البويهيون الذين سطوا على الخلافة يسقطون ‏!‌‏!

بقلم : د.عبد الحليم عويس

بينما كانت الدولة العباسية تستجمع قواها وتلتقط أنفاسها بعد تخلصها من حركات الانشقاق في خراسان ومصر أخريات القرن الثالث للهجرة ، بينما هذا ‏.‌‏.‏ كانت الدولة تنتقل بسرعة لتدخل في طور جديد ذي معالم جديدة لم تشهدها من قبل ‏.‌‏.‏ وبدخولها هذا الطور شهدت انفصالا ضخما بين رأسها وجسدها ظل هو السمة العامة المسيطرة عليها لحين زوالها رسميا من محاضر التاريخ سنة 656هـ ‏.‏

إن الأمر لم يكن مجرد حركة انشقاق هذه المرة ، كما أنه لم يكن مجرد الاستئثار بحكم جزء من الدولة ، مع رفع راية الدولة ، كما أنه لم يكن ثورة انفعالية مذهبية أو سياسية ‏.‌‏.‏ لقد كان الأمر أعمق من ذلك بكثير ‏.‌‏.‌‏.‏ لقد كان أسلوبا جديدا في التعامل مع الدولة العباسية الجامعة ‏.‌‏.‏ لقد كان احتواء لها أو بتعبير آخر سيطرة عليها وفرض نوع من الوصاية على خليفتها ‏.‌‏.‏ ولأول مرة في تاريخ الدولة الإسلامية نرى بعض الخلفاء – على نحو واضح وعنيف – لعبة في يد بعض المغامرين ، ونرى بعض الخلفاء يعزلون ويولون دون أن يكون لهم من الأمر شيء ‏.‌‏.‏ يفعل باسمهم كل شيء ويخطب لهم على كل منبر وتعلن باسمهم الحروب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل ‏.‌‏.‏ وليس هذا وحسب ‏.‌‏.‏ بل لأول مرة تصبح الخلافة عبثا يهرب منه الخلفاء ‏.‌‏.‏ وينأى عنه المحترمون لأنفسهم لأن مصير الخليفة غالبا الجر من قدميه أو الجوع الشديد ‏.‌‏.‏

وبدأ العالم الإسلامي يترنح منذ هذا الحدث الضخم الذي انفصل فيه رأس الأمة عن جسدها ‏.‏

وقد حمل كبر هذا الأمر الخطير ، الأتراك من الجند الذين كانوا يمرون آخر القرن الثالث فترة تمزق داخلي ، وانقلاب ضد الخلفاء الذين أتوا بهم ، بادئ الأمر لحمايتهم منذ أن انتشرت هذه السنة السيئة ‏.‏

فلما وصل ‏(‏ أحمد بن بويه ‏)‏ المؤسس الحقيقي للدولة البويهية ‏(‏ 334 – 447 ‏)‏ إلى بغداد، بعد أن كاتب الخليفة المستكفي ، ووافق الأخير على دخوله بغداد فدخلها في يسر ودون مشقة وفتحت له أبواب بغداد ، واستقبله الخليفة ‏(‏ المستكفي ‏)‏ ولقبه معز الدولة ‏.‌‏.‏ وفرح الناس به لينقذهم من الفوضى التي أحدثها الجند الأتراك في جهاز الدولة وبين الشعب ‏.‏

لما تم هذا الدخول وتحولت به الدولة إلى حماية البويهيين الرسمية ، بعد أن كان خضوعها للأتراك مجرد نشاز أو انقلاب في داخل السلطة يعتقد الناس أنه طارئ لا بد أن يزول ‏.‏

لما تم هذا كانت الخلفية التاريخية في ذهن البويهيين واضحة، وكان دخولهم بغداد بمثابة تقلد صريح لقيادة الخلافة ‏.‌‏.‏ وقيادة المسلمين ‏.‌‏.‏ وقد فهم الخلفاء أنفسهم هذا ‏.‌‏.‌‏.‏ فلم يحاولوا منافسة البويهيين في السلطة التنفيذية أو السياسية ‏.‏

