جورج فلويد والموقف الإسلامي

د. حسام الدين خليل

جال في خاطري وأنا أتابع المظاهرات التي لم تندلع في أمريكا فحسب بل في العديد أيضا من الدول حول العالم منددة بمقتل الأمريكي من أصل أفريقي جورج فلويد على يد بعض رجال الشرطة في مدينة مينيابوليس في حادث بشع يتسم بالوحشية؛ تساؤل في غاية البساطة والأسى في آن واحد، ألا وهو ما موقف المسلمين حيال قضية هذا الرجل المظلوم؟ والذي يأتي مقتله بغير حق في نهاية سلسلة طويلة ممتدة من العنصرية المقيتة تجاه بشر لا ذنب لهم في نظر البعض إلا أن بشرتهم سوداء!

لقد تحركت الكثير من أمم العالم كبريطانيا وألمانيا وبلجيكا وكوريا الجنوبية ..الخ لتعلن رفضها لهذه العنصرية. وشجب بابا الفاتيكان الحادثة وقال: ” لا يمكننا التهاون أو غض الطرف عن العنصرية والإقصاء بأي شكل من الأشكال” حتى إسرائيل التي تمارس أبشع ألوان العنصرية ضد الفلسطينيين قامت فيها وتحديدا في تل أبيب في ميدان رابين مظاهرة منددة !! فلماذا يصمت المسلمون في العالم الإسلامي؟ وكأنهم يعيشون في كوكب آخر !! ولا أقصد التعميم، فالتعميم لغة الجهال كما يقال، فقد سُجلت بعض المواقف الإسلامية المشرفة هنا وهناك ولكنها لقلتها بدت وكأنها تغريد خارج السرب.

إن من المبادئ المتفق عليها في الإسلام ومع ذلك قل أن نجد له ترجمة حقيقية في عالم الواقع؛ مبدأ نصرة المظلوم والوقوف بجانب القضايا الإنسانية العادلة بغض النظر عن دين أو جنس أو لون المظلوم، تحدثنا كتب السنة أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: “لقد حضرت في دار ابن جدعان حلفا لو دعيت إليه الآن لأجبت»، (ابن حبان 10/216). وفي رواية في مسند الإمام أحمد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم وأنى أنكثه”. وقد عُرف هذا الحلف في التاريخ باسم حلف الفضول، وكان سببه فيما ذكر المؤرخون، أن قريشا كانت تشهد بعض الممارسات الظالمة في حق الضعفاء والغرباء، فقام عبد الله بن جدعان، والزبير بن عبد المطلب، فدعوا إلى التحالف على أن ينصروا المظلوم بما استطاعوا ممن ظلمه شريفا كان أو وضيعا منهم أو من غيرهم فأجابهما بنو هاشم، وبعض القبائل من قريش (معرفة السنن والآثار، 13233) وكان ذلك الحلف في الجاهلية قبل البعثة النبوية وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن هذا الحلف الإنساني قائم بعد بعثته وأنه لو دعي به لأجاب.

وظل ذلك الحلف قائما معمولا به حتى بعد وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم- فعندما اختلف الحسين بن علي وأمير المدينة الوليد بن عتبة في مال كانا شركاء فيه، فأراد الوليد أن يستغل سلطته ونفوذه في ظلم الحسين بن علي والاعتداء على حقه، قال الحسين له: أحلف بالله لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لأدعون بحلف الفضول، فقال عبد الله بن الزبير، وهو عند الوليد، حين قال الحسين ما قال: وأنا أحلف بالله لئن دعا بها لآخذن سيفي ولأقومن عنده ومعه، حتى ينصف من حقه، أو نموت جميعا، وبلغت المسور بن مخرمة، فقال مثل ذلك، وبلغت عبد الرحمن بن عثمان التيمي، فقال مثل ذلك، فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه، حتى رضي (مشكل الآثار، 15/122).

أنا هنا بطبيعة الحال لا أدعو إلى تنظيم مظاهرات للاحتجاج ضد مقتل فلويد في بلدان إسلامية لا تشهد عنصرية تجاه لون معين وإن كانت قد تشهد ألوانا أخرى من العنصرية بوجه أو بآخر، ولكن من الأهمية بمكان أن تعلن المؤسسات الدينية ومنابر المساجد والهيئات العلمية ووجهاء المجتمع عن الموقف الإسلامي المناهض للعنصرية بشتى أشكالها وأطيافها والنابع من روح الإسلام الذي يعلن كتابه ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل: 90). ويقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ (النساء: 135).

