تأملات هادئة في أفكار هائجة

بقلم : د. طارق هشام الرافعي

حرام عليكم.. حلال عليهم!
كنت أقرأ لمشايخ بارزين يكتبون عن تحريم التصوير الفوتوغرافي وكذا تحريم تعليق الصور.. وأنك إذا اضطُررت لهذه الصور لوضعها على الهوية الشخصية -مثلاً- فعند المُصوّر، وأثناء التقاط الصورة، عليك أن تُبرمج قلبك بحيث يكون رافضاً وكارهاً لها! ثم لما زرت أحد البلدان التي ينشط فيها هؤلاء المشايخ تفاجأتُ بصورة ضخمة جداً لرئيس الدولة على بُعد عدة أمتار من أكبر مسجد في ذلك البلد! (ناهيك عن صوره المنتشرة هنا وهناك).. قلت: ألم ينتبه هؤلاء المشايخ إلى صورة صاحب السلطان هذه؟ أم أن التحريم والتضييق والتعسير يكون على العامة حصراً لا على الطبقة الحاكمة! يعني الصورة حلال للزعيم “السوبر” وحرام على المواطن “العادي”!
احذروا الحسناوات الفاتنات!
كنت أسمع الخطب الرّنانة وأقرأ المقالات النّارية التي تُحرّضك على أن تحمل التلفاز وترميه في سلة المهملات بعد التأكد من تكسيره قطعة قطعة، أو تُحذّرك من الزواج من فتاة تعيش في بيت نُصِبَ على سطحه صحن الستلايت، فهي حُكماً ستكون فتاة فاسدة! ذات مساء في إحدى الدول العربية وبعد صلاة المغرب، جلس الإمام يعظنا وتكلم عن منكرات تحصل في الحديقة العامة المقابلة للجامع.. وطفق يتحدث في صيغة من المبالغة المشوقة: لا أستطيع أن أقول لكم ما يحدث.. إن اللسان لَيَعْجز عن الوصف أمام هذه الوجوه الطاهرة المتوضئة.. هذه الحديقة ترتادها المتبرجات الفاتنات!
حسناً، وما هو المطلوب يا شيخ؟! لقد دعانا إلى مقاطعة الحديقة وعدم القدوم إليها مع عائلاتنا للتنزه..
هذا هو الحل إذن؟! الحل السلبي الأسهل! يعني اتركوها للمتبرجات الفاتنات إياهن وللشباب الصايعين (على افتراض وجودهم)، وأنتم ابقوا في منازلكم! وأقسمُ أنني ارتدت هذه الحديقة مرات ومرات، فرداً وبصحبة عائلتي، وحرصت على تفقد أحوال الناس فيها، بحكم أنها قريبة من بيتي، وفي كل مرة كنت أقول في نفسي: سامحك الله يا شيخ، أين هنّ الحسناوات الفاتنات؟!


دخلتُ إلى إحدى أكبر المكتبات الإسلامية في لبنان وطلبت من الشيخ البائع كتاباً عن “البدعة الحسنة”، فسألني: تريد كتاباً يُقرّ بالبدعة الحسنة ويدافع عنها أم كتاباً يذُمها ويرفضها؟!

هم رجال.. ونحن رجال!
قرأت في أحد الكتب الأنيقةِ الإخراج مواعظاً لأحد المشايخ في صيغة سؤال وجواب.. بدأ بسؤال: هل تشرك بالله؟ ثم بعد قليل يسأل: هل تُسبل ثوبك؟! يعني تكاد أن تخرج بنتيجة أن الشرك وإطالة الثوب قرينان! وللفائدة، إذا أسبل الرجل ثيابه إلى ما تحت الكعبين بقصد الكبر والخُيلاء فإن هذا مُحرّم من غير خلاف بين العلماء، وأما إسبال الثياب بدون قصد الكبر والخيلاء، فجمهور العلماء من المذاهب الأربعة على عدم التحريم، وهو كذلك اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.

في العديد من المساجد تجد صوراً توضيحية لطريقة الوضوء والصلاة وقد مُحيتْ معالم وجه المتوضئ أو المصلي وطُمست بشكل يتنافى مع الفطرة السليمة والذوق السوي، بل إنك تجد هذا العجب في كتب الأطفال بحجة أن الصورة حرام! برأيي المتواضع، لقد ساهم هذا الفكر المتخلف في إخراجٍ نوْعي لجيلٍ تمسّك بالمظاهر وقفز فوق المقاصد.. فأصبحتَ ترى من حفظَ بعض الآيات والأحاديث وأطال لحيته ولبس العباءة.. أصبحت تراهم غير عابئين بأئمة الإسلام الأعلام ومدارسهم الفقهية واجتهاداتهم، ولسان حالهم ومقالهم: “هم رجال ونحن رجال! وكذلك الأمر بالنسبة للنساء اللواتي حصَّلن شيئاً من العلم الشرعي والتزمن بالحجاب، فخالط الكبر والغرور أنفسهن، فنصّبن أنفسهن قضاة يحكمن على فلان وفلانة.. وسمحن لأنفسهن بإيذاء الآخرين.. وقد سُئل رسول الله ﷺ عن امرأة عجيبة: امرأة كثيرة الصيام والصلاة والصدقة غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال: هي في النار! اللهم أجرنا جميعاً من النار!

