الكلمتان الحبيبتان الخفيفتان الثقيلتان..

بقلم الشيخ سفيان ابو زيد 

الكلمتان الحبيبتان الخفيفتان الثقيلتان..

(سبحان الله) (وبحمده) (سبحان الله العظيم)

لماذا جاء وصف هذا الثالوث بأنه (كلمتان) وهو في الحقيقة ثلاث كلمات؟
ما الذي جعل هاتين الكلمتين حبيبتين إلى الرحمان؟
لماذا وصف الله هنا بالرحمان؟
لماذا وصفتا بكونهما خفيفتين على اللسان؟
لماذا وصفتا بكونهما ثقيلتين في الميزان؟
هل في هذا الحديث تخصيص لهاتين الكلمتين بهذه الأوصاف دون غيرهما من الكلمات؟

إذا جئنا إلى التساؤل الأول، فجعل هذا الثالوث الظاهري (تسبيح، تحميد، تعظيم) كلمتين إما للترغيب فيه والحث عليه بكونه كلاما فهو لفظ وأخف ما على الإنسان هو لفظه وكلامه فلا يجد فيه صعوبة ولا مشقة ولا عنتا، لذلك حذر من الانسياب في كلامه لخفته، فهي مجرد كلام، والتخفيف الآخر هو كونهما كلمتين وليس كلما او كلمات، رغم أنهما في العد اللفظي أكثر من كلمتين، كل هذا للترغيب والتحبيب والتسهيل والتيسير والتنبيه على أن الفضل والبركة قد يكون في القليل وقد يكون في الخفيف وقد يكون فيما لا يؤبه له من الأقوال والأفعال، فلا تحقرن من المعروف شيئا، وللتنبيه على أن أهمية هاتين الكلمتين اللتين قد يقولهما الإنسان ويلوكهما غير مدرك لقيمتهما وفضلهما ومصلحتهما..

وقد يكون جعل هذا الثالوث كلمتين لأمر آخر: وهو أنهما كلمتان بالفعل وليس للتقليل او التخفيف، كيف ذلك؟
الكلمة في اللغة قد تطلق إطلاقا اصطلاحيا وهي القول المفرد، وقد تطلق على الكلام الجامع المانع فقد يطلق على الخطبة كلمة وعلى المقالة كلمة وعلى الموعظة كلمة وعلى الكلام المفيد كلمة، وذلك لإفادته وجمعه ومنعه ووجازته ووفرة معانيه وإحكامه ودقته وتواصله وعدم تناقضه، وهذا فيه معنى الترغيب والتيسير من حيث أنه وإن كانت تلك الخطبة كلمات عدة ولكنها في الحقيقة هي كلمة واحدة وفيه معنى المدح لذلك المتكلم الذي استطاع ان يجمع كل تلك المعاني وينظمها في سلك كلمة واحدة واضحة موضوعية صادقة نافعة جامعة مانعة..فهي هنا كليتان هامتان جامعتان محكمتان صادقتان نافعتان تحتاجان إلى تأمل وعصر ونشر لمعانيهما على الرغم من خفتهما وسهولتهما، مثلهما مثل الغمامتين اللتين تظهران خفيفتين فإذا أمطرتا أغذقتا…
إذن فكلا الاحتمالين وارد هنا..وكونهما كلمتان وليست ثلاث كلمات..

وحتى نجيب عن حقيقة كونهما كلمتين وليستا أكثر لنتأمل هذا الثالوث:

سبحان الله: هو تسبيح وتنزيه لله تعالى عن كل نقص، هذا التنزيه جاء بعد معرفة بالمنزه ومعرفة بصفاته وأفعاله وأحكامه وخلقه وتدبيره وتصرفه جعل الناظر والمتامل بعد مقارنة يصل إلى نتيجة التنزيه، التنزيه من كل نقص أو ضعف أو تجاوز او تهور أو سوء تقدير أو تدبير أو بشاعة أو اضطراب..فالتسبيح جاء بعد إقرار وتقرير للكمال المطلق من كل جانب ووجه، إذن فالكمال هو المقصود الأصلي وما كان للتسبيح أن يكون لولا الكمال، فهو كمال في الوصف والفعل، هذا الكمال هو المقصود المتواري خلف التنزيه المشار إليه في هذا الحديث، لأن التسبيح هو الذي يهم العبد ويطلب منه وهو الذي فيه مصلحته، لذلك جاء ظاهرا وجاء الترغيب فيه وفي يسره وسهولته، فالله عزوجل كامل كمالا مطلقا بتسبيحنا وبدونه وحكمنا لا يزيده كمالا ولا ينقصه، ولكن الخير كل الخير لنا، والمصلحة كل المصلحة لنا في تسبيحه وتنزيهه، وكأن الله تعالى يقول لنا لا تتعبوا أنفسهم فكمالي ثابت راسخ حقيقة (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت، فارجع البصر هل ترى من فطور، ثم ارجع بصر كرتين، ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) فلا مانع من النظر والتأمل في كمال الله ولكن من طريق الاستزادة في التسبيح وليس من طريق البحث عن النقص، فذلك طريق خاسئ حسير..

هذا التسبيح الذي هو حكم عقلي منطقي موضوعي مطلق، يدعو الجوارح والمشاعر الفطرية النقية الطاهرة التي لم يتوغل إليها حقد أو غل أو أبلسة إلى التحميد والحمد والثناء في القول والفعل، فتجعل ذلك المنزه معبودا حقا وتجعل حكمه حكما مطلقا، وتجعل صفاته معينا تستقي منه اخلاقها وسلوكها، وتجعل خبره أصلا في دراساتها وتأملاتها، وتجعل وعده غاية وهدفا، وتجعل وعيده حمى لا يقترب منه، هذه هي منظومة التحميد والحمد الحقيقي وليس اللفظي فالحمد هنا أصل التسبيح وسيلة وصفة له فقال هنا ( وبحمده ) فاحمده حمدا مغموسا في التسبيح، او بعطف حمده على تسبيحه، فالتنزيه التأملي العقلي لا يكفي، لا بد ان يفعل ويمارس ويظهر أثره في الحمد القولي والفعلي، والتسبيح والتحميد يظهر لنا مصلحة الكمال الإلهي التي تفيدنا في دنيانا وأخرانا، فالجسر الذي بيننا وبين كمال الله عزوجل والقناة التي نستفيد من خلالها من كمال الله عزوجل هي التسبيح المغموس في التحميد فهما بمثابة كلمة واحدة جامعة مانعة، فلا تحميد بدون تسبيح ولا تسبيح بدون تحميد، ولا يؤتي التسبيح أكله إلا بالتحميد ولا يكون التحميد على حقيقته إلا بالتسبيح..فهذه هي الكلمة الأولى..
التحميد مقصود والتسبيح وسيلة ومفادها: التحميد المنزه والمسبح..
وهنا لم يقل سبحان الله المحمود أو سبحان الله الحميد، كما في الثانية ( سبحان الله العظيم)
لأن التحميد أمر مطلوب مقصود هنا فقد يكون الشيء محمودا في نفسه، ولكن لا يظهره حمده إلا بحمد غيره، فهو حميد محمود حمدا مطلقا وإن عدم الحامدون، ولكن المقصود هنا التوصل إلى حمده والقيام بحمده وسلوك قناة حمده حتى نستفيد من كماله، بخلاف العظمة، فالعظمة ذاتية لا تحتاج إلى إثبات من الخارج، وإنما تحتاج إلى تنزيه واعتراف وليس إلى إثبات..
ناتي إلى الكلمة الثانية: وهي التعظيم المنزه
نلاحظ بأن التسبيح مكرر هنا فكما نزهناه سبحانه في حمده كذلك ننزهه في عظمته، فالحمد بريد إلى الإقرار بالعظمة، وهو مفادها وغايتها ومآلها، فحمد لا يقود إلى تعظيم لا عبرة به ولا حقيقة له ولا أمل فيه، وكما أنه حمد منزه، فكذلك سينتج لنا تعظيما منزها..

