الهروب الكبير”.. حكاية بلا خاتمة

الأناضول

توقا للحرية، التي حُرم منها أكثر من ربع قرن، قرر الأسير الفلسطيني محمود العارضة، برفقة عدد من زملائه المعتقلين، البدء في حفر نفق، للهرب، من سجن جلبوع الإسرائيلي (شمال) الأكثر تحصينا.

وفي مطلع ديسمبر/كانون الأول 2020، بدأ الأسرى، الذين ينتمون لحركة الجهاد الإسلامي، وجميعهم من محافظة جنين، شمال الضفة الغربية، بحفر النفق.

والأسرى هم إلى جانب محمود العارضة، يعقوب قادري، وأيهم كممجي، ونضال انفعيات، ومحمد العارضة.

ولاحقا، وقبل يومين فقط من تنفيذ الهروب، انضم للخمسة، زكريا الزبيدي القائد السابق لكتائب شهداء الأقصى المحسوبة على حركة “فتح”.

وبحسب شهادات الأسرى، التي أدلوا بها لمحاميهم، الذين التقوا بهم عقب إعادة اعتقالهم، فقد استمر العمل في النفق، نحو 10 أشهر، وسط تكتم شديد، رغم صعوبة المهمة، في ظل الرقابة الإسرائيلية المشددة.

وتبدو العملية معقدة منذ بدايتها، حيث توجب البدء بحفر أرضية من الإسمنت المسلح بسمك 60 سنتيمتر.

والأكثر تعقيدا، هو كيفية التخلص من المخلفات وبخاصة الرمل، دون لفت انتباه السجانين، الذين يمتلكون خبرة طويلة في كيفية الكشف عن عمليات حفر الأنفاق.

ولذلك، شرع قائد العملية، محمود العارضة، بحسب محاميه رسلان محاجنة، بـ”صناعة أدوات الحفر من الأدوات المتوفرة”.

**الخطوة الأولى

كانت الخطوة الأولى، هي رفع البلاط، الذي سيبدأ النفق من أسفله، بطريقة احترافية، وبدون التسبب له بأي ضرر، لأنهم سيضطرون لإعادته، يوميا، بعد انتهاء الحفر، كي تبدو أرضية الحمّام، طبيعية، حينما يتم التفتيش اليومي من قبل السجانين.

وبحسب الكثير من الشهادات التي أدلى به أسرى سابقون، حاولوا حفر أنفاق، فإن هذه الخطوة، هي الأهم، وعليها تعتمد خطة الهروب.

**أدوات الحفر

واستخدم الأسرى، أواني المطبخ كأباريق الشاي، والقلايات والملاعق، ومقابض الأواني، وبعض الأخشاب في عمليات الحفر؛ وبأدوات بسيطة، تمكنوا من حفر نفق عظيم، بات أسطورة، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

لم تكن عملية التخطيط والتنفيذ، عبثية أو بدون تخطيط، حيث يذكر الأسير محمود أنه اعتمد على أرقام وحسابات دقيقة للنفق، من مدخله حتى مخرجه.

وخلال شهور العمل العشرة، تخلص الأسرى من مخلفات النفق في دورات الصرف الصحي، وبراميل النفايات، على دفعات صغيرة.

وبحسب مصادر إعلامية إسرائيلية، فإن طول النفق يبلغ 35 مترا.

**ليلة الفرار

قبل أسبوع من الموعد المقرر للهروب الكبير، حدث تطور خطير، أربك الأسرى، ودفعهم لاتخاذ قرار سريع، بالفرار.

كان هذا التطور، ملاحظة أحد السجانين، القليل من “الوحل” في حمام الزنزانة، فشك في الأمر.

وحينها قرر الأسرى البدء في تنفيذ خطته، قبل اكتشافها.

وقبل 48 ساعة من موعد الهروب، استدعى قائد الفريق، محمود، القيادي السابق في كتائب شهداء الأقصى، زكريا الزبيدي للزنزانة، كي يصبح أحد أعضاء الفريق التوّاق للحرية.

ولم يكن الزبيدي حينها يعلم بعملية الحفر، بحسب العارضة، وهو ما أكده الزبيدي لمحاميه.

**خروج من العتمة

في تمام الساعة الواحدة بعد منتصف ليل يوم 6 سبتمبر/أيلول الجاري، كانت الأجواء تبدو ساكنة؛ حتى أن حارسة برج السجن استغرقت في النوم.

لكنّ باطن الأرض كان يمور، مؤذنا بانفجار يقذف بموجبه الأسرى الهاربين من العتمة، والمتوجهين لمعانقة النور.

رفع الأسرى الستة، البلاط الذي يغلق فوهة النفق، وما هي إلا دقائق، حتى ابتلعتهم الأرض.

زحف العارضة ورفاقه الخمسة في النفق وصولا إلى بر الأمان، حيث كانت فتحة النفق الثانية، تقع خارج جدران السجن.

** ولادة جديدة

وجد الفلسطينيون الستة، أنفسهم فجأة، يتحررون من لقب “أسرى”.

