تصفيد الشياطين حقيقته، سببه، دافعه

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين». متفق عليه

تساؤلات..
هل التصفيد أمر قدري؟ أم مقصد تكليفي؟ ما حقيقته؟ ما سببه؟ ما دافعه؟ هل هو نتيجة أم علة؟

من تتبع أحاديث تصفيد او سلسلة أو غل الشياطين أو مردتهم يجد بأنه جاء في سياق فتح أبواب الرحمة والجنان وإغلاق أبواب النيران والنداء على الراغبين في الخير والباغين له وانصراف الراغبين في الشر والباغين له..
إذن فيفهم من هذا السياق سببان اثنان ودافعان اثنان لتصفيد الشياطين وتقييدها وغلها، وهما:

أولا- الإقبال الجماعي على الطاعة والخير، وتراص الصفوف في ذلك، واتجاه عموم المسلمين نحو العبادة وأبواب الخير، وانصرافهم عن العصيان وأبواب الشر، وهذا يقلل فرص تسلل الكيد الشيطاني ومكره وغوايته وتحركاته كما يقلل القيد حركة المقيد، لا يعدمها وإنما يقللها، وهذا يفهم من أحاديث الوصية بتراص الصفوف في الصلاة وعدم ترك الفرج للشيطان لئلا يتسلل منها ويشتت ويفرق ويدمر ويفسد، ويفرق بين الوجوه والقلوب، فكلما كان هناك إقبال جماعي على الخير وانصراف جماعي عن الشر، في ظل عبودية لله وتوجه إليه انصرف الشيطان كما ينصرف عند سماع الأذان، وكلما كان هناك انصراف الجماعي عن الخير، وإقبال على الشر، كان الشيطان أكثر حرية في التخطيط والإفساد وإشاعة الشر، ويكون ذلك دافعا له ومحفزا على اجتيال بني آدم، وتفرقة صفهم وتثبيط عزمهم والانفراد بهم، والذئب لا يأكل من الغنم إلا القاصية..

الثاني: العزم المتولد عن الجمع، فكلما كان هناك عزم على الخير ورغبة فيه وبحث عن مقاصده وتنويع وتطوير لوسائله، وإصرار على ذلك ويقظة وإدراك لمصالحه، ضاق مسلك الشيطان، وفل حده، وخابت مكيدته وضعف عزمه، واختل ترتيبه، وكشف أمره وتلبيسه..

فتصفيد الشياطين أو مردتهم هو في الحقيقة إرباك لحركتها، ولمخططاتها، وتفكيك لخلاياها، وتفنيد لشبهاتها، وفصل بين القيادة والجند، وحيلولة بين ذلك التواصل، وتضييق تشويش وتشتيت..

فكلما كان العزم والاستمرار وطول النفس والصبر، كان التصفيد أكثر إحكاما، وإنما ربط ذلك بشهر رمضان، لأن فيه من الإقبال الجماعي والعزم الفردي ما ليس في غيره، وفيه دفع لذلك وترغيب فيه، لذلك يظهر التصفيد والسلسلة والقصر للشيطان وللشر أكثر من غيره..

فبالإقبال الجماعي والعزم الفردي على الخير في ظل العبودية لله تعالى تصفد الشياطين وتسلسل وتغل…

وبهذا الربط قد ينتهي الجدل حول حقيقة ذلك التصفيد والكلام الطويل فيه والرد على شبهه ووقوعه..ويميل الكفة إلى جانب الجد والاجتهاد والعمل والمحاولة والمواجهة والإصرار، على جانب الدعة، والوهم وانتظار المخلص، والاغترار..

وبعد توفيق الله تعالى لهذا الربط وهذا التأمل، وجدت كلاما مؤيدا لما ذهبت إليه للإمام ابن تيمية يجعل فيه الإقبال الجماعي والعزم الفردي على الخير دافعا لتصفيد الشياطين..

قال رحمه الله :
” وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَنْبَعِثُ الْقُلُوبَ إلَى الْخَيْرِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي بِهَا وَبِسَبَبِهَا تُفَتَّحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ، وَيُمْتَنَعُ مِنْ الشُّرُورِ الَّتِي بِهَا تُفَتَّحُ أَبْوَابُ النَّارِ ، وَتُصَفَّدُ الشَّيَاطِينُ فَلَا يَتَمَكَّنُونَ أَنْ يَعْمَلُوا مَا يَعْمَلُونَهُ فِي الْإِفْطَارِ ؛ فَإِنَّ الْمُصَفَّدَ هُوَ الْمُقَيَّدُ ، لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ بَنِي آدَمَ بِسَبَبِ الشَّهَوَاتِ ؛ فَإِذَا كَفُّوا عَنْ الشَّهَوَاتِ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ ” .
انتهى من “مجموع الفتاوى” (14/167) .

وقال أيضا :
” وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” إذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ ؛ فَإِنَّ مَجَارِيَ الشَّيَاطِينِ ، الَّذِي هُوَ الدَّمُ ، ضَاقَتْ ؛ وَإِذَا ضَاقَتْ انْبَعَثَتْ الْقُلُوبُ إلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ ، الَّتِي بِهَا تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ، وَإِلَى تَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي بِهَا تُفْتَحُ أَبْوَابُ النَّارِ ، وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ فَضَعُفَتْ قُوَّتُهُمْ وَعَمَلُهُمْ بِتَصْفِيدِهِمْ ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَفْعَلُوا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي غَيْرِهِ ، وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُمْ قُتِلُوا وَلَا مَاتُوا ؛ بَلْ قَالَ: ” صُفِّدَتْ ” وَالْمُصَفَّدُ مِنْ الشَّيَاطِينِ قَدْ يُؤْذِي ، لَكِنَّ هَذَا أَقَلُّ وَأَضْعَفُ مِمَّا يَكُونُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ ؛ فَهُوَ بِحَسَبِ كَمَالِ الصَّوْمِ وَنَقْصِهِ ؛ فَمَنْ كَانَ صَوْمُهُ كَامِلًا : دَفَعَ الشَّيْطَانَ دَفْعًا لَا يَدْفَعُهُ دَفْعُ الصَّوْمِ النَّاقِصِ ؛ فَهَذِهِ الْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ فِي مَنْعِ الصَّائِمِ مِنْ الْأَكْلِ ” .
انتهى من “مجموع الفتاوى” (25/246)

سفيان أبوزيد

شاهد أيضاً

عبد المجيد الزنداني.. حياة حافلة بالعلم والعمل والجهاد

ودع اليمنيون والأمة العربية والإسلامية يوم الإثنين 13 من شوال 1445 للهجرة، الموافق 22 أبريل 2024م علما من أعلام هذه الأمة، وكوكبا من كواكبها، وهاديا من هداتها، ورائدا من روادها، هو الشيخ عبد المجيد بن عزيز الزنداني، العالم العامل، والمجاهد والمربي، والقدوة المعلم، القرآني المحمدي الرباني، صاحب العطاءات الدعوية، والإمدادات التربوية، والجهود التعليمية، والأطوار الجهادية،