إنما مدح النبي –صلى الله عليه وسلم – حلف الفضول بعد الإسلام وأخبر أنه لو دعي به لأجاب وأنه ما يسره أن له به أنفس الأموال لأنه حلف إنساني لمنع الظلم، ولأنه شكل من أشكال الأمر بالقسط والصدع بالحق، فكلمة حق لنصرة هذا المظلوم واجب إسلامي وأخلاقي يجب ألا يتأخر عن أدائه المسلمون، ولاسيما وللإسلام موقف حاسم في مواجهة العنصرية وبيان أن الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي أو لعجمي على عربي أو لأحمر على أسود أو لأسود على أحمر إلا بالتقوى (مسند أحمد، 23489) ، الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب (الترمذي، 3270).

وقد أعلنها الإسلام بوضوح إن اختلاف الألوان هو كاختلاف اللغات وكالاختلاف في باقي الظواهر البشرية الأخرى، كلها مظهر من مظاهر القدرة الإلهية. ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾ (الروم: 22). والإسلام يدعو للإيمان بإله واحد ومن هذا التوحيد تصدر الوحدة الضرورية لجميع البشرية ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ (النساء:1)، فهذا النداء العلوي للبشرية يبين أن العنصرية بكافة أشكالها وألوانها هي تَنَكُر لجوهر الإنسانية.

تحدثنا موسوعة تاريخ الإسلام (The Oxford History of Islam) (ص 336) التي نشرتها جامعة أكسفورد أن اليهود عندما تعرضوا قبل قرون لألوان من العنصرية في ألمانيا وفرنسا وهنجريا وإيطاليا وأسبانيا وبعض الدول الغربية لم يجدوا لهم ملاذا آمنا كالعالم الإسلامي، وتضيف موسوعة كمبردج الحديثة للتاريخ التي نشرتها جامعة كمبردج (The New Cambridge History of Islam) (ص603) أن اليهود الذين طردوا من شبه الجزيرة الإيبيرية، وبعض الكالفينيين من المجر والبروتستانت من بولندا، كل هؤلاء التمسوا اللجوء في الأراضي العثمانية أوطلبوا المساعدة في نضالهم لمقاومة الاضطهاد الديني. وهذا اللجوء الإنساني من اليهود والنصارى إلى العالم الإسلامي إنما كان بسبب الموقف الأخلاقي الذي يتمثله المسلمون في التعامل مع القضايا الإنسانية العادلة.

رب قائل يقول إن المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي لا تملك من أمرها شيئا أمام حكومات تسيّرها كيف تشاء فلا تشجب ولا تندد ولا تحمد ولا تشكر إلا بأمر من هذه الحكومات، فكيف يتوقع منها أن تنخرط في إدانة جريمة مثل هذه في أكبر دول العالم دون أن تتلقى على الأٌقل الضوء الأخضر من هذه الحكومات. لاريب أن هذا الاعتراض له قدر من الوجاهة، فمثل هذا التسييس للمؤسسات الدينية موجود في العالم الإسلامي وبالأخص في العالم العربي وإن كان بنسب متفاوتة، لكن لاريب كذلك أنه لا يزال لكثير من هذه المؤسسات هامش من حرية وبعض التأثير تستطيع من خلاله التعبير عن الموقف الإسلامي الذي يجلي حقائق الرسالة الخالدة أمام البشرية، والتي من أهم مقاصدها إقامة العدل والقسط بين الناس، كما أنه يؤسس لفكرة المواطن العالمي التي هي من صميم الإسلام؛ وهو الشخص الذي تدعوه قيمه الدينية والروحية والثقافية أن ينخرط في مشاكل البشرية ويسهم في إيجاد حلول فعالة لها بدلا من الاكتفاء بمشهد المتفرج على المصائب والأحداث، والعالم اليوم قد أصبح قرية واحدة وما يحدث في بلد يؤثر في آخر، فجرائم عنصرية في أي بلد قد تتعدى شراراتها لتصيب بلادا أخرى، بل إن هذا ما يحدث بالفعل.

وليس هذه الدعوة من قبيل استغلال الفرص أو المزايدة بمقتل فلويد أو غيره إنما هي تعبير عن موقف ثابت يجب أن يقفه المسلمون الذين جعلهم الله شهداء على البشرية ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (البقرة: 143) .

د. حسام الدين خليل

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.