الحكاء : عن سجينات رفضن الحرية..

أسعد طه

كاتب صحفي وصانع أفلام وثائقية –
لم يصدق مدير السجن نفسه عندما سمع رد السجينات، وهن يرفضن الإفراج عنهن، 23 واحدة منهن اجتمعن على هذا الرأي، أبلغنه إياه بكل ثبات ووضوح؛ بل وصياح

معتقل الشارون أقامه المحتل الصهيوني على مساحة كبيرة من أراضي الطيرة الجميلة، التي يعبق هواؤها بشذا البرتقال، وتنبئك رطوبته بمدى قربه من ساحل المتوسط، يتألف من أقسام كثيرة، قسمان منهما خصصا لنا نحن الأسيرات الفلسطينيات، أحدهما للصغار دون سن 18.

كل قسم يتألف من 18 زنزانة تتوزع على طابقين، تتوسطه ساحة محاطة من كل جوانبها ومن سمائها بسياج كثيف، تخرج إليها المعتقلات بين ساعتين و3 ساعات يوميا، أما الزنازين فمنها 4 تسع 3 أسرة، كل سرير من طابقين؛ أي تسع 6 أسيرات، اقتطع من مساحة الزنزانة ما يكفي بالكاد لحمام -إضافة إلى مغسلة- على بابه ستارة بلاستيكية تحاول ستر المشهد، وتسمح لروائحه باحتلال فضاء الزنزانة مع كل استعمال له.

باقي الزنازين تتألف من سرير من طابقين، وقد صممت الزنازين بطريقة تكثر فيها الزوايا، ربما لأكثر من 8 زوايا في الزنزانة الواحدة؛ لتؤدي مهمتها في إثارة التوتر الدائم في سلوكنا، ذاك الذي حاولنا قهره بكثرة النظر في الكتاب مصدر غذائنا الدائم وصديقنا، الذي لا يفارقنا.

بعد معاهدة أوسلو عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال الصهيوني، وبغض النظر عن مدى الرضا عنها، سادت حالة من الانتظار للانفكاك من قيود الأسر، مما خلق حالة من البلبلة في الأنظمة والقوانين، التي شكلها مجموع الأسرى؛ لتسيير حياتهم اليومية، بعد أن تحللنا من الجلسات الثقافية والسياسية والدينية والتنظيمية، التي كانت تشغل مساحة واسعة من نهارنا، كما تحللنا من القيود الوهمية التي فرضتها الفصائل على عناصرها، فقد كان كل فصيل يخشى على عناصره من تأثير الفصائل الأخرى.

كانت الفصائل تنظم شؤون السجن من خلال لجان تنظيمية تضم مندوبا عن كل فصيل، أبرزها اللجنة الوطنية والإسلامية، ولم تكن القرارات تصدر بسهولة؛ لتمترس كل فصيل في تمرير رأيه، ولو على حساب المصلحة العامة أحيانا.

تنادي السجانة على “زهرة قرعوش” ممثلة الأسيرات لدى الإدارة، تخبرها أن مدير السجن سيجتمع بنا في الساحة، تفتح الأبواب، يغلق علينا باب الساحة، يصل فرعون وجنوده، يحمل في يديه قائمة يحاول أن يتباطأ في تلاوتها؛ ليرى ردود أفعالنا.

تلت أوسلو بعد عام معاهدة القاهرة، ولم يكن للأسيرات نصيب منها، وفي العام الذي تلاه قررنا نحن الأسيرات الإضراب عن الطعام إضرابا سياسيا موجها بالدرجة الأولى إلى المفاوض الفلسطيني، الذي لم يول قضية الأسرى اهتماما بدرجة كافية لتحريرنا.

في نفس العام يوقع اتفاق طابا، وتتناقل وسائل الإعلام خبر إقرار الكنيست الصهيوني الإفراج عن 23 أسيرة من أصل 28، وكنت أنا واحدة من هؤلاء الـ5 المستثنيات.

نغص الاستثناء فرحة الأسيرات، وبتنا نحن الـ5 المحرومات من قرار الإفراج نتناقش حول ما سيصبح عليه وضعنا بعد خروج رفيقاتنا؛ لكننا فوجئنا بهن يتناقشن حول مقترح رفض الإفراج تحت شعار “إما الجميع وإما لا”، لقد اجتمعن ودوّن إشراكنا نحن المستثنيات في قرار الإفراج، واتخذن قرارا موحدا برفض الخروج بدوننا، نعم قررن رفض الحرية والانعتاق ما لم يفرج عن الجميع.

