الوعي الحقيقي من خلال منظومة المقاصد الربانية

غادة الحلو

كم نحتاج للوعي الحرّ الأصيل في جميع مناحي النفس الإنسانية؛ فكرا وروحا وجسدا؛ للنهوض بأنفسنا من أزقة الفشل المستمر على المستوى الفردي ثمّ الجمعي، وذلك لا يكون إلا بوعي حقيقي على المستوى الفردي ابتداءً من خلال الفهم الصحيح لمقاصد الله تعالى منّا، وذلك باسترداد معنى “خليفة الله” ودلالاتها في كلّ إنسان مسلم، وذلك بتكوين وعي فكري من خلال تصحيح المعتقدات والتصورات والمفاهيم؛ لنسترد التشريف والتكريم الذي وضعه الله تعالى -ابتداءً- فينا، ووعي روحي من خلال الاصطباغ بصبغة الله تعالى، ووعي جسدي بترجمة تلك المعتقدات والتصورات والمفاهيم واستثمارها بسلوكيات وأخلاقيات تربوية بناءة إيجابية، فيتحقق الوعي الفردي الذي هو طريق للنهوض بكلّ فرد منّا، فالوعي الحقيقي هو إدراك المعتقدات والتصورات والمفاهيم من خلال المنهج الرباني الحقيقي ومقاصده، فنفهم ذلك المنهج، فتسمو به أرواحنا، ثمّ نطبقه حتى يعمل كقوة بناءة فاعلة فينا، ثم فعّالة في توحيد صفوف المجتمع.

خلق الله تعالى الإنسان لمقصد كلي عظيم؛ وهو العبودية، قال تعالى (وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون)(الذاريات: 56)، من خلال استخلاف منهج الله العظيم في الأرض (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) (البقرة: 30)، والتمكين له (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) (النور: 55)، وإعمار الأرض به قال تعالى (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) (هود: 61)، ومن ثم فإن علة خلق الإنسان العبودية من خلال استخلاف منهج الله تعالى في الأرض، والتمكين لمنهجه جملة وتفصيلا، وإعمار الأرض بما فيه صلاح الخلق وإصلاحها في جميع المجالات وعلى جميع المستويات.

خلق الله تعالى الإنسان في الجنّة -مكانه الأصلي- (إذ قال ربّك للملائكة إني خالق بشرا من طين) (ص: 71)، خلقه عزّ وجلّ من طين أصله التراب (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب)(الحج: 5) بيديه الكريمتين (قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقتُ بيدي..) (ص: 75)، ونفخ فيه من روحه (ثم سواه ونفخ فيه من روحه) (السجدة: 9)، فأصبح الإنسان مُشرفا جسدا وروحا، ثم كرّمه بالعقل (ولقد كرمنا بني آدم) (الإسراء: 70)، ومن ثم تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات بالتشريف بالمعطيات الربانية، والتكريم الذي منحه الله تعالى إياه من مناح: جسدية، وروحية، وفكرية؛ فاستحق سجود الملائكة النورانية السماوية له (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين)(البقرة: 34).

لقد ذكر الله تعالى كلمة “النفس” في تنزيله الحكيم في 295 موضعا، على اختلاف أوجه معانيها، والنفس هي الذات وكينونة الأنا وحقيقتها فينا، التي تخبرنا عن دواخل أنفسنا، قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك علام الغيوب) (المائدة: 116)، فالنفس هي الذات باختلاف المنسوب إليها، الذات الربانية الإلهية الخالقة، والذات الإنسانية المُكرمة المخلوقة، والنفس الإنسانية واحدة، ولكن تنقسم إلى أنواع حسب صفاتها: النفس المطمئنة (يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية) (الفجر: 27-28)، وهي النفس المُخْلِصَة لله تعالى الساكنة بالله المستسلمة لله الراضية به، والنفس اللوامة (ولا أقسم بالنفس اللوامة) (القيامة: 2) وهي كثيرة التقلب في الحال بين المعصية والإنابة، والنفس الأمارة بالسوء (إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم) (يوسف: 53) وهي النفس المذمومة التي تأمر بكلّ سوء إلا أن يتغمدها بلطفه ورحمته، أو يهلكها بأمره.

وذكر الله تعالى “الإنسان” في تنزيله الحكيم؛ لينال زيادة التشريف الرباني، فقد ذكر الله تعالى كلمة الإنسان في منظومته الربانية في 43 سورة في 65 موضعا، واقتضت حكمته أن يُذكر الإنسان 7 مرات في سورة الإسراء؛ لينال منها تشريفا على تشريف، والتي كانت سبب نزولها حادثة الإسراء التي تمثل الترقي الروحي والسمو بها، وكذلك ذكره في 6 مواضع في سورة القيامة؛ ليذكر بمآله الأخروي الذي لا بد أن يعمل لأجله من خلال الإيمان والعمل الصالح، وذكره في 3 مواضع في سورة العلق، التي تذكره بأهمية تعلقه بمنهجه الرباني، ومقصد وجوده في استخلاف الأرض من خلال العلم (اقرأ باسم ربك الذي خلق) (العلق: 1)، كما ذكره في موضعين في 9 سور متفرقة، وكذلك في موضع واحد في 31 سورة.