بيد أن الأمر لم يقف عند هذه الحدود بالنسبة للبويهيين ، فلقد تمادوا في الأمر، وقد زعموا لأنفسهم نسبا ساسانيا فارسيا، وبما أنهم كانوا يعتنقون المذهب الشيعي الزيدي ‏.‌‏.‏ فقد حاولوا فرض المناخ الشيعي على الناس ، بل إن أحمد بن بويه المذكور حاول تغيير الخلافة العباسية إلى خلافة شيعية لولا نصيحة أصحابه له بأن يتجنب ذلك خشية العواقب ‏.‏

ولم يعد للخليفة في ظلهم حتى حق تعيين كتابه ووزرائه ، وقد منع وارد الخليفة عنه ، ولم يعد يصله إلا مرتب شهري استبدل به مرتب سنوي ‏.‌‏.‏ ثم اقتطع منه بعد ذلك بحجج واهية ، وقد بلغ إذلال بعض الخلفاء مبلغه ==المستكفي عن الخلافة وعزل الخليفة الطائع وعزل غيرهما ، وقد عزل المطيع لله نفسه بعد أن رأى أنه لا قيمة له ‏!‌‏!‏

وقد وقع البويهيون فيما وقع فيه الأتراك ، فقد أحدثوا الفوضى في البلاد وصادروا الأموال ، ودخلوا مع الناس في صراع عنيف من أجل الحصول على الأموال ‏.‏

وخلال أكثر من قرن ظل البويهيون يسيطرون على خلافة العباسيين ، ولم يفعلوا فيها شيئا ذا بال سوى أن يضيفوا إلى صورة الجند الأتراك مزيدا من ملامح الطيش والرعونة ‏.‏

وكما هي العادة في أمثال هذه الأسر المتسلطة ‏.‌‏.‏ أنها سريعة الانقسام على نفسها شديدة التنافس فيما بينها، وهكذا سقطت الأسرة البويهية إلى حضيض الانقسام والتناطح الداخلي‏.‌‏.‏ وعانى المسلمون من وراء تناطحهم وتسلطهم الشيء الكثير ‏.‏

إن سيطرة عنصر من العناصر المتعصبة قوميا أو المتأثرة بخلفية تاريخية لم تتخلص من شوائبها ‏.‌‏.‌‏.‏ هو أبرز ما واجه ركب مسيرتنا الحضارية والتاريخية ‏.‏

وبالقومية المتعصبة وبأصحاب النزعات المشبوهة وذوي الولاء لحضارات معاكسة لنا ولخطنا الحضاري ، بهؤلاء تمت عملية سقوطنا المتكرر في مراحل تاريخنا ‏.‏

لكن تاريخنا ‏.‌‏.‏ الذي تتدخل فيه إرادة الله بحفظ هذا الدين كي يظل المعلم الثابت المضيء في ليل البشرية الطويل المظلم ‏.‌‏.‌‏.‏

هذا التاريخ يجد مع كل نكبة تاريخية ، أو فترة من فترات التداعي والهبوط ، من يعيد إلى الجسم حيويته ويمنع عنه السقوط القاتل ‏.‌‏.‏ وهكذا انبعث – من جديد – من بين الأتراك أنفسهم عنصر إسلامي مجاهد ‏.‌‏.‏ أعاد للخلافة شبابها ، ونجح قائد الأتراك السلاجقة ‏”‏ طغرلبك ‏”‏ سنة 447 هـ في أن يقضي على دولة البويهيين ‏.‏

وبين عشية وضحاها سقط البويهيون الذين أثبت تاريخهم أنهم غير أهل لتحمل أمانات التاريخ ‏.‌‏.‏ وقد تعبت الأمة من جراء سياستهم أشد التعب ‏.‌‏.‏ لأن التاريخ يعلمنا دائما أنه ‏”‏ بانفصال رأس الأمة عن جسدها ‏.‌‏.‏ تتعطل طاقات الحياة فيها ‏

شاهد أيضاً

غزة تنزف….

غزة اليوم هي عضو الأمة الأشدّ نزيفا من بين كثير من الأعضاء التي لا تزال تنزف من جسد المسلمين، ومخايل الخطر تلوح في الأفق على المسجد الأقصى، الذي يخطط المجرمون لهدمه، أو تغيير هويته وتدنيسه، ولا يمنعهم من ذلك إلا الخوف من بقايا الوعي والإيمان في هذه الأمة أن تُسبب لهم ما ليس في الحسبان.