نظروا للسماء فوقهم، فكانت لأول مرة منذ سنوات طويلة، بدون سقف، أو أسلاك وسياج.

كانت الأرض رحبة، وسهل مرج ابن عامر، مليء بالثمار.

سار الأسرى الستة في السهل، مشيا على الأقدام، دون تلقي أية مساعدة خارجية، وصولا لبلدة “الناعورة” (فلسطينية داخل إسرائيل)”.

دخلوا مسجدها، وكان نقطة تفرقهم؛ كل اثنين على حدة.

ترافق “محمود العارضة، ويعقوب قادري”، بينما انضم “زكريا الزبيدي لمحمد العارضة”، و”أيهم كممجي، لمناضل نفعيات”.

تعمّد الفارون، الابتعاد قدر الإمكان عن البلدات العربية، خشية التسبب بإلحاق الأذى بأي من السكان.

**صدمة إسرائيلية

أصيبت إسرائيل، فور كشف العملية، بعد عدة ساعات من فرار الفلسطينيين، بالصدمة.

وعبر وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، دار جدال ونقاش ساخن، حول ما جرى، وسط هجوم كبير على منظمة “السجون” داخل إسرائيل، وفشلها في عملها.

وعلى الفور، فرضت تعزيزات كبيرة في محيط مدينة جنين، ونشرت قواتها على طول الحدود، ولاحقت الأسرى في الحقول والبلدات الفلسطينية داخل إسرائيل، الأمر الذي حال بينهم وبين الوصول إلى الضفة.

** 5 أيام من الحرية

يقول الأسرى في شهادتهم لمحاميي هيئة شؤون الأسرى، الذين زاروهم الأربعاء، إنهم ذاقوا طعم الحرية لأول مرة منذ سنوات طويلة.

تناول محمد العارضة ثمار الصبر (التين الشوكي) لأول مرة منذ 22 عاما، وشاهد السماء بدون حواجز حديدية.

وبالنسبة له، فإن “تلك الأيام تغنيه عن سنوات الاعتقال”.

لم يشرب الزبيدي، الماء، طوال فترة الفرار، تناول ثمار البساتين، كالصبر والتين وغيرها.

وبالنسبة لـ”قادري”، فكانت أيام الحرية الخمسة “أفضل أيام حياته التي أمضاها في هواء فلسطين الطلق من دون قيود”.

شاهد الأطفال في الشوارع، وقبّل أحدهم، نام مع الطيور والذئاب، وعن ذلك يقول “هذا أجمل ما حدث معي”.

وعبر مذياع، كان برفقة الأسرى طوال فترة الفرار، كانوا على اطلاع بما يجري حولهم.

وكم كانت فرحة الأسرى الهاربين، عظيمة، حينما علموا بمقدار الفرحة التي عمّت الشعب الفلسطيني والعالم العربي، ابتهاجا بما أنجزوه، ورفعت من معنوياتهم.

**الاعتقال

بجوار مدينة الناصرة، وتحديدا قرب حي الفاخوري، تابع محمود العارضة، ورفيقه يعقوب قادري السير قدما، بحثا عن ملاذ، غير أنهم لم يطلبوا أية مساعدة من أحد.

وفي مساء يوم الجمعة الماضي، بينما شق الأسيران طريقهما قرب الناصرة تصادف مرور دورية من الشرطة الإسرائيلية في الموقع، فأوقفتهم واعتقلتهم.

وفجر السبت، أعلنت إسرائيل، عن اعتقال “محمد العارضة”، و”زكريا الزبيدي”، قرب بلدة اكسال (شمال)، وتعرضا للاعتداء حيث أصيب الأول برضوض، فيما أصيب الثاني بكسور في الفك، وأضلاع القفص الصدري.

ونُقل الأسرى الأربعة للتحقيق في مركز “الجلمة” القريب من جنين.

**فصول الحكاية لم تنتهِ

الكلمات التي ستكتب بها خاتمة حكاية “الهروب العظيم”، بحوزة “كممجي، ونفعيات”، اللذين ما زالا هاربين، وسيخطّان بلا شك، فصولا أخرى منها.

فحتى الساعة، ما تزال السلطات الإسرائيلية تجري أعمال بحث عن الأسيرين.

وتشير تقديرات إسرائيلية إلى أن الأسيرين أو أحدهما على الأقل، استطاع دخول الضفة الغربية، ومنطقة جنين تحديدا.

ومهما كانت النهاية، فإن حكايات أسرى فلسطين، لن تنتهي، فكل أسير “قصة”، وكل قصة قضية، وألم وحلم، بالحرية والفرار من العتمة.

وطالما بقيت السجون، وأُغلقت الأبواب والأصفاد على الأسرى، تبقى القصة بلا خاتمة.

شاهد أيضاً

أم على قلوب أقفالها؟

القرآن الكريم كلام الله تعالى، وهو أفضل وأعظم ما تعبد به وبذلت فيه الأوقات والأعمار، إنه كتاب هداية وسعادة وحياة وشفاء وبركة ونور وبرهان وفرقان،