المحركات الثلاثة للتعليم

حرزالله محمد لخضر

يتساءل الكثير من المهتمين بقضايا التعليم ومداخل تطويره، ما الذي ينهض بالتعليم؟ وكيف يزدهر وينعكس على التنمية بكافة مستوياتها؟ ولا شك في مشروعية هذا التساؤل، خاصة ونحن نرى ذلك الارتباط الوثيق بين تطور التعليم وقوة الاقتصاد وازدهار المستوى المعيشي للمواطنين في الدول المتقدمة.

وبالنظر إلى التجارب الرائدة نلاحظ أن التعليم في أي نموذج ناجح يتأثر بـ3 متغيرات مستقلة، وكل واحد منها يشكل وحدة عضوية تشتغل كمحرك ضمن نظام متكامل، وبقدر فعالية كل محرك بقدر ما يتكامل دور النظام الذي يمثل الحاضنة الطبيعة لازدهار التعليم. فما هذه المحركات الثلاثة للتعليم؟

وبالأحرى النظام السياسي وفعاليته على مستوى السياسة العامة، فوجود إرادة سياسية ووعي راسخ وبرنامج عمل طَموح لدى القادة السياسيين ومسؤولي الدولة في كل مواقع المسؤولية للنهوض بالتعليم والاستثمار فيه، يعتبر أهم وأول محرك لإرساء نظام تعليمي ذي جودة، فالاهتمام بالتعليم ينعكس في نوعية السياسات الإصلاحية المنتهجة وحجم الميزانية المرصودة وأوجه صرفها ونصيب التعليم من اهتمامات القائد السياسي وبرنامجه، وفي المكانة الاعتبارية التي يوليها الساسة للأستاذ والمعلم من حيث مستوى تصنيف الوظيفة، ومعايير الانتقاء، والتكوين والتدريب الوظيفي، والوجاهة والتقدير الرسمي.

فلنجاح الاستثمار في التعليم لا بد أن تتوفر في المقام الأول إرادة سياسية حقيقية، نابعة من إيمان ووعي بأهمية التعليم والبحث العلمي وجدوى الاستثمار فيه وكونه استثمارا مربحا على المدى المتوسط والبعيد، كما كان الشأن مع رئيس وزراء كل من سنغافورة لي كوان يو، وماليزيا محمد مهاتير في خططهما الإستراتيجية للإصلاح الشامل.

وهنا ينبغي التذكير أن من عوامل ازدهار الحضارية الإسلامية وانبعاث الحركة الفكرية والثقافية والعلمية وازدهار الترجمة والمكتبات وكثرة أندية العلم والعلماء والباحثين، هو احتضان الأمراء والخلفاء لطلبة العلم وتحفيزهم وإغداق المال على اقتناء الكتب وتفريغ العلماء والمترجمين واستجلابهم من جميع الأقطار، مما كان له عظيم الأثر على المستوى الحضاري.

الاقتصاد Economy
يمثل حجم الإنفاق على التعليم أحد أهم مؤشرات جودة التعليم، إضافة إلى السياسات التعليمية الرشيدة التي تستهدف تطوير منظومة التعليم ومناهجه، ويشير ذلك إلى مستوى تمكن الوعي لدى الدول والمجتمعات بالدور الحضاري الذي يلعبه التعليم في التنمية الإنسانية التي تمثل محور التنمية المستدامة.

ويرتبط حجم الإنفاق على التعليم بإجمالي الدخل الوطني الذي يمثل صافي الأرباح المحققة في دولة ما نتيجة لإنتاج كمية وفيرة من السلع والخدمات، وهو يرتبط بصفة مباشرة بالوضعية الاقتصادية للبلد ومستويات التنمية، فكلما كان الاقتصاد قويا ومتنوعا في مصادر دخله، كان الإنفاق على التعليم مرتفعا، فالاقتصاد يعتبر محركا أساسيا للمجتمع وللتنمية، وبناء عليه فإن المدخل الأساسي لتطوير التعليم يكون عبر بناء منظومة اقتصادية قوية وفعالة ومنتجة، من خلال تنويع مصادر الدخل القومي وعدم الارتهان للمحروقات، وترشيد سياسات الإنفاق مع تحديد الأولويات التي يأتي التعليم على رأسها.

