تحفيز الدماغ كهربائيا.. لماذا يستثمر الجيش الأميركي بكثافة في هذه التقنية؟

من بين كل آليات العلاج النفسي المعتبَرة حاليا في المراجع الطبية، تظهر تقنية جديدة يمكن أن تسمع اسمها من حين إلى آخر في نشرات الأخبار، وهي التحفيز الكهربي للدماغ، بالفعل تجد النتائج الأولى لهذه التقنية اهتماما لدى فريق من الباحثين، لكن وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتطورة “داربا”، وهي وكالة تابعة لوزارة الدفاع الأميركية، تهتم اهتماما خاصا جدا بهذه التقنية، وتأمل أن تساعد الجنود الأميركيين ليصبحوا أكثر قدرة على التركيز والتفكير بذكاء وعمق، فما سر تلك الشحنات الكهربية الخافتة التي تضرب مناطق محددة في الدماغ؟

مادة الترجمة
منذ عدة سنوت، أعلنت وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتطورة “داربا”، وهي وكالة تابعة لوزارة الدفاع الأميركية، عن تقنية لتحفيز الدماغ البشري كهربائيا تُسمى “tDCS”، تُبشِّر بنتائج استثنائية لتحسين قدرات الناس في مختلف المجالات، بداية من تحسين المهارات الحركية (مثل إعادة تأهيل مرضى السكتة الدماغية مثلا)، وصولا إلى سهولة تعلُّم اللغات. يحدث كل ذلك بتمرير تيار كهربائي ضعيف إلى المناطق المستهدفة من الدماغ، فتنشط الخلايا العصبية. تتألف أبسط أجهزة “tDCS” المستخدمة في الأبحاث من بطارية صغيرة تزيد قليلا على 9 فولت متصلة بإسفنج مدمج بالمعدن، ومثبَّت بشريط على فروة رأس الشخص.

تساءلت وكالة الأبحاث “داربا” عما إذا كان لهذه التقنية قدرة على تدريب الجنود في وقت أسرع. وبناء على هذا السؤال، قدَّمت الوكالة منحة للباحثين في جامعة نيو مكسيكو بالولايات المتحدة لاختبار صحة هذه الفرضية.

اتخذ الباحثون بيئة تدريب قتالية في الواقع الافتراضي، وهي في الأساس لعبة فيديو يستخدمها الجيش لتدريب الجنود على الاستجابة لمواقف مختلفة. خلال التجربة، عرضوا على الجنود صورا مُعدَّلة داخل اللعبة لأشخاص مشتبه فيهم وقنابل مخبَّأة، ثم طلبوا منهم أن يُقرِّروا سريعا إن كانت هذه المشاهد تتضمَّن علامات خطر. خاضت المجموعة الأولى من المشاركين هذه التجربة وهم على جهاز الرنين المغناطيسي الذي سجَّل أعلى مناطق الدماغ نشاطا أثناء التجربة.

ثم كرَّر الباحثون التجربة مع 100 شخص جديد، ووضعوا هذه المرة أقطابا كهربائية على أجزاء الدماغ النشطة التي سبق وأظهرها الرنين المغناطيسي. ثم مرَّروا شحنة كهربائية صغيرة على نصف الأشخاص بقوة 2 ميلي أمبير (وهو مقدار صغير جدا لا يُسبِّب أي خطر)، في حين تلقَّت المجموعة الأخرى كمية أصغر من التيار الكهربي. في ظل ظروف معينة، تفوَّقت المجموعة الأولى التي تلقَّت الجرعة الكاملة بمقدار الضِّعْف، وأظهرت أداء استثنائيا في الاختبارات التي أُجريت بعد ساعة من التدريب، مما يدل على أن ما تعلَّموه كان ثابتا.

في نهاية الدراسة، توصَّل الباحثون إلى أن تمرير شحنة بسيطة من التيار الكهربائي على فروة الرأس كفيلة بمساعدة الناس على التعلُّم أسرع. لكن في بعض الحالات، تكون نسبة مكاسب هذه التقنية صغيرة -تتراوح ما بين 10-20%- بينما في حالات أخرى تتحقق مكاسب أكبر، كما في الدراسة التي أجرتها وكالة “داربا”. في هذا السياق، يقول فينس كلارك، أستاذ علم النفس بجامعة نيو مكسيكو، الذي شارك في هذه الدراسة: “على الرغم من محاولاتي لتجربة كل أساليب التلاعب بالبيانات لتفسير تأثير هذه التقنية، فإن تأثيرها لا يتغير. كل النتائج حقيقية، ومهما حاولت التخلُّص من هذا التأثير، لا أجد سبيلا لذلك”.

