تزييف المشاعر دليل على المشاعر أحيانا

بقلم الأستاذ محمد جابر الجمعية المحمدية الطيبة فلسطين 48

يُنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كفى بالموت واعظا)، أي أن ذكر هذه الكلمة الصغيرة يُغني عن المواعظ الطوال. كلمة الموت تعرف الانسان حقيقة حاله وأحواله ومصيره وماله… هي نقطة نظام نقف أمامها لنرتب أوراقنا من جديد، لنخرج بجرد حساب عن حجم تقصيرنا في سداد ديوننا لله جل في علاه، ونجدد العزم على الوفاء بما نستطيع من حقوق الله علينا.

ولكني منذ فترة أرى تغيرا جذريا في نظرة الناس للموت، أو على الأقل ردة فعلهم على وقوعه بغض النظر عن أسبابه التي قد تجعل من ردة الفعل عند وهلتها الأولى أقوى أو أضعف، ولكن في العموم أرى أن الناس فقدت عنصر صدمة الموت في معظمهم، وباتت تنظر إليه كخبر من الاخبار أحيانا يثير انتباهها، لا لوقوعه وإنما لأن خلفياته مثيرة، والقصة التي سبقت وقوعه أو لحقته فيها عنصر من عناصر التشويق. أما ذات الموت فأصبح قسم منا يتعامل معه كطي صفحة من صفحات كتاب. هل ذلك لأن الموت لم يعد غريبا كما كان؟ لم يعد مجهولا ؟ أم أصبحنا نراه في كل مكان فألفناه وتألّفناه فلم يعد موحشا كما هي طبيعته، أم لأن طبيعة الناس تغيرت وقلوبهم قست؟!!!

أرى الشباب والرجال يدفنون أمهاتهم واباءهم … ولا تذرف عيونهم دمعة ولو كانت حتى زائفة، تنظر إليهم بعد ساعة من موت إنسان كان يعيش من أجلهم وكأن أمرا لم يحدث، فحتى تمثيل الحزن توقف الناس عن إتقانه. وأنا هنا لا أتحدث والعياذ بالله عن الاعتراض والتسخط من قدر الله جل في علاه، الذي لا رادّ له… فإن اللّه لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا (وأشار إلى لسانه) أو يرحم، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم، فالموت أحد أعظم اختبارات الإيمان، فإن رضي فله الرضى، وإن سخط فله السخط، وإنما المقصود هنا المشاعر الانسانية الفطرية التي أقرّها الشرع واعترف بها ودعى اليها، لأنها إحدى الأدلة على أن في حشونا قلب.

فقد اختلفت مفاهيمنا وأصبح الكائن منا أقرب إلى تمثال حديدي يكاد لا يحس ولا يتألم أو ينفعل؟! لا نسمع إلا أصوات أنفسنا واحتياجاتنا، فالتبلُّد اجتاح مشاعرنا لا نتأثر بمآسي الغير ولا نهتز لمصائبهم … أسمع شبابا بل أطفالا يتحدثون عن حادث طرق أو قتل لقريب لهم كما يتحدث أحدهم عن مشهد شاهده في التلفاز، فأنظر إلى الوجوه فأراها لا ترى إنسانا خلف الرواية، بل والمخيف أكثر أنها لا تعرف معنى إنسان، فأُصاب بالرعب من هذه الوجوه وما قد تؤول إليه مستقبلا.

حتى في المآتم ! أرى إطلاق الضحكات، العمل، مباريات كرة القدم، مأكولات، مشروبات، حلويات…متناسين أن أحدهم قد فقد روحه وانتهت حياته وأصبح بين يدي الله، وأنها جنة أبدا أو نار ابدا والعياذ بالله. حتى أهل الميت تجد حزنهم باهتاً.. ومؤقتاً وسريعاً … يموت زوج قضت معه العقود الطوال أو زوجة، ولا يظهر الوجد او الفقد…غريب!.

وما أظن ذلك من التصبر أو الرضى وقوة الإيمان ….. فإن أعظم الناس إيمانا عليه الصلاة والسلام، لم يُخفِ مشاعره وأعلنها أمام القاصي والداني في الكثير من المواقف، وأشهرها حين مات ابنه إبراهيم فقد دمعت عيناه، فقال له عبد الرحمن بن عوف وأنت يا رسول الله، فقال إنها رحمة وتبعها بأخرى (بدمعة) ثم قال : “إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون”. وهذه قمة الكمال البشري، إيمان عظيم ورضى بالقضاء ومشاعر وعواطف صادقة.

ولما مات الصحابي الجليل عثمان بن مظعون كشف عن وجهه صلى الله عليه وسلم وقبله حتى سالت دموعه الشريفة على وجه عثمان بن مظعون فرفع وجهه صلى الله عليه وسلم وبكى فبكى أهل بيته…

وكذلك لما أرسلت إليه ابنته أن ابنا لها ينازع، قام ومعه رجال من أصحابه، فحمله ونفسه تتقعقع، ففاضت عيناه، فقال سعد : يا رسول اللّه، ما هذا ؟ فقال : هذه رحمة جعلها اللّه في قلوب عباده، وإنما يرحم اللّه من عباده الرحماء.

ولـمـا سـمـع عليه الصلاة والسلام بعد غزوة أحد البكاء من دور الأنصار على شهدائهم، ذرفت عـيـنـاه وبكى، وقال : لكن حمزة لا بواكي له، فسمع ذلك سعد بن معاذ، فرجع إلـى نـسـاء بـنـي عـبـد الاشهل فساقهن إلى بيته عليه الصلاة والسلام فبكين على حمزة فـدعـا لـهن وردهن . وحين زار عليه الصلاة والسلام قبر أمه بكى وأبكى من حوله من صحابته رضي الله عنهم وأرضاهم.

وكذلك لـمـا قتل جـعـفـر بن ابي طالب في مؤتة ذهب عليه الصلاة والسلام إلى بيته وطلب أولاد جعفر، فشمهم واحدا واحدا وعـيـنـاه تدمعان، فقالت زوجته أسماء: بأبي وأمي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: “نعم أصيبوا هذا اليوم” فصاحت رضي الله عنها، ودخلت فاطمة وهي تبكي وتقول واعماه، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: “على مثل جعفر فلتبك البواكي”. ولما مات رجل في المدينة بكت مجموعة من النساء فقام عمر ينهاهن و يطردهن، فقال رسول اللّه : دعهن يا عمر، فإن العين دامعة والقلب مصاب والعهد قريب.

إني لا أجد في كتاب الله ذم للإنسان أعظم من هذه الآية التي يتوقف الإنسان فيها ليس فقط عن كونه إنسان، ولا يصل حتى إلى درجة الحجارة الصم ” ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً”، فإذا أردنا أن نبحث عن أسباب ارتفاع العنف والجرائم والقطيعة والطلاق والعقوق…. فنقطة الانطلاق يجب أن تكون بالبحث عن القلوب التي لم يعد يبكيها شيء …. ومن هنا كان دعاؤه عليه الصلاة والسلام: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عين لا تدمع).

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.