بدون عقاب.. هل مبادئ التربية الإيجابية فعالة حقا؟

في مقابل الطرق التقليدية للتربية التي اعتمدت العقاب وسيلة لتعليم الطفل، وبالنظر إلى الآثار السلبية التي تُحدثها، ظهرت بدائل أكثر فاعلية في عشرينيات القرن الماضي وتطوّرت في الثمانينيات، وهي بدائل تعتمدها اليوم عدة دول في مدارسها، وهي التربية الإيجابية التي تقوم على التعاون والاحترام وإشراك الطفل في تحمل المسؤولية، فما التربية الإيجابية تحديدا؟تقوم هذه الطريقة في التربية على تعليم الطفل قواعد الأمان بحيث يصبح هو نفسه مسؤولا عن أفعاله وبالتالي عن صحته وسعادته؛ فلا يعود الانضباط أو الالتزام أمرا يشعر الطفل بأنه مجبر عليه، وإنما يكون هو مسؤولا عنه، لأنه يعلم ما سيحققه من نفع بناء على ما يتخذه من سلوك، إنها بمعنى آخر تعزيز لنضج الطفل ليكون مسؤولا ومستقلا وسعيدا.تطورت التربية الإيجابية في عشرينيات القرن الماضي على يد ألفرد أدلر ورودولف دريكرز المتخصصين في علم النفس الفردي، ثم أعادت جين نيلسن ولين لوت قراءتها وتقديمها في الثمانينيات، ومنحتا الحياة لهذه النظرة المختلفة في التربية.يعتمد هذا النموذج على استبعاد الخوف عند استخدام السُّلطة في العلاقات، واستبعاد وسيلة العقاب، وتعتمد بدلا منه مزيجا من وسيلتين لا تنضب فوائدهما: المودة والحزم، وأن نعمل نحن الكبار على تطوير أنفسنا لنكون أكثر تعاطفا مع الطفل، وهي تُمثّل بالتالي تحديا كبيرا. في الوقت ذاته تُعد هذه الطريقة أكثر سهولة نظرا إلى أنها تعني تعليم الطفل باستمرار الكيفية التي ينبغي بناء عليها اتخاذ القرار الأنسب بالنسبة إليه. وفي هذا السياق كان رودولف دريكورز يقول:”لا يمكن للآباء والمعلمين الاستمرار في قيادة الأطفال، يجب أن يكتسبوا القدرة على أن يكونوا قادة ديمقراطيين”لماذا يُقدِم الطفل على سلوك سيئ؟
إننا نشعر بالخوف حين يعصي الأطفال أوامرنا، وحين يفشلون في أمر ما، وحين لا يعرفون شيئا، أو حين تنتابهم نوبات الغضب، ونلجأ إلى ما نظنّه العلاج الأكثر تأثيرا؛ العقاب أو المنع أو الابتزاز أحيانا، وهي وسائل فعالة حقا لكن فقط على المدى القصير.كان أدلر يعتقد أن الاستبداد والعقاب لا يوفران البيئة المناسبة التي تجعل الطفل راغبا في تغيير سلوكه، وكان يرى أن الأطفال في حاجة إلى نظام آخر من الشعور بالمسؤولية والحرية ليكونوا مواطنين مسؤولين يشاركون في مجتمعهم، وقد أشار إلى أننا نرغب بشدة في أن نكون جزءا من المجتمع، وهذا ما يدفعنا للسعي نحو تعلّم المهارات التي تسمح لنا بالمشاركة في المجتمع، وأن هذا يُعدّ دعما أساسيا للصحة العقلية على المدى الطويل.يرى أدلر أن نمو الإنسان وتعلّمه طوال حياته يتطلب دوما الشجاعة على أن يدرك حقيقة أنه ليس كاملا، وأنه يحظى مع ذلك بالاحترام ويكنّه للجميع، واتجه نحو تفسير أغلب “السلوكيات السيئة” التي يقوم بها الطفل بأنها محاولة منه لحلّ مشكلة تواجهه، وبالتالي فإن فهم هذه المشكلة يوفر لنا رؤية لكيفية مساعدته في البحث عن حلول أكثر فاعلية، إنها فلسفة تساعد الكبار في إدراك المشاعر التي تنتاب الطفل في الممارسات التعليمية وبالتالي القدرة على فهم تأثيرها في تنمية الأطفال وسلوكهم، وتوفر تقنيات لكل المشاركين في تعليم الأطفال؛ الآباء والمعلمين وموظفي الحضانة لمساعدتهم في تعلم المهارات الاجتماعية والحياة بطريقة تضمن احترام الطفل.تقنيات التعلم الإيجابي
الأمر الأساسي في هذه الطريقة هو تجنب استخدام العقوبات البدنية أو اللفظية وتجنب فرض القواعد والمبادئ التوجيهية. فالطفل هنا يجب أن يتعلّم لا أن يطيع، لذا ركّز على الحلول بدلا من العقوبات التي لا يمتد أثرها طويلا، فكّر فيما بعد العقاب، ما الذي تعلّمه طفلك بحيث لا يكرر الخطأ؟ وما مهارات حل المشكلات التي ساعدت على تطويرها لديه؟ركّز على المستقبل بدلا من الماضي، وعلى الحلول بدلا من العواقبالتركيز على أن يدفع الطفل ثمنا مقابل ما ارتكبه من أفعال بدلا من البحث عن حلول لها، يُشعر الطفل بالإهانة ويصرف تركيزه عن المشكلة فينصب اهتمامه فقط على الدفاع عن نفسه، وتكون بهذا قد فقدت مشاركته في الحل، وغالبا ما يملك الأطفال حلولا وأفكارا لكننا لا نوفر لهم الفرصة لإثبات ذلك.حين نتيح الفرصة للطفل ونأخذ توصياته على محمل الجد ونضعها في حيز التنفيذ فهذا يرفع مستوى ثقته بنفسه واحترام الذات لديه، لذا ولكي تضمن أن الطفل سيكون قادرا على مواجهة الموقف في المرة القادمة عليك التوقف عن إصدار الأوامر والبدء بسؤال الطفل عن اقتراحاته وتشجيعه على التعاون في حل المشكلات.اعرف طفلكهل تعرف طفلك؟ وهل سبق لك أن دخلت عالمه وتفهّمت وجهة نظره؟ والسؤال التالي الذي تحتاج إلى معرفة إجابته هو: هل تؤمن به؟ هل تراه إنسانا رائعـا لديه القدرة على التعلم والنمو ومواجهة تحديات الحياة؟ حين يكون لديك إيمان به، سيكون من السهل التوقف عن السيطرة والتصحيح والعقاب، ودعمه بالمهارات الحياتية التي يحتاج إليها حين لا يرافقه الكبار.الأخطاء ثمينةما تعلمناه عن الأخطاء حين كنا صغارا هو: لا يجب أن ترتكب خطأ، أنت فاشل وغبي إن ارتكبت خطأ، لا تدع أحدا يكتشف أنك أخطأت. بدلا من ذلك رسّخ في ذهن الطفل الشعور بالمسؤولية أكثر من الأسف في حال ارتكابه لخطأ ما، وأن يعتبره فرصة للتعرف على مدى تعاون الآخرين معه، وأنه مسؤول عن الاعتذار لمن أساء إليه، والبحث عن حل للمشكلة.اطرح أسئلة أكثر من إصدار الأوامراسأل طفلك: ما الذي يجب أن تفعله الآن؟، إحدى أكثر الطرق فعالية في التربية الإيجابية أن تطرح الأسئلة وتدع الطفل يقترح حلولا ويعبر عن رأيه وتتفق معه على الحل الأمثل، سيكون طفلك قادرا على الاستماع إليك باهتمام بعد أن استمعت أنت إليه .(3)افتح أمامه الاختياراتامنح طفلك فرصة لكي يُفاضل بين اختيارات مفتوحة -في المواعيد النهائية مثلا- تُعيد تحديدها بالاتفاق معه، حدد له اختيارين في المواقف المختلفة في بداية عمره، مثلا يمكن أن تسأله: “هل تريد أن تضع حذاءك أولا أو سترتك؟”