يحل يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول عام 1995، تنادي السجانة على “زهرة قرعوش” ممثلة الأسيرات لدى الإدارة، تخبرها أن مدير السجن سيجتمع بنا في الساحة، تفتح الأبواب، يغلق علينا باب الساحة، يصل فرعون وجنوده، يحمل في يديه قائمة يحاول أن يتباطأ في تلاوتها؛ ليرى ردود أفعالنا.

لا يجد ضالته في وجوهنا غير المتلهفة لما سيتحدث به، يتلو أسماء المفرج عنهن الأسيرات 23، يصيح الجميع والبقية؟، يقول سيبقين في الأسر. نجيبه إذن سنبقى جميعا. لا يصدق أننا جادات في قرارنا.

يقول متلعثما “كيف؟ ولماذا ترفضن الخروج؟ اليوم أنتن، وغدا هن”، “جوابنا واضح نبقى معا أو نخرج معا”، “أنت ما بدك تروحي لأولادك، حرام عليك، والأهل هل سيرضون بقراركم؟”، “نحن هنا من نقرر”، “سنخرجكن بالقوة، هذا قرار حكومة ويجب أن ننفذه”، “ونحن أيضا قرارنا واضح”.

يخرج من الساحة وعيونه لا تفارق من فيها، يتعالى صوت “رنا أبو كشك” صاحبة الصوت الجبلي بأغنية الفلسطيني وليد عبد السلام “نحنا القرار بنصنعه ما حد يمنعنا، احنا الوفا لاجل الشعب هو اللي بيدفعنا”، وخلفها تردد الأسيرات الأنشودة.

في اليوم التالي نخرج للساحة، تجتمع اللجنة الوطنية والإسلامية، تتباحث بشأن تهديد مدير السجن بإخراج الأسيرات بالقوة، تتوصل اللجنة إلى قرار بالاعتصام في الغرفة رقم واحد بالطابق العلوي، والغرفة رقم 18 في الطابق السفلي، كونهما الأوسع.

نقسم أنفسنا على الغرفتين، بحسب الخطة تقوم ممثلتنا “زهرة قرعوش” بإلهاء السجانة، التي تراقبنا من وراء الزجاج، في ذات الوقت ننقل فرشنا واحتياجاتنا الضرورية، وما نملك من طعام إلى الغرفتين المقرر الاعتصام بهما.

اعلان

كيف لمساحة تكاد تضيق على 6 أسيرات تختلف طباعهن رغم انتمائهن لنفس الفصيل أن تتسع 15 أسيرة من فصائل مختلفة، تهيج الأعصاب وتتوتر النفوس، وكأن كل واحدة منا تحدث نفسها “سأصرخ على السجانة؛ لتخرجني من هنا”

تقوم زهرة بدورها على أكمل وجه، تشغل السجانة بمطالب كثيرة؛ لتمنح زميلاتها الوقت الكافي للتحرك وإنجاز المهمة، ينتهي وقت فتح الزنازين، يسارع الجميع بدخول الغرفتين، نصيبي كان الزنزانة رقم واحد، نغلق باب الزنزانة من الداخل بما هو متاح من أسرة وخزائن ونجلس خلفها في زهو، حتى في السجن نواصل المعركة.

يرغي ويزبد مدير السجن، يأمر الضباط بقطع الماء والكهرباء وتغطية النوافذ حتى نغرق في ظلام دامس؛ لإرغامنا على فتح الأبواب، نقاطع عملية عدِّنا اليومي، التي تقوم بها سلطات المعتقل؛ للتأكد من عدم هروب إحدانا، ندخل في مفاوضات مع إدارة المعتقل، نتوصل إلى إعادة الكهرباء والماء مقابل أن نتعاون في عملية العد، وأن تقف كل أسيرة ينادى عليها على السرير ليراها الضابط.

