إما شاكرا وإما كفورا

{ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } الإنسان (1-3)

– { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا !؟} : بداية قصتك أنك لم تكن شيئا مذكورا، أنت لا شيء، أنت حادث على هذا العالم، الدنيا كانت سائرة بدونك، وستبقى سائرة بدونك، لا تظن أنك تملك رزق أحد، أو أنك يجب أن تكون موجودا لينصلح أمر فلان أو فلان، أنت لم تكن شيئا، كنت عدما، لم يكن لك وجود ولا ذكر.

– وحين أصبحت شيئا، حين بدأت قصة وجودك كنت ماذا !؟ {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ}حينما خلقك الله من لا شيء، جعلك نطفة، نقطة دم حقيرة لا تُرى بالعين المجردة، مغمورة في رحم امرأة، هذا أنت، لا تفكر في هذه اللحظة بأبنائك، ولكن فكر في نفسك، أنت كنت هذا الشيء، هذه حقيقتك. {أمشاج}خليط من ماء الرجل وماء المرأة.

– لماذا يا رب خلقتنا ؟ {نبتليه} خلقنا ليختبرنا، وليس لننشغل بالدنيا ونغوص في تفاصيلها.

– هل خلقنا عاجزين عن أداء هذا الاختبار؟ لا والله{فجعلناه سميعا بصيرا} أعطانا كل الإمكانيات التي نحتاجها لنجتاز هذا الاختبار، من سمع وبصر وعقل وجوارح وفهم ومشاعر وقدرة على الربط والاستنتاج… الخ.

– هل أعطانا ربنا نعما دنيوية فقط !؟ لا {إنا هديناه السبيل} أعطانا نعما دينية ليدلنا على طريقه بأسهل وألطف الطرق، هدانا إليه، أنزل لنا كتبا، وأرسل لنا رسلا ليكونوا نماذج واضحة لتطبيق هذه الكتب، وحفظ لنا كتابه الخاتم، وحفظ لنا سنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وسخر لنا في كل عصر علماء ثقات يحفظون لنا هذا الدين وينقلونه لمن بعدهم…

– فما المطلوب مني يا رب لأنجح في هذا الاختبار !!!؟ {إما شاكرا، وإما كفورا} فانقسم الناس إلى قسمين –لكل قسم درجات متفاوتة كثيرة- إما شاكرا، وإما كفورا.

فما معنى الكفر المقصود في هذه الآية، والذي هو مُضاد للشكر !؟

الكفر في اللغة: هو الستر والتغطية، يُقال: كفر الزارع البذر بالتراب أي غطاه.

فالذي يُغطي الحقائق بزعمه فهو كافر

التي تنسى فضل زوجها عليها وتقول “ما رأيت منك خيرا قط” فهي كافرة بالعشير

الذي ينسب النجاح لعقله وذكائه وينسى أنه لولا نعم الله عليه ما نجح  كافر بنعم الله

وليس المقصود هنا الكفر الأكبر، إنما المقصود الكفر الأصغر، وهو تغطية النعم ونسيانها.

والذي يُنكر وجود الله ! ويُغطي كل الحقائق العقلية والفطرية والكونية والشرعية على وجوده، ويزعم بلا دليل ولا برهان أنه لا إلاه فهو كافر كفرا أكبر

أما الشكر: فهو الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف.

فالخطوة الأولى للشكر هي رؤية المعروف، رؤية النعمة، ثم نسبتها إلى صاحبها، ثم يأتي شكره والثناء عليه بعد ذلك.

فالشاكر : يعترف بالنعمة وينسبها لصاحبها

أما الكافر : يتغافل عن النعمة، يغطيها، إما بعقله، أو بزعمه أمام الناس، فبالتأكيد لن يشكر صاحبها عليها.

(2) بما أن اختبارنا كله يتلخص في هذه الكلمة {شاكرا} فهل يمكن أن يكون المقصود بالشكر هو مجرد قول : الحمد لله، والشكر لله!؟ فينجح الإنسان وينجو في اختبار الدنيا كله.؟!

لا، إنما سنفهم سويا بإذن الله ما المقصود حقيقة بهذه الكلمة، بتفاصيلها.