تطوَّر الموضوع فيما بعد، وصمَّمت نسخة وكالة الاستخبارات التابعة لـ”داربا”، المعروفة باسم “آربا”، برنامجا يبحث في إمكانية الجمع بين هذه التقنية ومجالات أخرى، مثل الرياضة، والتغذية، والألعاب، بهدف تحسين أداء الإنسان بشدة في هذه المجالات. تعليقا على ذلك، يقول رجا باراسورامان، أستاذ علم النفس بجامعة جورج ماسون الأميركية، الذي يُقدِّم المشورة للفريق في وكالة آربا: “إن الهدف النهائي من كل ذلك هو أن يتمتع البشر بذكاء أعلى”.

سواء توصَّلت وكالة “آربا” إلى طريقة لجعل الجواسيس أذكى أم لم تنجح في ذلك، فإن مجال تحفيز الدماغ كهربائيا سيُغيِّر فهمنا الكامل للبنية العصبية والعمليات التي يقوم عليها الذكاء. واستنادا إلى وجهة نظر العديد من علماء الأعصاب الرائدين في هذا المجال، فإن هذه التقنية ستُحيلنا إلى أربع نتائج رئيسية.

أولا: زيادة فهمنا للروابط العصبية

ومع استخدام تقنيات تمرير تيار كهربائي إلى الدماغ أو عقاقير “التحفيز العصبي”، ربما يكتشف الموظفون الذين يعتمد عملهم على التركيز الذهني أنهم باتوا في وضع رافعي الأثقال ولاعبي البيسبول.
بدأت معالم الآليات العصبية المسؤولة عن تحفيز الدماغ تتضح بسبب جهود علماء الأعصاب، مثل مايكل نيتشه ووالتر باولوس من جامعة غوتنغن الألمانية، وماروم بيكسون من جامعة نيويورك. تُشير النتائج التي توصَّلوا إليها إلى أن تمرير تيار كهربائي إلى الدماغ يُزيد من مرونة الخلايا العصبية، فيُسهِّل عليها تكوين روابط عصبية جديدة.

لكن قبل ذلك، علينا أن ندرك جيدا أن أدمغتنا لا تعمل مثل الآلات، وأن الأمور فيها لا تسير بضغطة زر، إذ لا يمكنك بضغطة زر مثلا حل جميع الألغاز التي تؤرِّقك، وبالضغطة الأخرى تعلُّم اللغة السواحلية (لغة تنتشر على سواحل أفريقيا الشرقية، وهي اللغة رسمية لكينيا وتنزانيا وأوغندا). ولكن حتى إذا لم يؤدِ تعريض الدماغ لشحنات كهربائية إلى زيادة مستوى الذكاء بطريقة سحرية، فربما يساهم بدرجة كبيرة في تحسين الأداء مؤقتا في بعض المهام المتعلِّقة بالذكاء، مثل استرجاع الذاكرة والتحكم المعرفي.

سيُثير ذلك الكثير من التحديات الأخلاقية لا شك، وقد أُثير بعضها بالفعل سابقا عقب ظهور عقاقير “التحفيز العصبي”، مثل عقار “البروفيجيل” (Provigil) (وهو دواء جديد يعالج بعض اضطرابات زيادة الرغبة في النوم). ومع استخدام هذه التقنيات أو العقاقير، ربما يكتشف الموظفون الذين يعتمد عملهم على التركيز الذهني والكثير من الانتباه والمعرفة، مثل مراقبي الرحلات الجوية وعلماء الفيزياء، أنهم باتوا في وضع راكبي الدراجات ورافعي الأثقال ولاعبي البيسبول نفسه. وإن لم يلجأوا إلى هذه التقنيات، فربما سيتجاوزهم أولئك الذين لا يكتفون بقدراتهم الطبيعية واستعانوا بهذه التقنيات لزيادة قدراتهم.

ثانيا: صنع هذه الأجهزة سيكون شائعا ومحفوفا بالمخاطر

مع انتشار نتائج البحث، تبادل رواد المواقع الاجتماعية والإخبارية مثل موقع “ريدت” (Reddit) نصائح حول صنع أجهزة بسيطة لتحفيز الدماغ كهربائيا، وأماكن وضع الأقطاب الكهربائية للحصول على تأثيرات معينة. ردا على ذلك، ظهر مايكل وايزند، عالم الأعصاب بجامعة رايت ستيت الأميركية، مُحذِّرا الناس من القيام بذلك.

لا يزال هناك الكثير مما لا نعرفه في هذا الصدد. ربما علينا أن نتساءل أولا: هل التحفيز العصبي آمن إن استمر لفترات طويلة؟ هل سيدمنه الناس بعد مدة؟ يُحذِّر بعض علماء الأعصاب، مثل تيريزا إيوكولانو وروي كادوش من جامعة أكسفورد، من أن تعزيز القدرات المعرفية عن طريق التحفيز الكهربائي قد “يحدث على حساب الوظائف المعرفية الأخرى”.