. على أن تكون الاختيارات في البداية غير معقدة وتكون كلها في إطار المسموح به، ودع الاختيارات تزداد وتتنوع وفقا لعمره، وهكذا تتعرف على قدراته وتناقش معه عواقب كل منها وتنقل إليه شعورا بالمسؤولية والمشاركة والاستقلالية، فالأطفال يميلون للامتثال للقواعد التي شاركوا في وضعها، وهكذا يربح الجميع.امدح ما أعجبك في سلوك الطفلتركز التربية الإيجابية على مدح سلوكيات الطفل وتشجيعه على الاستمرار فيها لا على مدح الطفل ذاته، فمثلا لا معنى لمدح الطفل بأنه عبقري إذ إنها ليست صفة لصيقة به، لذلك أعد التأمل في سلوك الطفل وامدح المواقف الجيدة التي قام بها مثل قدرته على الحساب اليوم، ليكون لدى الطفل مؤشر للجانب الإيجابي الذي يجب عليه الاستمرار فيه. فمن شأن هذا تعزيز السلوك الإيجابي لدى الطفل.أعدّ له بيئة مناسبةالاستكشاف والفضول شعور طبيعي لدى الطفل في عمره المبكر، لذا أعدّ له البيئة المناسبة والمبهجة والمليئة بالألوان التي يمكن له استكشافها، ولا تحاصره فيها بكلمة لا.علّمه التعبير عن مشاعرهليس من السابق لأوانه أن يتعلم طفلك التعبير عن حقيقة شعوره، وأن يعرف كنهه قبل أن نعرفه نحن الكبار ونتدخل لحل مشكلاته، في سنواته الأولى سيكون قيامكما معا بمشاهدة صور لوجوه تحمل تعبيرات مختلفة والتعرف عليها أمرا مثيرا للطفل يمكن أن يتعامل من خلاله، وفي عمر أكبر أضِف إلى قاموس طفلك مفردات جديدة ومتنوعة للتعبير عن مشاعره وتقدير شعور الآخرين.تجاهل السلوك السيئ والعب دور المخبرلا أحد يحب أن يكون محاصرا طوال الوقت، لذا تجاهل بعض السلوكيات الخاطئة وامنح طفلك بعض الراحة، وتخير معاركك معه. وفي بعض المواقف تظاهر بأنك لم تره، وتأمل دائما أسباب تصرفاته، فهناك عوامل خارجية قد تكون السبب في فورات غضب أكثر حدة، كأن يكون الطفل قد أمضى وقتا طويلا هذا اليوم في الزحام أو تناول دواء له تأثير جانبي ما، وقد يكون الإرهاق أو تغيير الروتين الذي اعتاده سببا في سلوك مختلف له، يكون عليك تقديره.كيف تُنمّي المشاعر والسلوكيات الفعالة؟
– حافظ على كرامة الطفل حين يخطئ أو يعجز عن فعل شيء ما أو حتى لا يرغب في فعله، الهدوء هنا هو أكثر ما نحتاج إليه.
– حدّد أهدافا بعيدة المدى، مثل تمرين رياضي معين ستقوم به، ولتكن مواقف الحياة اليومية الداعمة لهذه الأهداف بمنزلة تقوية للعضلات التي ستؤدي بها هذا التمرين في النهاية، وبالتالي عليك تقويتها يوميا لتكون على استعداد.
– تواصل مع طفلك بشكل مستمر لكي تنمي قدراته التي يمتلكها بالفعل، وتساعده على تعلّم ما يرغب فيه لا ما تحاول أنت تعليمه له.
– كن مرنا بشأن هذه النقاط لأن كل طفل يختلف عن غيره.أخيرا فإن الصغار في طفولتهم المبكرة يشعرون في مواقف كثيرة بالغضب، وهو شعور تلقائي في مواجهة مشكلات التعايش مع هذا العالم، وتدريجيا ينتهي بهم المطاف إلى إدراك أنه ليس رد الفعل الأمثل لمواجهة العالم، دائما أنت النموذج الماثل أمامه للتعلّم، وسيبقى عليك تحقيق التوازن -الصعب- بين اللطف والحزم، وألا تفقد احترامك للطفل ولا لذاتك.

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".