسهم فإن الأمر لم يطل كثيرا، فقد طوّق منزل تحت اشتباه الجيش الإسرائيلي بأن جيفارا ورفقاءه مختبئون فيه، وكانوا قد بنوا جدارا لملجأ صغير يختبئون فيه، غير أن “موشي ديان” أمر خبراء مهندسي الجيش بالبحث عن الحائط الذي لا أساس له بالمنزل، وبالفعل اكتشف المخبأ السري، وتبع ذلك اشتباك مسلح سقط فيه 6 جنود إسرائيليين جرحي، إضافة لاستشهاد جيفارا وزملائه واعتقال بقية من في المنزل، حينها تقدم “موشي ديان” مهنئا جنوده الذين تحلقوا راقصين، موزعا عليهم قطع الحلوى التي في المنزل.

أما زوجته وداد فقد خرجت من السجن بعد استشهاده، مصرة على أن ترى زوجها المدفون، وبالفعل فقد حصلت على فتوى شرعية بذلك، وأعادت فتح القبر لتجده لا يزال بالبزة العسكرية والكنزة التي صنعتها له، حيث فُتح بيت العزاء من جديد، لكنه هذه المرة على قبر جيفارا.

وتؤكد وداد أن مجموعة من رفاقه وأحبته، كانوا معها عندما فتحت القبر، حتى أنهم رشوا العطر والورود على قبره، وغنوا أغنية شعبية تذكر سيرته: “يا كوز الذهب يلي انكسرنا فيك”.

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".