السلطة في مواجهة شعبها.. هل يصبح نزار بنات “بوعزيزي” جديدا في فلسطين؟

تُظهر صورة فوتوغرافية رجلا فلسطينيا يطأطئ رأسه قليلا لحمايتها من قبضة رجل يفوقه ضخامة يمسك به، ويهم بغرز حجر صخري حاد في كتفه، ومن حوله مجموعة من المتظاهرين بعضهم يتردد في نجدته، في حين يهرب البعض الآخر من هول المشهد. حين يرى الفلسطينيون هذا المشهد تحديدا، يميلون إلى تفسيره بأن عنصرا من قوات “المستعربين” الذين يعملون في أجهزة الأمن الإسرائيلية، وتكمن مهمتهم في التسلل إلى التظاهرات والمواجهات في المدن الفلسطينية، يقوم باعتقال مواطن فلسطيني والتنكيل به. في الحقيقة، لم يكن المعتدي هذه المرة مستعربا إسرائيليا، وإنما رجل أمن فلسطيني تابع للسلطة أُعطي أوامر بقمع متظاهرين سلميين خرجوا للتنديد بمقتل الناشط الفلسطيني “نزار بنات” على يد السلطة نفسها قبل أيام.

في 26 يونيو/حزيران الحالي، خرج الفلسطينيون للتجمع في دوار المنارة الشهير وسط مدينة رام الله، رافعين صور بنات وملوِّحين بالأعلام رفضا لممارسات قوات الأمن الفلسطينية، ومطالبين بإسقاط حكم الرئيس محمود عباس الذي دام 16 عاما، وكذلك معاقبة الجناة الذين قتلوا الناشط الفلسطيني. هتف المحتجون: “يسقط يسقط النظام”، “اخرج اخرج يا عباس”، و”الشعب يريد إسقاط النظام”، لكن الهتافات القادمة من تظاهرات الربيع العربي عام 2011 أزعجت النظام الفلسطيني، فاندفع لمواجهتها بقوات مكافحة الشغب، بل وبعناصر من خارج الأجهزة الأمنية. ولم تتوان الفرق الأمنية في إطلاق الغاز المسيل للدموع وضرب المدنيين، كما هاجموا بوحشية غير مسبوقة الصحفيين ودمروا كاميراتهم، لتُسجَّل بذلك مرحلة جديدة وخطيرة من الصراع على الساحة الفلسطينية، هذه المرة في مدن الضفة الغربية وضد نظام السلطة الفلسطينية لا إسرائيل.

بينما ترقب الفلسطينيون تبعات اتفاق وقف النار الهش بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية “حماس” بعد هجوم إسرائيلي عنيف على قطاع غزة، قطعت اهتمامهم فجأة معلومات خطيرة تتحدث عن صفقة تبادل لقاحات فيروس كورونا شارفت صلاحيتها على الانتهاء بين السلطة الفلسطينية في رام الله وإسرائيل. وانتقل اهتمام الشارع الفلسطيني حينئذ نحو تلك الصفقة، التي أظهرت مدى فساد السلطة إلى درجة عبثها بصحة الفلسطينيين والتواطؤ ضمنا في سياسات إسرائيل العنصرية ضدهم. وتنص الصفقة على تحويل نحو مليون جرعة من لقاح فايزر ستنتهي صلاحيتها قريبا من إسرائيل إلى السلطة الفلسطينية، مقابل حصول تل أبيب على شحنة جديدة خصصتها شركة فايزر للسلطة ستصل في الأشهر القادمة.

ورغم أن السلطة الفلسطينية تراجعت عن الصفقة تحت وطأة السخط الشعبي، وألغتها بذريعة أنها “غير مطابقة للمواصفات الواردة في الاتفاق”، فإنها لم تتحمل ارتفاع الأصوات الناقدة لها بينما هي ما تزال تعاني التهميش الشعبي والسياسي بعد الهجوم الإسرائيلي الأخير على غزة، فانكب الأمن الفلسطيني على ملاحقة العديد من الأصوات المعارضة في مدن الضفة الغربية. كان أحد هؤلاء رجلا يعمل نجارا ويقيم في بلدة دورا بالخليل، تَصدّر قائمة الأشخاص الأكثر إزعاجا لدى مسؤولي السلطة الفلسطينية. إنه الناشط الفلسطيني “نزار بنات” (43 عاما) الذي عُرف بانتقاده السلطة الفلسطينية وقادتها ورموزها، واشتهر بمعارضته تنسيقها الأمني مع إسرائيل، وبنشاطه ضد “مشروع التسوية” الذي تقوده السلطة الفلسطينية، وهو ما عرضه للاعتقال والتعذيب في سجون السلطة عدة مرات. أزعج نزار السلطة مؤخرا بانتقاد دورها في قضية اللقاح، وقال إن “فضيحة اللقاحات ليست سلوكا جديدا، وإن هناك أشخاصا متنفذين ومرتزقة في السلطة”. وقد اتخذت السلطة قرارها فيما يبدو بأن تلك ستكون كلمات نزار الأخيرة.

قبل أن تتراجع السلطة عن الصفقة المشبوهة تحت ضغط الشارع الفلسطيني، نفذ مسؤولون حكوميون وقادة في الأجهزة الأمنية الفلسطينية تهديداتهم بالفعل وقتلوا بنات تعذيبا كما تروي عائلته، فقد داهمت قوات الأمن الفلسطينية منزلا اختبأ فيه الرجل فجر 24 يونيو/حزيران الحالي، ولم يكتف نحو 25 عنصرا من الأمن الوقائي والمخابرات العامة برشه برذاذ الفلفل في فمه وأنفه لشل حركته، بل ضربوه ضربا مبرحا بالهراوات الحديدية والخشبية، ثم سحله وتجريده من ملابسه، واقتياده في عربة عسكرية أمام عائلته. ووفق الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، “أظهر تشريح الجثة إصابات تمثلت في كدمات وآثار أدوات جلخ في العديد من مناطق الجسم، بما في ذلك الرأس والرقبة والكتفان والصدر والظهر والأطراف العلوية والسفلية، مع وجود علامات على الرسغين وكسور في الأضلاع”.

على وحشيته، لا يعد ما حدث مع بنات مجرد جملة اعتراضية في التاريخ القمعي للسلطة الفلسطينية. فبموجب اتفاق أوسلو الموقع عام 1993، والمعروف رسميا باسم “إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي” بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، أُنشئت قوات الأمن الفلسطينية لمهمة دعم مشروع قيام الدولة، لكن عند أول اختبار لهذه القوات عام 2002 إبان اندلاع الانتفاضة الثانية، لم تصمد قوات الأمن المسلحة تسليحا خفيفا أمام جنود الاحتلال الإسرائيلي الذين سرعان ما دمروا مراكزها ومقراتها وآلياتها. وبعد عام واحد، استطاعت إسرائيل بموجب مبادرة سلام الشرق الأوسط التي اقترحتها اللجنة الرباعية، والمعروفة باسم “خارطة الطريق”، بتحويل السلطة إلى كيان مسلح يحفظ أمنها في المقام الأول، في إطار ما أُطلق عليه مشروع إصلاح قطاع الأمن بقيادة الفريق “كيث دايتون” الذي وضع قوات الأمن الفلسطينية رهن مطالب المانحين والإسرائيليين.

مع وصول محمود عباس إلى سدة الحكم عام 2005، سلَّم الرئيس الفلسطيني أمر بقائه في السلطة إلى التعاون الأمني الوثيق مع إسرائيل الذي بات يُعرَف بـ”التنسيق الأمني”. ومن ثَم، عذبت قوات الأمن الفلسطينية السجناء الفلسطينيين على خلفية آرائهم ونشاطاتهم السياسية، وعلى خلفية ما عدّته إسرائيل نفسها خطرا على أمنها. فقد قمعت تلك القوات -بدون استثناء- عناصر من حماس والجهاد الإسلامي وفتح بعد أن حصلت على أسمائهم من إسرائيل، وخنقت أصوات المعارضة والمتظاهرين السلميين الذين احتجوا على أخطاء السلطة في إدارة الضفة الغربية بصورة يومية. وكما جاء في تقرير منظمة حقوق الإنسان الدولية “هيومان رايتس ووتش”، أسكت عباس المعارضة في الضفة بواسطة قوات الأمن التابعة له التي عملت “عن كثب مع إسرائيل لإبقاء حماس تحت السيطرة”، كما مارس عباس سطوته على وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية بمرسوم يسمح لحكومته بسجن أي شخص بتهمة الإضرار بـ”الوحدة الوطنية” أو “النسيج الاجتماعي”.