فحينما طبَّق هذان الباحثان تقنية التحفيز الكهربائي على بعض المشاركين الذين طُلب منهم أن يحفظوا أكوادا مكوَّنة من أرقام مختلفة مع رموز، حقَّق المشاركون تفوُّقا في حفظهم للرموز أسرع من فريق المراقبة (الذين لم يتعرَّضوا للتحفيز). لكنهم مع ذلك، كانوا أبطأ في استخدام هذه الرموز عند إجراء العمليات الحسابية. ربما نستشف من هذه التجربة أن التفكير لعبة فوز وخسارة، إذ لا يمكننا أن نضيف إلى قوانا العقلية مزايا إضافية دون أن نطرح منها شيئا في المقابل.

ثالثا: إنها البداية فقط

بات علماء الأعصاب في جميع أنحاء البلاد (الولايات المتحدة) يولون اهتماما أكبر بكيفية تأثير أنواع أخرى من الإشعاع الكهرومغناطيسي على الدماغ، في حين يبحث البعض الآخر عن طرق صالحة لاستخدام التيار المتردد والطاقة المغناطيسية والموجات فوق الصوتية في هذه العملية. يبدو أن هناك طرقا عديدة لإثارة الدوائر العصبية في الدماغ بمختلف التقنيات الفعالة، لكن الأبحاث الأساسية لا تزال في مراحلها الأولى. تعليقا على ذلك، يقول أستاذ علم النفس فينس كلارك: “لا يزال الوقت مبكرا للغاية للخروج بنتائج مؤكَّدة، ولا تزال هذه التقنية في نسختها التجريبية. كل ما يمكننا فعله الآن هو مراقبة التأثيرات ومحاولة تغييرها أو التلاعب بها للحصول على نتائج عدة”.

عندما نتعلَّم المزيد عن الوصلات العصبية، فإننا بذلك نصبح أكثر قدرة على توصيل الطاقة إلى الأماكن الصحيحة تماما في أدمغتنا، بدلا من تمرير شحنات كهربائية أو موجات فوق صوتية إلى أجزاء كبيرة من الدماغ بلا فائدة. تُشير الأبحاث المبكرة إلى أن استهداف مثل هذه الأماكن قد يوضح الفرق بين التحسُّن الضعيف والنتائج المذهلة التي توصَّلت إليها وكالة الأبحاث “داربا”.

رابعا: المجال الطبي هو الأكثر استحقاقا لهذه التقنية

لن يكون صعبا أن نشهد في المستقبل القريب وفرة هائلة في العلاجات المُصمَّمة خصيصا للمساعدة في عمليات التعلُّم، أو اكتساب قدرات معرفية، أو تحسين الحالة المزاجية. فيستعين الناس بقليل من التيار هنا لتعزيز الذاكرة العاملة (المسؤولة عن تخزين المعلومات)، والقليل منه هناك للمساعدة في إتقان اللغات، بجانب دَفعَة بسيطة من الموجات فوق الصوتية لتحسين سلامة المرء النفسية.

لكن على الجانب الآخر، نجد ماروم بيكسون، أستاذ علم الأعصاب بجامعة نيويورك، يقف مُعبِّرا عن قلقه من أن التركيز على تحسين القدرات المعرفية قد يغطي على العلاجات التي يحتاج إليها بعض المرضى. فيرى أن المجال الطبي هو الأكثر استحقاقا لهذه التقنية في علاج بعض الأمراض، مثل الصرع، والصداع النصفي، والتلف الناجم عن السكتات الدماغية، والاكتئاب.

يستكمل حديثه قائلا: “تُشير التجارب العلمية والطبية المبكرة إلى أنه يمكن لهذه التقنية أن تتمتع بتأثير كبير يشبه تأثير الأدوية، خاصة على المرضى الذين لم يستجيبوا للعلاجات”. يذهب الباحثون في مجال تحفيز الدماغ كهربائيا إلى عملهم كل يوم حاملين هدف التخفيف من المعاناة البشرية. ولتحقيق هذه الغاية، يرغب الكثير منهم في أن يشهدوا التجارب الطبية التي تستعين بهذه التقنية والبدء في اختبارها ومقارنة نتائجها بنتائج أقوى وأشهر العقاقير.

في السياق ذاته، يقول راجا باراسورامان، أستاذ علم النفس بجامعة جورج ماسون: “نأمل أن تتبنَّى معاهد الصحة الوطنية هذه الفكرة، ونرغب كثيرا في رؤية منافسة حقيقية وواضحة بين تقنية “tDCS” ومضادات الاكتئاب، وسيكون الفوز للأفضل”.

_______________________________________

ترجمة: سمية زاهر

هذا التقرير مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة

شاهد أيضاً

استقالة رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية بعد الفشل في 7 أكتوبر

صرح الجيش الإسرائيلي في بيان اليوم الإثنين، إن رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية ميجر جنرال أهارون هاليفا، استقال، وإنه سيترك المنصب بمجرد تعيين خلف له.