تمضي الليلة الأولى بسلام؛ لكن تواجهنا مشكلة جديدة، فكيف لمساحة تكاد تضيق على 6 أسيرات تختلف طباعهن رغم انتمائهن لنفس الفصيل أن تتسع 15 أسيرة من فصائل مختلفة، تهيج الأعصاب وتتوتر النفوس، وكأن كل واحدة منا تحدث نفسها “سأصرخ على السجانة؛ لتخرجني من هنا”.

أجلس أنا ولمياء ورولا مسؤولات الفصائل، نتفق على توزيع المهام، نشكل عدة فرق لمراقبة تحركات الإدارة، وذلك على مدار 24 ساعة، في كل مناوبة تعتلي أختان المكان لمراقبة غرفة الإدارة، فيما الأخريات يتسامرن، وبعضهن ينمن مدة زمنية لا تتعدى 4 ساعات؛ ليخلين المكان لأخريات.. وهكذا حتى تأخذ جميع الأسيرات قسطا من الراحة.

تبتعد حواراتنا عن المواضيع الحزبية؛ لمنع حالة الاستفزاز، وتحويلها إلى حوارات اجتماعية ثقافية تهم الجميع، يوزع ما جمع من مواد غذائية بطريقة تضمن الاستفادة منها أطول فترة ممكنة، وتحول دون استعمال الحمام بكثرة.

تجمع حلقات السمر بيننا، نتحدث عما نحب وما نكره في حياتنا العادية خارج السجن، نتكلم عن الدراسة والأحلام والأبناء، تقرب الأحاديث بين قلوبنا، والسرير الواحد أصبح يتسع 4 أو 5 أخوات دون الشعور بالكدر، تتسع القلوب فيتسع المكان.

نرفض استلام الوجبات من الإدارة؛ لأن هذا يستدعي فتح الباب، نكتفي بما لدينا، يؤثر بعضنا الصيام، نتواصل مع الزنزانة الأخرى عبر النافذة لنتبادل الخطط والبرامج خلال اليوم.

كانت إحدى الفقرات الجميلة التي تبادلناها فقرة الرسائل، تصرخ رولا “البريد وصل.. البريد وصل”، عبر فتحات الشباك تدلي إحدى الأخوات خيطها البريدي لإيصال الرسائل التي كتبناها للأخوات في الغرفة الأخرى، فيما يصل بريدهم إلينا، رسائل تشحن العواطف، وتحمل نكتة أو لمحة مما يحصل عندهن، كل يوم له نكهته الخاصة ومذاقه المتفرد.

يحل اليوم الثالث للاعتصام، وبعد العد الصباحي تنبِّه الفرقة المناوبة على تحركات غريبة، تمتلئ ساحة السجن بالضباط والسجانين والسجانات، وهم يحملون حمالات المرضى وأنابيب الغاز التي يستخدمونها حين يقمعون الأقسام.

يهددون باقتحام الزنازين إن لم نفض اعتصامنا، نرفض جميعا الانصياع، نستحضر الشهادة، تقوم فتيات الزنزانة 18 بدهن أنفسهن بزبدة المرجرين، ويهددن بأنهن سيحرقن أنفسهن في حال الاقتحام.

أطلب من رفيقاتي أن يرددن ورائي آيات الحرب، أتلوها آية آية، ندعو الله دعاء المفتقرين إليه عز وجل، نرى اتصالات وأصواتا غاضبة، ثم فجأة يبدأ السجانون في إخلاء المكان، لم نعرف حيثيات ما حصل؛ لكن علمنا أن عناية الله كانت تحرسنا، ويمر اليوم على خير.

في اليوم 20 من الاعتصام يتحدث مدير السجن مع ممثلتنا، ويبدي موافقته على طلباتنا بعدم استخدام القوة، نقرر فض الاعتصام، نفتح الأبواب، يعلو غناؤنا “منتصب القامة أمشي.. مرفوع الهامة أمشي”.

تتسارع الأحداث في الخارج، تتسع رقعة التضامن معنا، تتشكل لجنة من الأمهات ترأستها أم عبير الوحيدي، يزداد الضغط على “أبو عمار”، يطالبونه بالتدخل للإفراج عن جميع الأسيرات، يزورنا وفد من قبل السلطة حاملين رسالة منه تطالبنا بإنهاء الاعتصام، وأن تخرج من جاء اسمها، ويتعهد بالعمل للإفراج عن الباقيات، لا تلقى الرسالة آذانا مصغية، نكتفي بالمطالبة بعدم استعمال القوة لإخراج المتضامنات من زنازينهن.
في اليوم 20 من الاعتصام يتحدث مدير السجن مع ممثلتنا، ويبدي موافقته على طلباتنا بعدم استخدام القوة، نقرر فض الاعتصام، نفتح الأبواب، يعلو غناؤنا “منتصب القامة أمشي.. مرفوع الهامة أمشي”.

نعود إلى زنازيننا نحمل حبا كبيرا لبعضنا البعض، نحمل امتنانا لأخواتنا اللائي رفضن الحرية تضامنا معنا؛ ليسجلن صفحة ذهبية من صفحات العز والفخر.

يحل موعد الزيارة، تأمل الإدارة أن يضغط الأهل على بناتهن للقبول بالإفراج عمن تقرر الإفراج عنهن؛ لكن لم يكن الأهل أقل عزا وعطاء ، بل شدوا على أيادينا وقووا من عزمنا.

نعود إلى تنظيم برامج ثقافية جماعية بعيدا عن الفئوية، يستمر الوضع هكذا، يحل عام 1979، وفي الشهر الثاني منه، وتحديدا يوم 12، وفي تمام الساعة 7 مساء تفتح أبواب الزنازين عن آخرها، نُبلغ بإعداد حقائبنا، يصحبوننا إلى الحافلة، نكتشف أن أسيرتين منا غير 28 لم يطلق سراحهما، وكانت الاثنتين قد أسرتا بعد قرار الإفراج عنا.

نمتحن مرة أخرى في صبرنا وصمودنا، يبلغوننا أن هناك محاكمة جديدة تجري لهما، نقرر الانتظار، نخرج من الحافلة ونعود للسجن، نعم نعود للسجن، وعند الساعة 11 مساء يتقرر الإفراج عنهما، ونسجل هدفا آخر في لحظة الصفر، نصل إلى رام الله عند الفجر، تتعالى الزغاريد، تتلاشى تماما الأصوات المحبطة التي كانت تسفه صمودنا، وتتعالى أصوات العزة والافتخار.

لا أعرف ما ستحمله الأيام لي ولعائلتي؛ لكن أعرف على وجه اليقين أنني لا أصالح.

هذه شهادتي عما وقع، أنا عطاف داود حسين عليان، من مواليد عام 1962، من قرية خلدة قضاء مدينة الرملة، حاصلة على بكالوريوس علم اجتماع وعلم نفس، متزوجة من الأديب والأسير المحرر “وليد الهودلي”، ولي ابنة اسمها عائشة الأوابة.

أنتمي إلى سرايا الجهاد الإسلامي، تدربت في بداية الثمانينيات بمعسكرات “فتح” في بيرو، حيث كنت سأنفذ أول عملية استشهادية في فلسطين، وكان التخطيط أن أدخل بسيارة مفخخة إلى مقر رئاسة الوزراء في القدس.

حكم عليَّ بـ15 عاما من السجن، قضيت منها 10 سنوات، وأفرج عني بحسب ما قصصت لكم عام 1997؛ لكن اعتقلت مرة ثانية إداريا في نفس العام، وخضت إضرابا عن الطعام، وسجل في حينه أنه أطول إضراب، تم على إثره الإفراج عني، اعتقلت مرة ثالثة عام 2002 مدة 9 أشهر دون تهمة محددة، ثم اعتقلت مرة رابعة 3 سنوات بين عامي 2005 و2008.

لا أعرف ما ستحمله الأيام لي ولعائلتي؛ لكن أعرف على وجه اليقين أنني لا أصالح

شاهد أيضاً

عبد المجيد الزنداني.. حياة حافلة بالعلم والعمل والجهاد

ودع اليمنيون والأمة العربية والإسلامية يوم الإثنين 13 من شوال 1445 للهجرة، الموافق 22 أبريل 2024م علما من أعلام هذه الأمة، وكوكبا من كواكبها، وهاديا من هداتها، ورائدا من روادها، هو الشيخ عبد المجيد بن عزيز الزنداني، العالم العامل، والمجاهد والمربي، والقدوة المعلم، القرآني المحمدي الرباني، صاحب العطاءات الدعوية، والإمدادات التربوية، والجهود التعليمية، والأطوار الجهادية،