عارض فلسطينيون كثر التنسيق الأمني الفلسطيني مع الاحتلال، ونشأت خلافات سياسية كبرى داخل حركة فتح نفسها، وظهر معارضون فلسطينيون اعتبروا أن الأمن التابع للسلطة بات مجرد جهاز مخصص للقمع على الأرض وفي الفضاء الإلكتروني أيضا كما أبرزت الأحداث الأخيرة. فنزار بنات الذي عقَّب على عودة التنسيق آخر مرة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي قائلا بأن: “التنسيق الأمني يعني تبادل المعلومات، ولا يمكن إيقاف ذلك ما لم يتم حل جميع الأجهزة الأمنية الفلسطينية”، اعتقل إثر التعبير عن رأيه بعد مداهمة منزله، واتُّهم بالتشهير بالسلطة بموجب قانون الجرائم الإلكترونية المثير للجدل.

لكن عودة التنسيق الأمني آنفة الذكر جاءت بوصفها “قربان محبة” بادر بتقديمه محمود عباس إلى إسرائيل على أمل أن يؤثر انتخاب جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة على العلاقات مع السلطة الفلسطينية التي وصلت لأدنى مستوياتها في عهد الرئيس دونالد ترامب. وفي السياق نفسه، أعلن عباس نيته إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية عطلها الانقسام الداخلي مدة 15 عاما، ولكن في أوج الاستعداد لهذه الانتخابات، اتخذ عباس قرارا متوقعا بإلغاء إجراء الانتخابات منتصف أبريل/نيسان الماضي تحت ذريعة عدم سماح إسرائيل بإجراء الانتخابات في القدس المحتلة، أما السبب الحقيقي فيعلمه الجميع، وهو خوفه من أن تتعرض حركة فتح التي يقودها إلى انتكاسة لصالح حماس بسبب شعبيتها المتزايدة وانقسامات فتح غير المسبوقة.

رغم أن إلغاء الانتخابات لم يقابل باحتجاجات تناسب حجم امتعاض الشارع الفلسطيني الشديد تجاه القرار، فإنه عزز شعور الفلسطينيين بأن السلطة وصلت إلى نهاية نفق مسدود، وأن مقر الرئاسة الفلسطينية المعروف باسم “المقاطعة” في رام الله فقد مصداقيته بسبب عدم قدرته على فعل أي شيء لخدمة مصالح الفلسطينيين أو كبح جماح الممارسات الاحتلالية. وقد أتت بعد ذلك الضربة الأقوى التي عرَّضت السلطة الفلسطينية لمزيد من التهميش والسخرية، وهي الهجوم العسكري الذي شنته إسرائيل على غزة، وأدى إلى خسارة سياسية جديدة للسلطة الفلسطينية في رام الله، في الوقت الذي ارتفعت فيه أسهم حماس.

كانت تحركات السلطة الفلسطينية ووعودها بتحقيق شفاف في مقتل نزار بنات غير مرضية بالنسبة إلى الشارع الفلسطيني. وكما قالت وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية (وفا)، وجه رئيس الوزراء محمد إشتية: “بتشكيل لجنة تحقيق فورية ومحايدة، بخصوص وفاة المواطن نزار بنات بعد اعتقاله من قبل قوى الأمن، تنفيذا لقرار النيابة العامة”. ويقول “ماجد العاروري”، الباحث في حقوق الإنسان والشأن القضائي، إن جريمة واضحة المعالم مثل مقتل نزار بنات تكون النيابة هي المختص في عملية التحقيق بها، ونظرا لأنها لم تقم بدورها حتى الآن، ولم توجه أي سؤال لمن ارتكب الجرم، فقد انفجرت حالة من الغضب الشعبي تجاه ما عُدَّ محاولة للتغطية على الجريمة. ويوضح العاروري في حديثه لـ”ميدان” أن حالة احتقان الشارع الفلسطيني الآن مرتبطة بتأجيل الانتخابات الذي جرى بصورة مستفزة لم تقنع الجمهور الفلسطيني على الإطلاق.