شريعة السماحة نقلت الإنسان من الامتهان إلى التكريم، ويظهر ذلك واضحا من استقراء كتاب الله العزيز، مبيّنا فيها الصفات التي وضعها الله تعالى في الإنسان عموما؛ لا كمال إلا للذي خلق الأرض والسموات العلى، فقرر الله تعالى الواحد أن أصل الخلق الإنساني واحد، والمقصد التشريعي الكلي من الخلق أيضا واحد؛ لتكون بداية الوعي الحقيقي من كل فرد منا واحدة، وذلك عندما نأخذ المنهج الحكيم بقوة وثبات (خذ الكتاب بقوة) (مريم: 12) أخذا لا تردد فيه ولا ضعف، مع مراعاة فطرة النفس الإنسانية وجبلتها برحمة ولطف، أخذا بما في الكتاب الحكيم الرحيم لصناعة الفكر الإنساني، وسمو الروح السماوية؛ لتتم ترجمة الفكر والروح في السلوك الإنساني؛ فتُضبط بوصلة النفس الإنسانية بالمنهج الحكيم الرحيم؛ ليكون الإنسان مؤهلاً لاستخلاف الأرض والتمكين فيها وإعمارها.

إن أصل الخلق واحد، قال تعالى (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون) (الحجر: 26)، (ولقد خلقنا الإنسان من طين) (المؤمنون: 12)، (الذي أحسن كلّ شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) (السجدة: 7). إن الإنسان -ذكرا أو أنثى- له صفات لا بد أن يتذكرها دائما ليُقدِّر فيها الأمور ويُوازن، وعلى ضوئها يحاسب نفسه وغيره في ميزان واحد، حتى لا يحيف عن الحقّ، ويتحقق مقصد الخلق الأساسي (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (الذاريات: 56)، فلا تفاضل عند الله إلا بالتقوى؛ الإيمان والعمل الصالح.

كما أن الله تعالى خلق الإنسان على صفات جبلية فطرية، هي مزيج من صفات مُتناقضة سماوية وأرضية، صفات تجتمع لتؤهله لتحقيق مقصد الله من الخلق من خلال الابتلاء والتجربة، أما الصفات الأرضية فقال تعالى (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) (النساء: 28)، (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور﴾ (هود: 9)، (أو لم يرَ الإنسان أنّا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين)(يس: 77)، (ويدعُ الإنسان بالشرِّ دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا) (الإسراء: 11)، (إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) (الأحزاب: 72)، (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا) (الإسراء: 100)، (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل وكان الإنسان أكثر جدلا) (الكهف: 54)، (إن الإنسان خُلق هلوعا، إذا مسّه الشر جزوعا، وإذا مسّه الخير منوعا) (المعارج: 19)، (يا أيها الإنسان إنك كادحٌ إلى ربك كدحا فملاقيه) (الانشقاق: 6)، (لقد خلقنا الإنسان في كبد) (البلد: 4)، (كلا إن الإنسان ليطغى) (العلق: 6).

ممّا سبق يتبين لنا أن الصفات الأرضية الجبلية المشتركة في الإنسان هي: الضعف، واليأس، والخصومة، والعجلة، والجهل، والبخل، والجدل، والهلع، والجزع، والتعب، والطغيان. فهي صفات تدل على ضعف وانكسار وفقر وحاجة، جدير بمن يحملها أن يتأمل نفسه فلا يطغى أو يظلم، ويتمهل على غيره، ويلين ويرحم.

أما الصفات السماوية فهي تُدرك من سمو الروح الإنسانية وارتقائها، فيكون الإنسان مخلوقا متميزا عن غيره بالاختيار؛ (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها) (الشمس:7-8)، إن النفس الإنسانية عندما تختار الاصطباغ بأسماء الله تعالى وصفاته تتجلى بالتقوى والسعي بمقاصد الله تعالى، ولذلك يُعَرِّفُ الله عزّ وجلّ الإنسان دوما بالمقاصد الأساسية التي لأجلها خُلق ويُذكره بها؛ ليكون مستعدا وقادرا على حمل أمانة المسؤولية الملقاة عليه (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) (الأحزاب: 72)، إذ العبودية الحقّة لله تعالى تجعل الإنسان يصطبغ بأسماء الله تعالى وصفاته (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون) (البقرة: 138)، فينقلب ضعف الإنسان قوة بالله تعالى، وعجزه قدرة، ومن حول الإنسان إلى حول ربه، فتتحول الصفات التي أودعها الله تعالى في الإنسان من صفات الضعف إلى قوة، ومن عجز إلى قدرة، وصفات الإنسان يجب ألا تغيب عن الإنسان حتى عندما يستعرضها ليُنَبِّهَهُ إلى الغاية من خلقه (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) (النحل: 90)، فما أحوج الإنسان ألا يطغى أو يظلم من هم تحت رعايته؛ فيتحقق مقصد العدل، وأن يرحم من هم أحوج الناس إليه من قريب وحبيب، فيُحسن العشرة لهم، فيبادلونه الإحسان بالإحسان؛ فيتحقق مقصد الإحسان.

غادة الحلو

شاهد أيضاً

قتيل إسرائيلي في كريات شمونة بعد قصفها بعشرات الصواريخ من لبنان

قال حزب الله اللبناني إنه أطلق عشرات الصواريخ على مستوطنة كريات شمونة، ردا على غارات إسرائيلية على مركز إسعاف أدت إلى مقتل 7 متطوعين، بينما أعلنت الطوارئ الإسرائيلية مقتل شخص جراء القصف على كريات شمونة.