ما أريكم إلا ما أرى!
كنت أناقش أحد أولئك المتعالمين المتوترين -هداه الله- حول موضوع فقهي بسيط أثاره هو: إلى أين يكون رفع اليدين في تكبيرة الإحرام؟ فهو الصواب عنده قولاً واحداً: الرفع يكون حذو المنكبين، وينتقد كل من لا يفعل فعله. فلما أخبرته أن عند أبي حنيفة قولاً آخر، وهو الرفع حذو الأذنين، نطق بكلام متشنج: أقول لك قال رسول الله ﷺ وتقول لي قال أبو حنيفة! فرددت عليه: يعني أبو حنيفة أحضر فقهه من بيت أبيه!

إن فكرة الرأي الصواب الواحد، والزعيم الأوحد، والبطل المخلِّص، والحزب الوطني الحاكم (دوماً) والقائد الوحيد الملهم (متعدد المواهب)، والرئيس إلى الأبد الذي لا يصلح بدونه حال البلد.. هذه الفكرة المتخلفة الراسخة في الذهن العربي والتي صنعت الديكتاتوريات وصادرت الحريات واحتكرت خريطة الحياة العامة، من رأس الهرم ولغاية أبسط العلاقات داخل الأسرة الواحدة، أقول إن هذه الفكرة شملت أيضاً المؤسسات الدينية في بعض البلدان العربية -إن لم تكن كلها- حتى رأيت أصحاب فكر “نحن الطائفة المنصورة والفرقة الناجية” يرفعون أصواتهم معلنين أن ما سواهم هم أهل بدع

ومعاصي ومنكرات! إن هذا الفكر الإقصائي، إذا لم يتم تداركه ومقاومته ومحاججته، قد يتبعه إقصاء من نوع آخر – فيزيائي! ألم يُنكِّل أتباع الفكر الإقصائي في كل زمان ومكان بالمسلمين -مع الأسف- باسم الإسلام؟! (وما “داعش” منا ببعيد!). ألم يُلحقوا بالأمة الضرر أكثر بكثير من أعداء الأمة الأساسيين؟!

إننا في عصر لم يعد مقبولاً فيه أن يُلغي بعضنا وجود البعض الآخر واجتهاده وإبداعه، ولم يعد جائزاً لأي أحد، كائناً من كان، احتكار الصواب ونفي الآخرين.

لا تضيّق واسعاً!
دخلتُ إلى إحدى أكبر المكتبات الإسلامية في لبنان وطلبت من الشيخ البائع كتاباً عن “البدعة الحسنة”، فسألني: تريد كتاباً يُقرّ بالبدعة الحسنة ويدافع عنها أم كتاباً يذُمها ويرفضها؟! إذن، اقرأ وفكّر واسأل واحكم واختر ما اطمأن إليه قلبك ما دام الأمر فيه سعة.. فإذا أنا اخترت أحد الكتابين والرأيين وتبنيتُهُ فلا تأتي أنت لتفرض علي الرأي الآخر الذي اخترتَه أنت وتبنيْتهُ أنت وتدَّعي أنك أنت على الحق ومن سواك على باطل!

لا بد من التغيير:
.. وبعد! فإننا بحاجة إلى فهم حقيقي عملي أشمل للإسلام.. فهم يتمسك بالثوابت ويتعامل مع الوسائل بحضارية ومسؤولية. فالفكر الإسلامي هو عملية التفاعل البشري -تفاعلي أنا وأنت- مع النصوص الشرعية، وهي عملية لا بد وأن تخضع للنقد والتجديد ما دام تفاعلنا حياً. والتراث الإسلامي هو في النهاية تراث إنساني تراكم عبر الزمن علق به الغث والسمين.
إننا في عصر لم يعد مقبولاً فيه أن يُلغي بعضنا وجود البعض الآخر واجتهاده وإبداعه، ولم يعد جائزاً لأي أحد، كائناً من كان، احتكار الصواب ونفي الآخرين والمراوحة في نفس المكان دونما أي تحريك لعجلة الفكر. ولم تعد مسؤولية علماء الدين الوعظ فقط، فهذا وحده لا يكفي لمخاطبة الشباب ومناقشة قضايا المسلمين وهمومهم المعاصرة. بل إنه ضرب من السذاجة حينما نرى بعض هؤلاء يقفون عند فتاوى مشايخهم ويكررونها ويتشبثون بها على الرغم من مجافاة بعضها للتطور الحضاري الطبيعي للإنسانية.

نعم، لا بد من التغيير. والتغيير يبدأ من داخل نفسك.. من زوايا عقلك. إنك لن تستطيع أن تتغير إلى الأفضل ما دمت تظن أنك دائماً على صواب، وما دمت لا تجري التعديلات المناسبة على طريقة تفكيرك، وأسلوب تعاملك مع الآخرين، بل مع الكون من حولك!

شاهد أيضاً

عبد المجيد الزنداني.. حياة حافلة بالعلم والعمل والجهاد

ودع اليمنيون والأمة العربية والإسلامية يوم الإثنين 13 من شوال 1445 للهجرة، الموافق 22 أبريل 2024م علما من أعلام هذه الأمة، وكوكبا من كواكبها، وهاديا من هداتها، ورائدا من روادها، هو الشيخ عبد المجيد بن عزيز الزنداني، العالم العامل، والمجاهد والمربي، والقدوة المعلم، القرآني المحمدي الرباني، صاحب العطاءات الدعوية، والإمدادات التربوية، والجهود التعليمية، والأطوار الجهادية،