(3) بماذا وعد الله الشاكر في الدنيا والآخرة؟ وبماذا وعد الكافر بنعمه ؟

أولا: عدم شكر النعم كما ينبغي، سبب لزوالها في الدنيا:

{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُبَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ* وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }سبأ (15-19)

قوم سبأ مثال ضربه الله تعالى لنا ليبين لنا أن النعم التي يعطينا إياها، مهما كانت عظيمة، ومهما كانت طويلة الأمد، ومهما اعتدنا عليها، فهو قادر على أن يسلبها منا في لحظة، دون أي مقدمات.

فضرب لنا مثلا بنعمة تفوق الخيال: قوم أعطاهم حياة رغيدة، تحيط بهم البساتين والأنهار في كل مكان، حتى وصلوا إلى درجة أن يسافروا من اليمن إلى الشام لا يحملون معهم زادا، وتخرج المرأة من بيتها تطوف بسلتها تحت الأشجار، فترجع ولتها ممتلئة طعاما، ولم تضطر أن تحرك غصنا.

كيف كفروا بنعمة الله؟

{فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا} ملوا النعمة، ملوا الحياة الهادئة وأرادوا التغيير والإثارة، فماذا كانت النتيجة؟

سلب الله منهم النعمة وبشدة، ومزقهم كل ممزق، وجعلهم أحاديث يتكلم الناس بما حصل لهم.

فهذا كما حدث مع هذه النعمة العظيمة، يمكن أن يحدث بسهولة مع أي نعمة نعيش ونتمتع بها، إن لم نشكرها كما ينبغي، وكفرنا بها، أو تبطرنا عليها.

ثانيا: عدم الانشغال بشكر النعم في الدنيا سبب لطول الحساب والعقوبة يوم القيامة {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} التكاثر8

السؤال يوم القيامة سيكون على قدر النعم، فكلما زادت النعم عند العبد كان سؤاله أكثر وأشد وأطول.

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يدخلُ فقراءُ المسلِمينَ الجنةَ قَبلَ الأغنياءِ بنِصفِ يومٍ وهُو خمسُمائةِ عامٍ” صحيح الترغيب

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ليودَنَّ أهلُ العافيةِ

يومَ القيامةِ أنَّ جلودَهم قُرضت بالمقاريضِ ، مما يروْنَ من ثوابِ أهلِ البلاءِ” السلسلة الصحيحة للألباني.

فالمؤمن المبتلى والفقير عَبَدَ الله وأطاعه وهو يعاني، وهو يتألم رغما عنه، ومع ذلك رضي وصبر.

فدخل الجنة قبل الغني والمعافى ب500 عام، زمن مهول، وفترة عصيبة، كيف سيكون حالنا وقتها ونحن تحت الشمس، غارقين في العرق، والخوف، وصعوبة الموقف!؟

كما أنه حصل على ثواب عظيم، يتمنى المعافى وقتها لو أن جلده قرض بالمقاريض ليحصل عليه.

فإذا اختار الله لي أن أكون في الدنيا ذلك الغني والمعافى، فما الذي كان يجب علي أن أفعله لأنجو من شدة هذا الموقف وطول هذا السؤال !؟

كان يجب أن أتعب وأبذل الجهد في شكر النعم باختياري، حتى أتساوى مع المبتلى في التعب والمعاناة.

فهل إذا شكرت الله كما ينبغي، سأنجو فعلا من هذه الأهوال يوم القيامة ؟

نعم.. والدليل قوله تعالى { مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا } النساء 147

ثالثا: ما العطاءات العظيمة التي وعد الله بها الشاكر في الدنيا والآخرة؟

إذا شكر العبد نعم الله تعالى كما ينبغي:

‌أ- نجى نفسه من شدة السؤال وطوله في الآخرة.

‌ب- ونجى نفسه من زوال النعمة في الدنيا.

‌ج- بل إن الله الشكور سيزيده من فضله بسبب شكره.

{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْوَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } إبراهيم 7

‌د- وينجيه من المهالك في الدنيا بسبب شكره.

{ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ}

القمر (34-35)

‌ه- وسيصطفيه بنعمٍ إيمانية ودينية من بين قرنائه.

{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} الأنعام 53

{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } النحل

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *