العقوق… دمارٌ وخراب

إسماعيل الثوابتة

تبدأ قصتنا عندما أخذ شاب أباه العجوز الذي تجاوز الـ75 من عمره إلى مطعم فاخر من أجل تناول طعام الغداء، فكبار السّن يجلسون غالبًا في بيوتهم، ويحتاجون بين الفينة والأخرى إلى الخروج من المنزل لتغيير الجو النفسي العام لهم، وعندما وضع النادل طعام الغداء لهما في ذاك المطعم؛ شرع الشاب -قبل تناولهما الطعام- في ترتيب جلسة والده العجوز؛ وضع قطعة من القماش على ساقي والده، وألبسه قطعة قماش أخرى تحت رقبته مُتدلّية على صدره حتى يبقى نظيفًا، وقبّل والده قبلة على رأسه ثم جلس بجانبه.

بدأ الوالد العجوز يأكل من الأطباق المصفوفة أمامه على المنضدة، ومع كل ملعقة يتناثر الطعام على ملابسه، وعلى الأرض، وقد لفت هذا الأمر انتباه جميع الزبائن الجالسين في المطعم! الجميع صار ينظر إلى المشهد بشفقة على الرجل، ولكن الشاب بقي هادئًا حتى أكمل والده الطعام كاملًا.

بعد ذلك أخذه إلى المغسلة، وغسل له يديه وفمه ووجهه بالماء والصابون، ورتّبه وجمّله، ثم عاد بكل هدوء ورضى إلى مكانهما، وقام بتنظيف المكان بكل هدوء، وجميع من في المطعم ينظر إليه!

دفع الشاب فاتورة الطعام عنهما، وهمّ بالخروج من المطعم بصحبة والده، فنادى عليه رجل من الجالسين وقال له: أيها الشاب، هل تعلم ماذا تركت في المطعم؟ تفقّد الشاب جيوبه، ثم قال: لم أترك شيئًا، فقال له الرجل والدموع في عينيه: لقد تركت لنا درسًا بليغًا عن برّ الوالدين يا سيدي يا صاحب الخلق الجميل، لقد طرقت قلوبنا وجدّدت فينا خلق الوفاء للوالدين، وأظهرت عجزنا عندما كنّا مقصرين بحق والدينا في كثير من المواقف والأحداث، تبسّم الشاب ثم خرج وهو يحتضن والده.

انتهت قصتنا القصيرة، ولكنها زرعت في قلوبنا معاني عميقة كثيرة لا تُقدّر بثمن، معاني ممتلئة بالبرّ والعواطف والحب والرضا.

بلغ مقدار هدر الوفاء تجاه الوالدين لدى كثير من الناس مرحلة سحيقة من العقوق والجفاف العاطفي والأدبي والأخلاقي، جفاء يُردي صاحبه في أعماق جهنّم السوداء، ولا أفهم كيف يهُون على هؤلاء العاقّين أن يتسببوا بهذا الإيذاء الشنيع لوالديهم؟ ألا يدرك هؤلاء نهايتهم في ظل غضب الوالدين عليهم؟ وكيف يضعون رؤوسهم في نهاية كل يوم على الوسادة؟ وكيف ينامون؟

ألا يعلم هؤلاء أن عقوبة عقوق الوالدين في الحياة الدنيا تُعدّ عقوبة مُعجّلة؟ ألا يعلم هؤلاء أن العقوق هو سبب من أسباب الشقاء في الآخرة والحرمان من دخول الجنّة؟ وأنه سبب من أسباب غضب الله، والطرد من رحمته؟ كما ورد في العديد من آيات القرآن الكريم وكما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في عشرات الأحاديث النبوية الشريفة التي تملأ كتب الحديث الشريف والسنّة؟

هل مرّت عليكم قصة “حيزان”؟ رُبما هي قصة غريبة بعض الشيء، إذ وصل الحال بشخص يُدعى “حيزان” مع أخيه إلى المحكمة للقضاء بينهما في أمر “والدتهما”، هذه القصة التي خسر فيها أحد الأخوين قضيته في المحكمة أمام أخيه الآخر، فقد أخفقت كل الحلول لإنهاء النزاع بينهما، ولكن علام كان النزاع؟ كان على رعاية أمه العجوز التي لا تملك سوى خاتم من نحاس!

فقد كانت الأم المُسنّة في رعاية ابنها الأكبر “حيزان” الذي يعيش وحيدًا، وعندما تقدّمت به السن جاء أخوه من مدينة أخرى ليأخذ والدته لتعيش مع أسرته، لكن “حيزان” رفض رفضًا قاطعًا، محتجًّا بقدرته على رعايتها وأنه هو الكبير وله الحق في رعاية أمه، ووصل بهما النّزاع إلى المحكمة ليحكم القاضي بينهما، لكن الخلاف احتدم وتكررت الجلسات، وكلا الأخوين مصرٌ على أحقيته برعاية والدته، وعندئذ طلب القاضي حضور الأم المُسنّة لسؤالها، أحضرها الأخوان بالتّناوب على حملها، فقد كانت خفيفة الوزن.

وبسؤالها عمن تُفضّل العيش معه؛ قالت وهي مدركة لما تقول “هذا عيني” مشيرة إلى حيزان، و”هذا عيني الأخرى” مشيرة إلى أخيه، وعندئذ اضطر القاضي إلى أن يحكم بما يراه مناسبًا، وهو أن تعيش مع أسرة الأخ الأصغر، فهو الأقدر على رعايتها، وهذا ما أبكى “حيزان” بكاء مريرًا، بكاء بلّل لحيته!

على سُلّم الأولويات ينبغي أن تكون معاملة الوالدين أو أحدهما، ويجب ألا نسمح لأي كائن بأن يؤثّر تأثيرًا سلبيًّا في علاقتنا مع والدينا، وأن تظل توجيهاتهما وطلباتهما على رأس القائمة لدينا ما دامت بعيدة عن الإشراك بالله، ينبغي أن تبقى هذه العلاقة في أفضل الحالات كحوأرقاها

شاهد أيضاً

الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل رقيب وصواريخ المقاومة تدك غلاف غزة

أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي مقتل رقيب احتياط في معارك شمال قطاع غزة، وفي حين تواصل المقاومة الفلسطينية عملياتها ومنها إطلاق صواريخ على مستوطنات إسرائيلية في غلاف غزة، تستعد قوات الاحتلال لشن عمليات في بيت لاهيا شمالي القطاع.