بين المبادئ والمصالح

بقلم الشيخ سفيان ابو زيد 

قد يقول قائل: الناس تعيش (الميزيرية) الفقر والحاجة والعوز والهموم والغموم الداخلية، ورغم ذلك تريد منها أن تفكر في التطبيع أو الصحراء أو فلسطين أو الأقصى أو غزة !!! إن هذا لشيء عجاب !!!

وهذا سمعته من بعض الفضلاء واليوتيوبرز على وسائل التواصل الاجتماعي، وبعد تأمل ونظر في هذا القول، وجدت أنه صحيح ولكنه يحمل نصف الحقيقة فقط..

كيف ذلك؟

بعد تأمل ونظر في النصوص والقصص والحوادث الماضية والمعاصرة، توصلت إلى معادلة ولا أدعي الأولية فيها، وهي أنه:

كلما زاد الإفقار في المادي، قل الاهتمام بالمبدئ، وكلما زاد الإغراق في المادي، قل الاهتمام بالمبدئ

وخلال هذه الأسطر سأحاول تفكيك هذه المعادلة وبسطها، ولكن قبل ذلك لنرجع إلى عنوان هذه المقالة (بين المبادئ والمصالح) أرى بأنه تقابل في غير محله وإن كان شائعا ومستعملا، فالمبادئ مصالح في حد ذاتها بل هي المصالح الثابتة التي لا غنى عنها، وهي المصالح الضرورية التي تهلك الحياة بدونها أو بإهمالها، فمثلا ( مبدأ الدين ) هو مصلحة في الحقيقة لأن الدين جاء لينظم حياة الإنسان بين الماديات والعقليات والروحيات والاجتماعيات، هذه المصلحة قد لا تظهر عيانا، ولا تتذوق ولا تشم ولا تلمس، ولكنها حقيقة موجودة، إذا فقدت ظهر أثرها وكلما أمعن الفرد أو الجمع في تركه أو إهماله أو تجميده أو تحريفه، زاد ذلك الأثر ومن هنا جاء التعبير في الحديث بحلاوة الإيمان للإشارة إلى هذه المصلحة، وكذلك الأمر بالنسبة لمبدإ الأخلاق فهي مصالح منظمة للحياة تشيع الاستقرار والعدل والنظام والفضل، وبغيابها وإهمالها يشيع الظلم والاضطراب والجشع والمحق، وهكذا بالنسبة لجميع المبادئ، فالمبادئ مصالح ثابتة حقيقية لا غنى عنها، وإن لم تدرك أهميتها ومنافعها بشكل آني، او عند المستعجل، أو الجاهل بها، أو الذي يعيش ظروفا استثنائية قاهرة..(ولو انهم صبروا لكان خيرا لهم)

لنعد إلى معادلتنا:
فكلما زاد الإفقار والتفقير والتجويع والحاجة والضرورة والاستثناء، أهمل المبدأ والثابت، لأن العقل والجسد والنفس كل ذلك منزعج مضرور مضطرب مشغول بإزالة ذلك الفقر أو سد لوعة ذلك الجوع، أو دفع زمهرير ذلك البرد، أو إشباع لهفة ذلك العطش، أو تسكين ألم ذلك المرض او الجرح، ومن هنا جاء رفع الحرج في الشرع عن هذه الأحوال الاستثنائية، ولكن الشرع لم يقف عند رفع الحرج فقط، وهذا ما قد يغفل عنه كثير من الناظرين في النصوص، بل يضيف إلى ذلك السعي إلى العودة إلى الحالة الطبيعية المستقرة المتوازنة، فلا شك أن أحوال الإنسان تؤثر على أفكاره ومبادئه وقناعاته، إيجابا او سلبا..

وفي المقابل كلما زاد انهماك الإنسان في المادي، قل اهتمامه بالمبدإ، فإشباع الرغبات، والتفنن في تخمتها، والانتقال بين موائدها، والإغراق في تفاصيلها وجزئياتها، والحرص على الاستزادة منها، والوصول إلى درجة عبادتها، والوله بها، والتغني بها، وسحق كل ما يمكن أن يحول دونها، والدوس على كل ما يمكن أن يعترض الطريق إليها، فلا حياة بدونها، ولا كيان إلا بها، هنا تضيع المبادئ وتتصاغر وتضمحل بين براثن الماديات، بل تصبح عقبة ينبغي التخلص منها، وتدنيسها وتشويهها، والتقليل من شأنها، وإلجام الأفواه المتحدثة بها، ونبذهم (إنهم أناس يتطهرون) فلا مبدأ إلا المصلحة المتوهمة، فتصبح المبادئ خادمة لتلك المصالح، كلما صادفت المصالح المتوهمة تلك المبادئ، رفعت شعاراتها، وتزين بدثارها، فلما تغيب عنها او تعارضها، تهمل وتداس وتنسى وتشوه وتلجم وتقمع..

