التَّقوى مَدارج وآفاق وفرقان للحقِّ مبين.!

كتب بواسطة فضيلة الشيخ الدكتور عبد المجيد البيانوني

يقول الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا، وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ, وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} [الأنفال:29].

إنَّ من حقائق هذا الدِّين البيِّنات أنَّ القلوب لا تنهض بالأعبَاء الثِّقال, أعباء الدعوة إلى الله تعالى, وإقامة المنهج والعمل بمقتضَاه, إلاّ وهي على بيِّنة من أمرِها, ووضوح في أهدافِها وغايتها, ولا بدَّ لها لتحقيق ذلك من التَّقوى, التي هي هدىً وبيان, ونور وفرقان, تفرِّق به بين الحقّ والباطل, والهدى والضلال, والخير والشرِّ.

إنَّها تجعل في قلب المؤمن نوراً يكشفُ الشُّبهات, ويزيلُ الوساوس والأوهام, ويثبِّت الأقدام على الطريق الشائِك الطويل.. بل إنَّها لتجعل من قلب المُؤمن الحقّ, ذي البصيرة الصادقة, تجعل منه مرجعاً له عند التباس الأمور, واضطراب المَوازين والتباس المَفاهيم, ألم يقل النبيّ r لمَن سأله عن البرِّ والإثم: ( استَفتِ قَلبَكَ, وإن أفتاك الناس على وأفتوك).

يقولُ الإمام الغزالي رحمه الله توضيحاً لهذا الحديث: (لا يُعَوَّل على كلّ قلبٍ, فرُبَّ مُوَسوَسٍ ينفِرُ عن كل شيء, ورُبَّ شَرِهٍ مُتساهلٍ يطمئنُّ إلى كل شيء, ولا اعتبارَ بهذيْن القَلبَينِ، وإنَّما الاعتبار بقلبِ العالِم الموفَّق المُراقِب لدقائق الأحوال, وهو المَحَكُّ الذي يُمتحَن به خفايا الأمور, وما أعَزَّ هذا القلبَ في القلوب! فمن لم يَثِق بقلبِ نفسِه, فليلتمِسْ النُّور من قلبِ له هذه الصفة, ولْيعرِض عليه واقعتَه).

وقد كان من دَعواته الجامعة صلّى الله عليه وسلّم: ( اللَّهم اجعل في قلبي نوراً).

وإنَّها لحقيقة واقعة, أنَّ تقوى الله تعالى, تجعل في قلبِ المُؤمن فرقاناً, يكشفُ له معالم الطريق, ومنعرجَاته والتواءاته.. ولكنَّ هذه الحقيقة لا يعرفها إلاَّ من ذاقها, وإنَّ الوصف لا ينقل مذاقَ هذه الحقيقة لمَن لم يعرفْها بقلبه ووجدانه, ويخلص في التعامل معها, وتغمر مخافة الله وتقواه فؤاده, وعندئذٍ يستنيرُ العقل, ويتَّضح الحقّ, ويطمئنّ القلب, ويستريح الضمير, وتستقرّ القدم, وتثبُت على الطريق..

فالحقّ في ذاته لا يخفى على الفطرة, ولكنَّ الهوى هو الذي يحول بين الحقِّ وبين الفطرة.. والهوى لا تدفعه الحجَّة الساطعة, بمقدار ما تدفَعه التَّقوى الرادعة, والفكرة المَانعة.. تدفعه مخافة الله تعالى ومراقبته في السرِّ والعلن, التي تشرق بها البصيرة, وتستنير السريرة, ويقف الإنسان فيها عند حدِّه, فلا يشتطّ ولا يميل, ولا يتقاصر ولا يذلّ..

هذا وإنَّ للتقوى مراتب, فلا يستوي المُتَّقون عند الله في منازل الجنان, ومراتب القرب, وقد دأب الصالحون في هذه الأمَّة, على التنافس فيها, والحرص على بلوغها:

ـ فأوَّلها: اتِّقاء الخلود في النار, باعتقاد كلمة التَّوحيد بالقلب, والإقرار بها باللِّسان, وقد سمَّاها الحقُّ سبحانه كلمة التَّقوى, فقال جلَّ وعلا: {.. وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقوى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا..} [الفتح:71].. وهي تقِي صاحبها في الدُّنيا, ولو لم يقلْها صادقاً بها, فتحفظ دمه وماله, ويعامل معاملة المُسلمين بظاهر إسلامه, وإن قالها صادقاً بها, فهي تقِيه من الخلود في نار جهنَّم.

وسمِّيَت كلمة التَّقوى لأنّهَا سبب لمَا بعدها من مراتب التَّقوى وأساسها, وعليها تُبنى مراتب التَّقوى كلّها. وهي الكلمة الطيِّبة التي ضرب الله تعالى لها مثلاً: {.. كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا..} [إبراهيم:25].

ـ وثانيها: اتِّقاء غضب الجبَّار, بفعل الفرائض, واجتناب المُحرَّمات, وأهمّ ما في هذه المَرتبة أداء حقوق الناس, وكفّ الأذى عنهم, وحفظ حرماتهم.

ـ وثالثها: اتِّقاء التَّقوى المَعلُولة, وهي التَّقوى التي لا تكون خالصة لله تعالى, وإنَّما يدفع إليها الحرص على المَنافع القريبة, والمَغانم العاجلة, من تيسير الأمور, وتفريج الكروب, والرِّزق من حيث لا يحتسب.

ـ ورابعها: اتّقاء المُشتبهات بالورع, وترك الشبهات, وهي تقترب من الحرام, وتقود إليه, ويلزم عن ذلك الحرص على الطاعات, والمُسابقة في الخيرات.

والورع منهج شامل, وليس مواقف انتقائيَّة, يأخذُ منها الإنسان ما يتَّفق مع هواه, ويتغافل عمَّا عداه, إنَّه يشمل الورع في المَأكل والمَشرب, وأنواع الكسب, والورع في الفتوى للناس, والورع في التحليل والتحريم, فلا يقطع فيما لا قطع فيه, فيشدِّد على الناس, ويوقعهم في الحرج والعنَت.. وكذلك الورع في الظنِّ بالمُسلمين, فيكون سليم الصدر عليهم, ولا يظنّ بهم إلاَّ خيراً.. وكذلك الورع في الخلوة عن الناس, وفيما لا يطّلع عليه إلاَّ ربُّك سبحانه, والورع في المَنطق, الذي يستشعر قول الله جلاَّ جلاله: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18], وشدَّة قربِه منه وقد قال عنه بعض السلف: « الوَرعُ في المَنطق أشدّ منه في الذهب والفضّة»..

ـ وخامسها: اتّقاء ما لا بأس به حذراً ممَّا به بأس, بترك بعض المُباحات خشيَة الوقوع في بعض المَكروهات, وفي الحديث الشريف: ( لا يبلغ العبد أن يكون من المُتّقين حتّى يدَع ما لا بأس به حذراً ممّا به بأس).

وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: « إنِّي لأحبّ أنْ أدَع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها». .

ومن كلام الحسن البصريّ رحمه الله: « ما زالت التَّقوى بالمُتّقين حتَّى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام»..

وممَّا يدخل في هذه المرتبة: قطع العوائق, التي تحول بين المُؤمن وبين الاستعداد للآخرة, والتقلّل من العلائق, التي تشغل عنها, والزهد في الدنيا, والإقبال على الآخرة, والحرص على التحقُّق بحقائق الإيمان واليقين, التي محلّها القلب, وتجمعها صفة التزكية والإحسان؛ كالحبّ والشوق, والأنس والرضا والخوف والرجاء, والخشية لله تعالى, والرقَّة والبكاء, واليقين والتوكُّل, والصَّبر والشكر.

وقد روِي عن ابن مسعود رضيَ الله عنه أنَّه قال لجمعٍ من خيار التابعين, الذين كانوا يلازمون حلقتَه, ويسمعون مواعظه ودروسه, وكان يعلم كثيراً من عبادتهم لله واجتهادهم في طاعته: « أنتم أكثر صياماً, وأكثر صلاة, وأكثر اجتهاداً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم, وهم كانوا خيراً منكم.؟ قالوا: لم يا أبا عبد الرحمن.؟ قال: هم كانوا أزهد في الدنيا, وأرغب في الآخرة».

ـ وسادسها: اتّقاء الغفلة عن الله تعالى, بتنزيه القلب عما سوى الحقّ سبحانه, وعدم رؤية أعماله وحسناته, فلا يراها إلاّ من الله سبحانه, ورؤية التفريط في حقِّ الله عزَّ وجلّ, وعبوديَّته لله تعالى, والتقصير عن أداء حقّ التَّقوى, فيلهَج اللسان دائماً بالتوبة والاستغفار, ويقول بصدق: « سُبحانَكَ ما عَبدناكَ حَقّ عِبادتكَ», ويستحضر حال المُصطفى صلّى الله عليه وسلّم, عندما قام من الليل حتّى تورَّمت قدمَاه, فعندما قيل له: أتفعل ذلك.؟! وقد غُفر لك ما تقدَّم من ذنبك.؟! فقال صلّى الله عليه وسلّم: ( أفلا أكون عبداً شكوراً).

وختاماً ؛ فإنّ التَّقوى قرينة الحقّ والنور والهدى, والبُعد عنها قرِين الباطل والظُّلمات والضَّلال: {.. فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس:32]..

والدخول إلى ساحة التَّقوى هو الدخول إلى رحاب الودِّ والحبِّ, والاجتباء والقرب, والأمن والطمأنينة: { يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ اليَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68]..

إنَّها جنَّة الدنيا قبل الوصول إلى دار الكرامة والرضوان في الآخرة.

وهي ليست بدعوى, وإنَّما لها موازينها البيِّنة, ومعاييرها الدقيقة؛ فمن موازين تحقّق العبد بتقوى الخواصّ من عباد الله:

ـ أن يشتاقَ المُؤمن إلى الآخرة, ويتجافى عن الحياة الدنيا, لأنَّ الله تبارك وتعالى يقول: {.. وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)} [الأنعام].

ويقول سبحانه: { فمن كان يرجو لقاء ربِّه, فليعمل عملاً صالحاً, ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً} [ الكهف:110].

ـ وأن يهون على قلب المُؤمن الإعراض الدنيا, والزهد في متاعها, لأنَّه يوقن بالآخرة, وما فيها من التكريم والنعيم, ويتطلّع إليها: {وللآخرة خير لك من الأولى, ولسَوفَ يُعطِيكَ رَبُّكَ فَتَرضَى} [ الضحى:3و4].

ـ أن يكون المُؤمن حسن التوكّل على الله تعالى فيما لم ينل, وحسن الرضا عن الله بما قد نال, وحسن الصبر على ما قد فات, فلا يَضنُّ بموجود, ولا يأسف على مفقود.

وبعد؛ فهذا هو الزاد, وهذه عدَّة الطريق إلى الله تبارك وتعالى.. زاد التَّقوى.. التي تحيي القلوب وتوقظها وتستجيش فيها أجهزة الحذر والحيطة, والخشية والتوقِّي..

وعدَّة الطريق, التي هي النُّور الهادي, الذي يكشف منحنيَات الطريق ودروبه, على مدِّ البصر, فلا تحجبه الشبهات, ولا تأسره الشهوات, التي تمنع الرؤية الكاملة الصحيحة, وتغشِّي القلب بغشاوات الحجب عن الحقِّ الكثيفة..

وزاد التَّقوى.. هو خير زاد, لأنَّه زاد المَغفرة والرحمة, الذي يسكب السكينة في قلب المؤمن والطمأنينة.. وهو زاد الأمل في فضل الله العظيم, يوم تنفد الأزواد, وتقصر الأعمال, وتفجأ الأهوال أهوال الموقف؛ الكافرين المُكذّبين, والمُنافقين المُخادعين: {يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العَذَابُ} [الحديد:13].

يوم تتطلَّع الخلائق إلى رحمة الله وفضله, ورأفتِه بعباده, فلا ينال ذلك إلاّ المُتّقون, الذين يُرفَعون, ويُكرّمُون, ويقال لهم: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} [الزخرف]..

اللَّهُم اجعلْنا منهُم بمنِّك وفضلِك ورحمتِك.

المصدر : الشيخ الدكتور عبد المجيد البيانوني

شاهد أيضاً

نيوزويك: بعد 6 أشهر حماس تسيطر على الوضع في غزة

مقال بمجلة "نيوزويك" الأميركية يقول إنه، وبعد 6 أشهر من الحرب الإسرائيلية على غزة، فقد أصبح واضحا وبشكل متزايد أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هي التي تسيطر وهي التي تملي شروط وقف إطلاق النار.