اختطاف الدين

بقلم : هاشم غرايبة

أكبر نعمة للبشرية كانت الدين، أراده الله وسيلة لإسعاد الناس في حياتهم الدنيا، ولنيل عطائه الأعظم في جنته التي أعدها لعباده الذين صدّقوا به فاتبعوه.

لكن ولأن الدين يفرض على متبعيه الإستقامة السلوكية ويستوجب كلفا مادية ومعنوية، فقد أعرض عنه أكثر الناس ممن غلبت عليهم الأثرة وحب الشهوات، ولأنه يحد من الأطماع والمكاسب غير المشروعة فقد عارضه أصحاب رؤوس الأموال والنفوذ، ولتحكمهم للمجتمع فقد جندوا محاربين له بالقوة للصد عن دين الله، ويعاضدونهم بحرب فكرية بالجدل والتشكيك أحيانا، لذلك فما اتبع الدين إلا قليلون.

مع كل ذلك، فلم تستطع تلك القوى المضادة أن تطفئ هذا النور الذي غمر الأرض، واستمر الإيمان به واتّباعه في تصاعد على الدوام، حتى بات من يؤمن به أكثر من خمس البشر.

لكن المشكلة الأخطر عليه كانت في متّبعيه، فقد انقسموا الى ثلاث فرق متنازعة فيما بينها تتجاذب الدين، وكل منها تصر على أن رؤيتها هي الصحيحة.

الأولى :

تود تمييع الدين وإفراغه من مضامينه من أجل التحلل من كلفه والتزاماته، وهي بذلك تحقق مصالح مختلف أطراف هذه الفرقة، وهي أصحاب السلطة ورهطهم الذين يرغبون بإبعاد الدين عن السياسة لتحريرهم من ضوابطه، وإعفائهم من الواجبات التي يفرضها الشرع عليهم بتحرير ما اغتصبه الغزاة، وعدم موالاة الأعداء.

لكن القتال والنزاع مكلف لهم، ويعرضهم لمخاطر فقدان سلطتهم، وهم لا يودون المجازفة بمغانم السلطة ولا يتقبلون التخلي عن امتيازاتهم، لذا لا يريدون ذات الشوكة، ولا يوافق هواهم إلا العبادات قليلة الكلفة.

الثانية :

وهي تمثل السواد الأعظم من أتباع الدين، وهم الوسطيون الذين يلتزمون بالمنهج القويم (الإلتزام بأركان الدين ومحددات الشريعة)، كما وردت في كتاب الله العزيز، بلا إفراط ولا تفريط.

الفرقة الثالثة :

تتكون من أشخاص طبيعتهم الشخصية وبنيتهم النفسية تميل الى التشكك في نوايا الآخر، ولا يطمئنون لغيرهم، وهذا الطبع السائد في كل تصرفاتهم يجعلهم متشددين في تناولهم لكل الأمور، ويغلب عليهم التطرف في الحكم في كل علاقاتهم مع الآخرين، ولما كان الدين واحكامه جزءا هاما من الحياة اليومية، لذلك ترى هؤلاء يميلون الى التشدد والتزمت في التطبيق، ولا يتقبلون التساهل والأحكام اللينة، وقد يصل بهم الأمر الى اعتبار ما لا يتفق وهواهم ميوعة وتهاونا فيرفضونها، ولو كانت نصوصا شرعية قطعية الدلالة .

هؤلاء موجودون في كل الأقوام بلا فارق بين المتدينة منها وغير المتدينة، وفي جميع العصور قديمها وحديثها، قبل نزول الرسالة الإسلامية وخلالها وبعدها، وقد عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم وتعامل معهم متجنبا الإصطدام بهم وهو عالم بطبيعتهم، وقد عانى منهم كثيرا حتى وصل به الضيق منهم يوما أن كان متكئاً فانتصب في جلسته وقال :
” هلك المتنطعون ” وكررها ثلاثا
(دلالة على اهتمامه بالأمر).

في صلح الحديبية، اعترض المتشددون على قبول الصلح وأقنعوا غيرهم حتى صارت بلبلة، وضاق رسول الله صلى الله عليه وسلم صدرا بذلك، وشكى لأم سلمة رضي الله عنها قائلا:
” هلك المسلمون يا أم سلمة ، لقد أمرتهم فلم يمتثلوا “، فأشارت عليه بأن يحزم أمره فيحلق ويذبح، ولم يتبعه المتشددون في البداية، لكنهم ثابوا الى رشدهم، عندما رأوه يفعل ما أمره الله.

إن كان ذلك حدث ورسول الله الموحى إليه من الله بين ظهرانيهم ولا تروق لهم أحكامه، فلا غرو إذن أن يتوسع تأثيرهم ويعم ضررهم بعد أن قبضه الله إليه، فأخذوا ينسخون أحكاما يرونها متساهلة، رغم أنها نزلت في نصوص قرآنية محكمة، ويقدمون عليها روايات من ماثلوهم ووافقوهم في هواهم.

هكذا رأينا كيف أن الفئة الأولى فرطت في الدين فضيعت أركانه،
والفئة الثالثة أفرطت في الخوف عليه فجمدته وأفرغته من مراداته، لكن الثانية التي تنتهج الوسطية وتمثل التمسك بجوهر الدين وعماده، ورغم أنها تمثل أكثر من ثلاثة أرباع الأمة، إلا أنها بسبب طبيعتها المسالمة ورغبتها بالمحافظة على وحدة الأمة وتماسكها، لم تحسن المحافظة عليه من عبث الطرفين، فضيّعه تفريط الأولى، وأفسده إفراط الثالثة.
والطرفان هؤلاء هم مختطفو الدين، وهم السبب في عدم ارتقاء الأمة به.

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".