ستقول لي لماذا التركيز على التنزيه؟
سأقول لك: الإنسان مجبول على البحث عن الكمال في كل شؤونه المادية والمعنوية، وإذا أيقن بالكمال في شيء وثق به وأمن له، والله تعالى يخاطبنا وفق جبلتنا وفطرتنا، فيركز على قضية التسبيح التي هي بحث عن الكمال، فإذا ايقنت بكمال الله عزوجل وثقت به وأمنت له وأخذت عنه واثنيت عليه وحمدته وعظمته..

وبالتالي فكما أننا توصلنا إلى نتيجة الحمد المنزه فهي تقودنا مباشرة إلى التعظيم المنزه..
ومصلحة التعظيم تظهر في الاستمرار والثقة والابتعاد عن الانفلات والتهاون والاستهتار والحرص على الانضباط والسير وفق ما يصلح حال الفرد والجماعة والأمة والبشرية، وهذه المصالح لا تُتَأتى بالوقوف عند محطة التحميد وإن كان منزها، فالتحميد يفيد تفعيل الكمال، والتعظيم يفيد استمرار ذلك التحميد..
ومن هنا كانت هذه الكلمات كلمتان: تحميد منزه وتعظيم منزه..قناتان وكليتان لتفعيل واستمرار مصالح الكمال الإلهي تجاهنا..

وهاتان الكليتان والقناتان حبيبتان إلى الرحمان، لأنهما القناتان الوحيدتان اللتان نستفيد من خلالهما من كماله سبحانه فهو كامل بهما وبدونهما، ولكن لا منفد لنا للاستفادة من كماله إلا من خلالهما، وارجع البصر والنظر فلن تجد هناك منفدا إلى مصالح ومنافع كماله سبحانه إلا من خلالهما، وهنا تتجلى رحمة الله الواسعة الشاسعة بنا لذلك جاء التعبير بصفة ( الرحمان ) فالله تعالى غني عنا وكماله حقيقة راسخة ثابتة بنا وبدوننا، ولكنه سبحانه يريدنا ان نستفيد من كماله فجعل قناتَيْ ذلك وكليتَيْ ذلك وكلمتي ذلك حبيبتين إليه بوصفه وكونه رحمان الدنيا والآخر..
ومن هنا ادركنا حقيقة كونهما حبيبتين إليه وسر وصفه هنا بالرحمان.
اما كونهما خفيفتين على اللسان، وذلك كما سبقت الإشارة إليه للترغيب فيهما وفي مصالحهما ومنافعهما، ومفتاح ذلك وبابه هو ذكرهما والنطق بهما واللهج بهما واتخاذهما شعارا ودثارا وقانونا ودستورا، فهما خفيفتان في النطق، فما عليك إلا ان تقر بهما وتنطق بهما وسيكرمك الله بكنوزهما ومصالحهما..
تلك الكنوز وتلك المصالح والمنافع ثقيلة في ميزان الدنيا والآخرة: في ميزان الدنيا صلاحا وإصلاحا ومصلحة حقيقية وتجنيبا لاغلب المضار والمهالك والمفاسد المادية والمعنوية والاقتداء بكمال الله عزوجل وكمال منهجه وفهم سننه واقداره ومآلات ذلك، وإدراك مقاصده ومراميه، فهذا يثقل ميزان الدنيا خيرا وفضلا ومنفعة، كما يثقل ميزان الآخرة أجرا وثوابا وإنابة وقربا.

وهذه الفضائل التي ذكرت لهاتين الكلمتين الكليتين تكاد تكون حصرية عليهما، لأنه كما قلت لا مجال ولا منفد للاستفادة من كمال الله عزوجل إلا من خلالهما، وهل في الكون وفي الأرض وفي التاريخ وفي المستقبل خير من الاستفادة من كمال الله عزوجل وهل هناك مفسدة أعظم من الانقطاع والتيه عن الاستفادة من كمال الله عزوجل..
لذلك حق لهما أن يكونا كلمتين حبيبتين إلى الرحمن خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان..

والله أعلم

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".