افكار متفرّقة من وحي هزيمة أمريكا على يد “طالبان”

بقلم : ياسر الزعاترة

كثيرة هي الأفكار التي ترد إلى الذهن من وحي الهزيمة الأمريكية المدوّية على يد حركة “طالبان” الأفغانية، والتي تفرض نفسها على الكاتب في ظل الجدل الدائر حول ما جرى ويجري.
 
نبدأ بسؤال الحقيقة التي يحبّ أتباع نظرية المؤامرة تجاهلها، كأنما يستكثرون الانتصار على قوة مقاومة متجذّرة في تراب وطنها، وضمير قطاع عريض من شعبها، بصرف النظر عن حجم الانقسام من حولها.
الحقيقة التي يتجاهلها كثيرون هي أن الحركة كانت تقود دولة قبل الغزو الأمريكي عام 2001. دولة كانت تحظى بوضع شعبي معقول، رغم تأثير الانقسام العرقي عليها، وحيث تبدو أكثر تمثيلا لعرقية “البشتون” التي تزيد نسبتها عن 40 بالمئة من السكان.
سبب استقرار تلك الدولة لم تكن القوة وحدها، بل حقيقة أنها قدمت للأفغاني أهمّ ما يحتاجه في ذلك الحين بعد عقدين من المعاناة والدمار، أعني الأمن والاستقرار. ولو لم تكن الحركة مبدئية ضمن المفهوم الذي تؤمن به، لاكتفت بعوائد تجارة المخدرات كي تثبّت أركانها وتجني الكثير من الأموال، لكنها لم تفعل، مع العلم أن تجارة المخدرات زادت بعد الغزو الأمريكي، خلافا لما وعد به قادة الغزو.
ثم كان أن دفع الملا محمد عمر، قائد الحركة ثمنا باهظا نتيجة موقف مبدئي تمثّل في رفض تسليم أسامة بن لادن للأمريكان من دون أدلة على تورّطه في هجمات سبتمبر.
في غضون أسابيع قليلة كانت تلك الدولة تهوي أمام القوة الجبارة للأمريكان وقوات “الناتو”، حين عجزت عن مواجهة عنصرين مهمّين؛ الأول هو قوة الطيران التي تحرق كل شيء على الأرض، بجانب وجود قوىً أفغانية متحالفة مع الغزاة تزحف على الأرض، والنتيجة أن أمر الملا محمد عمر رجاله بالعودة إلى مناطقهم، والتسليم بالهزيمة، ومن ثم لملمة الصفوف لاحقا، والبدء بمقاومة الاحتلال، وهو ما كان بالفعل.
 
عشرون عاما، لم تتوقف مقاومة الحركة، ولا إصرارها على الانتصار، وهنا يتبدى الفارق بين معارك الجيوش، وبين حروب العصابات
عشرون عاما، لم تتوقف مقاومة الحركة، ولا إصرارها على الانتصار، وهنا يتبدى الفارق بين معارك الجيوش، وبين حروب العصابات، إذ تحتاج الأولى إلى ميزان قوىً معقول؛ لم يتوفر للحركة عام 2001، فيما يختلف الأمر في الثانية، التي تحتاج إلى قوة عقائدية تحظى بحاضنة شعبية، وظهير إقليمي (داعم خارجي)، كان متوفّرا (باكستان هنا)، بجانب بعض الدعم الدولي؛ ولو كان سياسيا، والذي توفّر أيضا، في ظل حاجة الصين وروسيا إلى استنزاف أمريكا.
هكذا توفرت عوامل الانتصار الذي تحقق في نهاية المطاف، عبر عجز أمريكا عن احتمال النزيف المتواصل، ومن ثمّ قرارها بالانسحاب، وصولا إلى تهاوي النظام الذي صنعته، وعجزه عن البقاء إثر رحيلها.
كل ذلك يتجاهله مدمنو نظرية المؤامرة، فأمريكا عند هؤلاء هي “ربُّ الكون”، وهي من تخطط وتنفذ ما تريد. وحتى حين تُهزم، يكون ذلك بإرادتها أيضا من أجل تحقيق هدف أكثر أهمية، وهو هنا توريط الصين وروسيا!!
أصحاب نظرية المؤامرة، يقرّرون النظرية في كل حالة، ثم يشرعون في توفير الأدلة عليها، وهي لعبة تتكرّر في كل مسألة، وعلى كل صعيد.
والحال أن مغامرة بوش في العراق وأفغانستان، هي التي دفعت أمريكا إلى التراجع خطوة إثر خطوة، وصولا إلى حالة التعددية القطبية التي يعيشها المشهد الدولي راهنا، وحيث تغيب القوة المتحكّمة، ما يتيح للقوى المستضعفة أن تستفيد من بعض التناقضات، وفق سنّة “التدافع” التي وضعها الله في الأرض، وجعلها من عناوين فضله على العالمين، كما في الآية الكريمة “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين”.
هل ستكون لأمريكا خطة تالية لما بعد الانسحاب في التعامل مع الملف؟ هذا وضع طبيعي، ولا يتعلق الأمر بأمريكا، بل بأي قوة دولية مشابهة، لكن النجاح شيء آخر، لأن الأطراف الأخرى لن تستسلم؛ ولها خططها أيضا، ويبقى أن المدافعة ستتواصل، ونتائجها ستظهر لاحقا.
 