وبما أن مستوى الإنفاق على التعليم والبحث العلمي مرتبط بحجم واردات الخزينة العمومية (إجمالي الدخل الوطني)، فلا بد من العمل على تطوير البنية الاقتصادية وعدم الارتهان للموارد الريعية المتقلبة، عبر توسيع سياسات الاستثمار والتوجه نحو اقتصاد المؤسسات الناشئة والصغيرة واحتضان المشاريع الابتكارية من خلال تشجيع رجال الأعمال على تمويلها، وذلك لأجل تنويع الموارد الاقتصادية.

ومن الجدير بالتنويه أن أهم أسباب تنمية البحث العلمي في الدول المتقدمة هو مساهمة القطاع الخاص في تمويل المشاريع البحثية ودعم الباحثين، وهذا التوجه الإيجابي يكاد ينعدم في دولنا العربية، أين نجد القطاع الخاص يهتم بتمويل الفرق الرياضية والمهرجانات الثقافية وأحيانا يكون بتدخل من السلطات الرسمية، ولكن لا نجد اهتماما موازيا -على الأقل- بدعم المشاريع البحثية ولا المبدعين رغم نجاعة أبحاثهم وإبداعاتهم. فالقطاع الخاص يعتبر من أهم مصادر تمويل البحث العلمي، وعلى الحكومات في الدول العربية وضع تحفيزات ضريبية ومزايا تنظيمية لتشجيع رجال الأعمال والشركات على تبني المشاريع العلمية وتمويلها، فهذه الإستراتيجية تعتبر من أنجح السبل لتمويل وتطوير البحث العلمي في ظل ضعف الدخل الوطني.

ومن الأساليب الناجعة أيضا تشجيع الوقف التعليمي والتمويل الوقفي للمؤسسات التعليمية والجامعية، كما هو الحال في العديد من الدول المتقدمة التي تضم أرقى الجامعات العريقة التي هي في أصلها أوقاف مسيحية، مثل جامعة هارفارد في الولايات المتحدة التي سميت على اسم المتبرع الأول لها وهو رجل دين بروتستانتي اسمه جون هارفارد.

المجتمع Society
المجتمع مطالب بتقديم المساهمة الإيجابية للارتقاء بمستوى التعليم، وذلك من خلال وعي الأفراد والأسر والمنظمات المدنية بأهمية التعليم ودوره في الارتقاء الحضاري للأمم، وهذا شرط ضروري ولازم لدعم وإنجاح مشاريع إصلاح التعليم، فالمجتمع الجاهل أو ضعيف الوعي سيكون فاقدا لبوصلة الأولويات، وستنحصر اهتماماته حول سفساف الأمور على حساب الوعي بأولوية التعليم ومكانته.

فالتنشئة الأسرية والاجتماعية السليمة والتوجيه الصحيح للأبناء نحو التعليم واحترام المعلم، مع حرص الوالدين على تعليم أبنائهم، ومنح المعلم ورجل العلم مكانة اجتماعية مرموقة، والارتقاء بالتعليم ضمن السلم التراتبي للوظائف، بعد تعزيز موقعه قانونيا ووظيفيا، كلها تمثل عوامل متضافرة لبناء قاعدة اجتماعية صلبة للنهوض بالتعليم.

فهذه المحركات الثلاثة تمثل الأعمدة الأساسية التي يقوم عليها التعليم، فهو يمثل مشروع دولة وفي الوقت ذاته هو مشروع مجتمع، يتشارك الجميع في تطويره والنهوض بأعبائه.

شاهد أيضاً

مقال بموقع بريطاني: هذه طريقة محاسبة إسرائيل على تعذيب الفلسطينيين

ترى سماح جبر، وهي طبيبة ورئيسة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية، أنه وسط تصاعد حالات تعذيب الفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، هناك حاجة ملحة إلى قيام المتخصصين في مجال الصحة بتوثيق مثل هذه الفظائع بشكل صحيح.