تأشيرة خروج

المصدر: مجلة إشراقات

إنه الشعور بالرغبة الشديدة في السفر الآن، في هذه اللحظة.. كم من مرَّة احتجتم فيها لحزم أمتعتكم والعزم على سفرٍ تتركون فيه رزم مشاكلكم في أرضها، في مكانها.. وترحلون عنها؟؟

وهل تشعرون بالملل من وضعٍ متكرِّرٍ يُلزمكم بخريطة تغيِّر طريقكم وتفرض عليكم مساركم وتجبركم على الوقوف عند مشاكل _ لا ينقصكم منها _ وبل يجرُّكم قريبٌ أو أخٌ عزيز أو أخت حبيبة إلى حياة خارجة عن هندستكم، تقلّبكم بين خطوط المشاعر.. تارة إلى فوق وتارة أخرى إلى أسفل.. فتبدِّل مزاجكم وتلبِّد صفوكم، وتشغلكم عن معالي أهدافكم لتغتال أوقاتكم وتجمِّد أعمالكم.. وبضربة كفٍّ تفيقون، وفي لحظتها تلتقطون أنفاس أعمالكم الصالحة قبل رحيلها من برجها العالي إلى طابقٍ سفلي من المشاحنات المستهلكة للطاقات والمهاترات المضيِّعة للأوقات..
في هذه اللحظات نلتقط الأنفاس ونتمنى أن نستقلّ طائرة تأخذنا في ثوانٍ إلى مكانٍ بعيد لا نسمع فيه إلا الهدوء في هدير.
جميعنا متشاركون في هذه المشاعر.. لكن قد لا يكون السفر هو الحل وقد لا نستطيع السفر في هذا الوقت، في تلك اللحظة المشوشة.. وإن حالفتنا الظروف وسافرنا قد تبقى النفوس بثوبها البالي معلّقة لا تخلعه مهما كانت بالمسافات محلِّقة.
إنها النفس سرٌّ من أسرار الله وعجيبة من عجائب الكون..
إنّها النفوس التي تحجّ بمشاعرها قبل أن تصل إلى المشعر الحرام..
إنّها النفوس التي تحجّ في مكانها قبل أن تحجّ بأبدانها..
ويا لها من أيامٍ مباركات، للأجور حاملات، وللنفوس حافظات وبالصالحات متمّمات للنعمة، وفاتحات لدرجات في أعلى المقامات..
فأيامٌ تذهب وأيامٌ تأتي وتبقى هي الأزكى وتبقى هي الأفضل.. فهل سنترك فضلها لمن نسي الفضل وببرودة افتعل ما تغلي منه الأفئدة؟ فهل سنترك عبق هذه الأيام لروائح الأغلال والأحقاد؟؟
وبعد العشر الأواخر من رمضان نستقبل فصلاً جديداً من فصول الإيمان، فللإيمان فصولٌ تتبدَّل كما تتبدّل النفوس في كل يوم وفي كل ساعة، فيُزهر ربيع الإيمان في قلوبنا ويُنبت ورد أعمالٍ طيبات، بعبير أيامٍ معلومات وتروية القلوب المتصحرِّة بماء الحسنات فنبدِّل لباس التثاقل والقعود، بلباس الجهوزية كالجنود.. إنه لباس التقوى ليناسب فصلاً إيمانياً هو الأقوى.
أيامٌ لها الأفضلية، ترفعنا في سلّم … وبعبادات معدودات ترفع رؤوسنا بعزة نفسٍ كانت منسيّة فتذكّرنا أنّ من يباهي بنا هو ربّ البريّة.
وسبحان من لم يحصر الخيرية في حجاج اختارهم وانتقاهم ليتوجهوا بأجسامهم وروحهم إلى بيته المبارك الكريم، فوسع كرمه جميع خلقه لتشمل خيرية الحج من لم يؤذن له بشدّ الرحال إلى البيت الحرام..