ومن هنا فإن أعداء المبادئ، الذين تخلوا عن فطرتهم وإنسانيتهم، وتشبعوا بجرعات طافحة من الجشع والمادية والمصالح الشخصية الآنية، فانسلخوا من الإنسانية، وانضموا إلى الإبليسية الشيطانية، حتى يحافظوا على هذه المكتسبات العفنة الظاهرية (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا) يسلكون أحد المنهجين السابقين:

منهج الإفقار والتجويع والتفقير، حتى ينشغل المجوعون المفقرون المحتاجون بفقرهم وحاجتهم وجوعهم، ويشغلونهم بشأن معاشهم، ومشاكل حياتهم، ويشيعون فيهم أن أهم إنجاز في الحياة، هو أن تجد مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا، وكلما ظهرت بوادر الرخاء وتطلع ذلك المسكين إلى جهة المبدأ، أغرق بهم أو مشكل منهك حتى لا يعيد التطلع، ومع طول المدة، والإرهاق، يقول بصوت متهالك مضعضع: المهم هو أن نعيش، ونشكر من أتاح لنا فرصة العيش..

والمنهج الثاني الذي يسلكه أولئك، هو منهج التتخيم والإشباع، والإغراق في الرغبات والماديات، وتصنيم المادة والشهوة، وفتح أبوابها، والتسهيل الوصول إليها، وإزالة كل العراقيل الحائلة دونها، والتخويف والترهيب من المبدأ الذي سيمنع ويحرم ويضيق ويزيل (إني أخاف أن يبدل دينهم أو أن يظهر في الأرض الفساد) فتقلب المفاهيم والحقائق، ويعم التجهيل والتجويف والتحريف، حتى إذا استحكمت المادة وعبدت، صار التسبيح بحمد ولي النعمة، وحمل المبدأ على نعشه إلى مثواه الأخير..

لذلك نجد الإسلام جاء بكل ثوابته وتفاصيله وجزئياته واصوله وفروعه، داعيا إلى الوسطية الحقة، التي هي المسلك الوحيد للاستقرار، والمأمن الوحيد من الاضطراب والانفجار، في لوحة تتناغم فيها المبادئ والماديات، كل يأخذ موقعه ومكانه ومكانته، دون خلط ولا قلب ولا (غمق) ولا ازدواجية ولا تلاعب، يعيش الإنسان فيه إنسانيته مع الحفاظ على مبادئه وثوابته..

ومن هنا، كان من أهم المهمات، واولى الأولويات، التوازن في التعامل مع الماديات، وترسيخ المبادئ وتطويرها وتجديدها، وجعلها محور الحياة التي تدور حوله الماديات، وهذه العملية مطلوبة من كل فرد كيفما كان حاله، سواء في سيل الإفقار أو في سيل الإغراق، فلا أحد يمكن أن يخرجك عن فطرتك او إنسانيتك أو مبادئك أو دينك، إلا إن استسلمت وأتحت له الفرصة وفتحت له الباب، وعشت على الأعذار، وعلى الإسقاطات، والتاريخ حافل بنماذج من الذين عاشوا أفقر الفقر، والذين عاشوا أغنى الغنى، ورغم ذلك كانوا رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه..

فالوطن مبدأ يقابله خيانة الوطن
والدين مبدأ يقابله ترك الدين او تحريفه
والقدس مبدأ يقابله التطبيع مع من ينتهك حرمته

وهكذا كل المبادئ تعاكسها مفاسد في ظاهرها مصالح..

ورغم ذلك فلابد أن يكون للظروف تأثير، ولابد أن يكون في الحياة سقوط، ولا ادعي هنا مثالية، فكلنا يرغب في الماديات ويستمتع بها ويبحث عنها، ولكن لا ينبغي أن نسلم مبادئها ليتلاعب بنا غيرنا..

شاهد أيضاً

شهداء بقصف إسرائيلي على رفح والاحتلال يرتكب 4 مجازر في القطاع

تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي شن غاراتها الجوية على مناطق متفرقة من قطاع غزة بينها مدينة رفح جنوبي القطاع، رغم تحذيرات دولية من خطورة شن عملية عسكرية على المدينة المكتظة بالنازحين، في حين تنتشر أمراض الجهاز التنفسي بينهم.