هل ستكون لأمريكا خطة تالية لما بعد الانسحاب في التعامل مع الملف؟ هذا وضع طبيعي، ولا يتعلق الأمر بأمريكا، بل بأي قوة دولية مشابهة، لكن النجاح شيء آخر، لأن الأطراف الأخرى لن تستسلم
من القضايا التي يمكن التوقف عندها في قراءة المشهد الأفغاني هي حملة التشويه التي تتعرض لها “طالبان” في الصحافة الغربية، وبعض العربية، لا سيما ما يتعلق بالدكتاتورية، وبقضايا النساء وعموم القضايا الاجتماعية.
والحال أنها حملة تتحدث عن أفغانستان كأنها دولة أوروبية سقطت بيد قوة متشدّدة جاءت من عصر آخر، متجاهلة أننا إزاء قوة تعبّر عن مجتمعها بهذا القدر أو ذاك؛ بعيدا عن مظاهر أقلية في العاصمة كابول.

حملة تتجاهل أن عشرين عاما من الغزو لم تغيّر الكثير في طبيعة المجتمع الأفغاني، بما في ذلك حكامه وأعضاء البرلمان فيه؛ بلحاهم الطويلة، وبنسائهم اللاتي يلبسن “البرقع”.
لسنا مع التشدد بأي حال، ونرى أن التديّن لا يكون بالإكراه، لكننا نتحدث عن مجتمع له خصوصياته، كما نشير إلى أن “طالبان” كانت قد بدأت تتغيّر حين داهمها الغزو، ويمكن أن يتكرّر ذلك من جديد إذا ما أتيحت لها الفرصة، إن كان على الصعيد الاجتماعي، أم على صعيد التعددية والمشاركة السياسية للأطياف الأخرى، مع العلم أنها الحركة الوحيدة العابرة للأعراق، وإن تركّز حضورها في أوساط البشتون.
الأهم من ذلك كله هو سؤال هؤلاء جميعا عن حقيقة الغزو، وهل جاء بالفعل من أجل تحرير الشعب الأفغاني ومنحه فرصة التمتّع بالحرية والديمقراطية، أم جاء لأسباب أخرى معروفة روّجها المحافظون الجدد حينها؟!
ولأن السطور قد طالت أكثر مما ينبغي، ومما يطيقه القارئ، ومن الصعب الدخول في تفاصيل الأسئلة التالية، إن كان في الداخل الأفغاني، أم مع الخارج الإقليمي (إيران بشكل خاص)، والدولي أيضا (الصين وروسيا)، فسأختم بفكرة مهمة لا بد أنها استوقفت المراقب لما جرى ويجري.
إنها تلك المتعلقة بمواقف أبواق وإعلام ما يُسمى حلف “المقاومة” وتوابعه المؤدلجة والمذهبية والطائفية، حيث تم تبرير عدم الاحتفاء بإذلال “طالبان” لأمريكا، بكون الحركة “قوة ظلامية”، كأن “الولي الفقيه، الذي يدّعي تلقي الأوامر من الله عز وجل؛ عبر “الإمام الغائب”، يوزّع الأنوار على الكون، وكذلك حال تابعه الحوثي في اليمن، فضلا عن تابعه في دمشق، ذاك الذي يقود نظام أقلية طائفي متوحّش، وورث جمهورية عن أبيه، كأنها مزرعة.
إنها محاولة مفضوحة لاحتكار مصطلح المقاومة، وعداء أمريكا والصهاينة، كأن الأمة لم تعرف ذلك إلا على أيديهم، ولم تقاتل غزاة ومستعمرين ومحتلين بلا حصر، قبل الثورة الإيرانية وبعدها.
ختاما، يمكن القول إن ما جرى سيعزّز الصراع الإقليمي والدولي، ما يجعل السؤال الأهم هو دور هذه الأمّة في المشهد الجديد، وهو السؤال الذي يستحق الكثير من النقاش في أوساط المفكرين وأهل الرأي، وإن بقيت المعضلة في السياسيين والحكام.

شاهد أيضاً

عبد المجيد الزنداني.. حياة حافلة بالعلم والعمل والجهاد

ودع اليمنيون والأمة العربية والإسلامية يوم الإثنين 13 من شوال 1445 للهجرة، الموافق 22 أبريل 2024م علما من أعلام هذه الأمة، وكوكبا من كواكبها، وهاديا من هداتها، ورائدا من روادها، هو الشيخ عبد المجيد بن عزيز الزنداني، العالم العامل، والمجاهد والمربي، والقدوة المعلم، القرآني المحمدي الرباني، صاحب العطاءات الدعوية، والإمدادات التربوية، والجهود التعليمية، والأطوار الجهادية،