لم ينسَ ربُنا أحداً من خلقه فالكلُّ سيعمُّه الإحسان منه إن أراد وقصد.. وما معنى الحجّ إلاَّ القصد.. والقصد كلُّه في رضا ربِّ البيت وإن لم تقصد البيت.. فكيف لجسدٍ أن يقصد الله ولم يحرِّكه قلبٌ قصد الله جلّ في علاه.
جعلنا إله العرش نصب عيوننا ومَن دونه خلف الظهور نبذناه
فإذا تأخرت تأشيرة الدخول إلى المناسك المقدَّسة فلنأخذ بتأشيرة الخروج من المكان والزمان بنسكٍ يضمنا إلى رحاب ربنا.
وإن لم تأخذك الطائرة إلى الحجِّ لتذكر في المشعر الحرَّام فستأخذك أجنحة المناجاة إلى منصب المباهاة، إذا اجتنبت المحرمات..
وإن لم يتسنَّ لك أن تخرج في يوم (التروية)، فإنك هنا من مكانك ستشرب كأساً من أمهات عبادات هي لك (تقوية).
وإن لم تستوِ مع الخلق في مشهد الحج فلتستو معهم في مشهد الساعة التي أنت فيها.. بتواضعٍ وحبٍّ.. فكلنا نتساوى لنتسامى وخط الاستواء يشمل من غادر البلاد ومن بقي..
ومن قال إنك لن تستطيع تقديم الأضحية؟؟ فلديك الكثير لتضحي به بما يرتقي بك إلى رفيق الأنس..
وقِف عند ربٍّ عَرَفَك فرفعك، قبل أن تقف في عرفة
فكتب لك الولادة من جديد في حجّ مبرور.. فإن لم تكن مع القافلة ففي صيامٍ مأثور..
فمن ولَّى وجهه قِبَلَ المسجد الحرام سيفوز… وما فاز الا مَن ولَّى قلبه عن كل حرامٍ ومكروه.
حجُّوا وأنتم في مقاعدكم.. عند مليك مقتدر.. إنَّه حجُّ الأرواح قبل حج الأبدان.
رجالاً وركباناً على كلِّ ضامرٍ ومن كلِّ ذي فج عميق أتيناه
نخوض إليه البر والبحر والدجى ولا قاطع إلاَّ وعنه قطعناه
فمولى الموالي للزيارة قد دعا أنقعد عنها والمزور هو الله
وكم من دعوة في الليل والنهار يرسلها ربنا لنا لزيارة رحمته، للأنس به، لقرع باب الفضل منه!! ويا لها من مرَّات..إن تُفكِّر فإنَّك لن تُحصي إلَّا بعضها.
وإن كان أقوى أنواع إنكار الحرام هو باليد، ثمَّ يليه الأقلُّ درجة وهو إنكار اللسان، إلى حدِّ الوصول إلى أدنى الدرجات وهو إنكار القلب..
فإنَّ أقوى أنواع الإقرار لحجٍّ مبرور هو حج القلب وتلبية الفكر..فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج..حجٌّ في كل ساعة وفي كل وقت للمسافر وللمقيم، للحاضر في المناسك وللغائب وفي بلده ساكن، بدون تأشيرة ولا جواز سفرٍ..
فالجوازات كلُّها بيدِ عليمٍ مقتدر، وبتأشيرة خروجٍ إلى حضرته ابتدر..
أقوى أنواع الإقرار لحجٍّ مبرور هو حج القلب وتلبية الفكر حجٌّ في كل ساعة وفي كل وقت بدون تأشيرة ولا جواز سفرٍ

شاهد أيضاً

أم على قلوب أقفالها؟

القرآن الكريم كلام الله تعالى، وهو أفضل وأعظم ما تعبد به وبذلت فيه الأوقات والأعمار، إنه كتاب هداية وسعادة وحياة وشفاء وبركة ونور وبرهان وفرقان،