“الخروج من هذه الأزمة يحتاج العودة إلى مربع الانتخابات باعتبارها الخيار الوحيد، يجب أن تكون هناك فرصة لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية متزامنة، ومن ثم تشكيل حكومة جديدة، لأن هذه الحكومة أثبتت فشلها في التعامل مع القضايا الخطيرة التي تهم المواطنين”، هكذا يتحدث العاروري، الذي يؤكد أن هناك من يعتقد بأن الحل الأمني هو الطريق الأمثل، وهذه مسألة خطيرة وتزيد من تفاقم الأمور ومستوى انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية: “العنف لا يولد إلا العنف، ويُفقد مشروعية أي إجراءات غير مبنية على أسس قانونية، وهو ما يزيد من حالة الاحتقان المتفاقمة أصلا في الشارع الفلسطيني”.

في السياق ذاته، يقول عصمت منصور، المحلل السياسي المقيم في رام الله، إن ما يحصل الآن هو نتيجة طبيعية بعد تأجيل الانتخابات ثم محاولات إسكات المعارضة مثلما جرى مع نزار بنات. ويشير منصور إلى أن الفلسطينيين بصدد مرحلة جديدة باتوا فيها “أكثر جرأة في مواجهة إجراءات السلطة والإشارة بإصبع الاتهام مباشرة إلى رأس النظام الفلسطيني”، ويشدد منصور أثناء حديثه لميدان أنه “حتى لو هدأت الهبّة المنددة بمقتل بنات، ستبقى مرحلة ما قبل قتل نزار مغايرة لما بعدها، خاصة أن العالم بدأ يلتفت إلى حقيقة أن السلطة الفلسطينية فاقدة بالفعل لأي غطاء شعبي وأنها تمارس استبدادية كبيرة”.

يتوقع منصور، وهو أسير محرر من سجون الاحتلال الإسرائيلي، أن يتواصل الاحتجاج الشعبي على مستويات مختلفة، لاعتقاده أن الفلسطينيين وصلوا لقناعة راسخة بأن السلطة لم تعد قابلة للاستمرار، بل وأن استمرارها خسارة على مستوى الوحدة الوطنية والحريات وغيرها، مؤكدا: “المخرج هو حكومة جديدة مقبولة تعدّ لإجراء انتخابات من أجل الانتقال إلى سياسة جديدة تُعبّر عن تطلعات الشارع”. ويضيف: “ارتفاع سجل انتهاكات حقوق الإنسان والتداعيات السياسية له، يضعان السلطة الفلسطينية في حرج كبير أمام المانحين والمجتمع الدولي”.

في الوقت نفسه، فإن القوى الدولية والإقليمية التي طالما اعتبرت السلطة شريكا رئيسيا لإعادة إعمار غزة وإحياء عملية السلام، بدأت ثقتها في رام الله تتآكل تدريجيا، وصاحب ذلك إدراك يزداد رسوخا بأن القضية الفلسطينية الآن تجاوزت مرحلة أوسلو. لم يعد مصير السلطة اليوم مرهونا بتنسيقها الأمني والدعم الدولي الممنوح لها فحسب، بل بات في يد الشارع الفلسطيني الآن أكثر من أي وقت مضى، الذي لا يمكن فصله بحال عن محيطه العربي وما جرى فيه من تحوُّلات. لربما أبقت القضية الفلسطينية والعداء مع إسرائيل الانتفاض في وجه السلطة الفلسطينية نفسها خيارا مؤجلا، بيد أن الأمور تتغير الآن مع عودة القضية إلى الواجهة عربيا ودوليا في أعقاب حرب غزة الأخيرة، بالتزامن مع قمع غير مسبوق من السلطة، وجيل جديد من الشباب والنشطاء الفلسطينيين -مثلهم مثل أقرانهم في العالم العربي- لا يمانعون في خوض أكثر من معركة على التوازي، ضد إسرائيل وضد طغيان السلطات في الوقت نفسه.

المصدر : الجزيرة

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".