أوكرانيا وما نسيه العالم من دروس الحربين العالميتين

نبيل الفولي
1/3/2022

لا شك أن السياسة الدولية المتبعة في فترة ما هي التي تصنع أحداث العالم الكبرى وتشكل سماتها العامة خلالها، وينطبق هذا على ما يجري الآن في الحرب الروسية على أوكرانيا، كما ينطبق على ما جرى في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وربما على كل الأحداث العالمية الكبرى في تاريخنا.

جذر هذا الأزمة يرجع إلى إقرار السياسة الدولية مبدأ التدخل في سيادة الدول بدون مظلة من القانون الدولي، وبتحايل مكشوف على المنظمات الدولية وقوانينها، وبأسباب ملفقة في أغلب الأحيان، ويكفي أن تسمح لنفسك بانتهاك قانون حتى يقلدك فيه من استطاع أن ينتهكه من بعدك.

لذا، فمن حق المتابع لما يجري في الساحة الدولية -في اللحظة الراهنة- أن يقول: لقد نسينا كثيرا من دروس الحربين العالميتين!

إقرار سياسة العدوان
قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا بساعات، ذكّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العالم بغزو الولايات المتحدة للعراق وقصفها لسوريا ويوغسلافيا بدون أي تفويض من مجلس الأمن في أي حالة منها، وهي كلها -كما أكد- بلاد تبعد عن واشنطن آلاف الكيلو مترات.

ومغزى هذا الكلام واضح، وهو أن الرئيس الروسي اعتبر ما قاله -في ظل الهجوم الدبلوماسي والإعلامي الغربي الساحق عليه وعلى بلاده- مسوِّغًا للحرب التي كان في تلك اللحظة يتأهب لشنها على جارته أوكرانيا، بل إنه -بتأكيده على الجانب الجغرافي للولايات المتحدة- رأى نفسه أولى بأن يشن حربه هذه من شن الأميركيين وحلفائهم حروبهم المذكورة؛ وذلك أن أوكرانيا ملاصقة لروسيا، وكانت قبل زمن قريب تحت حكم موسكو في داخل الاتحاد السوفياتي وضمن حلف وارسو، كما أنها كانت -وهذا هو الأخطر على روسيا- تستعد لتكون رأس حربة متقدمًا ضد موسكو بعزمها الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي “ناتو” (NATO).

والحقيقة أن جذر هذا الأزمة يرجع إلى إقرار السياسة الدولية مبدأ التدخل في سيادة الدول بدون مظلة من القانون الدولي، وبتحايل مكشوف على المنظمات الدولية وقوانينها، وبأسباب ملفقة في أغلب الأحيان، ويكفي أن تسمح لنفسك بانتهاك قانون حتى يقلدك فيه من استطاع أن ينتهكه من بعدك.

ومع أن أسس المنظمات الدولية التي أقيمت لإدارة السياسة الدولية بعد الحرب العالمية الأولى (عصبة الأمم) والحرب العالمية الثانية (الأمم المتحدة) لا تخلو من عيوب وقصور واضح، حسب ما انتقدها كثير من خبراء السياسة الدولية وما زالوا، إلا أن وجود هذه المنظمات -مع احترام قوانينها- خير من غيابها تمامًا، لكن المشكلة هي أن المنتصر في الحربين جمع بين عوار قوانين هذه المنظمات وبين الالتفاف والتحايل على هذه القوانين!

إذلال المهزوم
جأر الروس بالشكوى مرارًا من استغلال الغرب لحالة الترنح التي مرت بها بلادهم عقب الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي، حتى تمركز حلف الناتو في مناطق يمثل وجوده فيها خطرًا ظاهرًا على الأمن القومي لروسيا؛ وذلك بانضمام أغلب أطلال السوفيات في أوروبا إلى أحلاف ومنظمات غربية، فنالت المجر وبولندا وبلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا (بجمهوريتيها) وغيرها عضوية حلف الناتو، بعد أن كان بعضها -على الأقل- عمدة في حلف وارسو، كما حصل كثير من هذه الدول (الشيوعية سابقًا) على عضوية الاتحاد الأوروبي المعروف بسمته الرأسمالي الديمقراطي القريب من واشنطن.

وإذا كان الناتو حلفًا عسكريا صريحًا، فإن بين دول الاتحاد الأوروبي اتفاقيات دفاع عسكري مشترك كذلك، وعضوية الدول المذكورة آنفًا في أي من المنظمتين تعني نصب الصواريخ الغربية حول روسيا بحيث تطوقها من جهة الغرب، إضافة إلى الجنوب في تركيا، سعيًا إلى لجم أي مطامع روسية مستقبلية في التمدد إلى قلب القارة البيضاء.

ولا يخفى أن هذا السلوك يشبه بدرجة ما سياسات الحلفاء تجاه المهزوم بعد الحربين العالميتين، فبعد الحرب العالمية الأولى بدلا من أن تكون معاهدة فرساي سنة 1919 -التي تمخضت عن إنشاء عصبة الأمم- فرصة لتحقيق سلام حقيقي في العالم، أدت إلى تأجيج العداوة، بسبب حرص المنتصر على إذلال المهزوم وفرض شروط وعقوبات مجحفة بحقه، من تغريم الألمان مبلغا كبيرا من المال، واقتطاع جزء من أرضهم، وإلزامهم بسياسات داخلية معينة تلجم مطامع ألمانيا العسكرية كما حسبوا.

وفي ظل غياب الحلول الواقعية العادلة التي تساندها قوة قادرة على التنفيذ، أسفرت التطورات حينئذ عن مزيد من تدعيم الشعور القومي، وصيرورة القومية أشد الأيديولوجيات استهواء للجماهير، وبدلا من أن يجني الحلفاء ثمرة ما أمّلوه من هذه السياسات العقابية، إذا بها تتمخض عن الثلاثي الأيديولوجي الأعتى: الفاشية، والنازية، والشيوعية؛ فقد أدت التطورات الاقتصادية والسياسية في ألمانيا بعد الحرب إلى صعود نجم هتلر حتى سيطر على أزمّة الحكم، وقاد العالم إلى حرب أضخم في تدميرها من الحرب العالمية الأولى بكثير، كما انسحب موسوليني من الحزب الاشتراكي الإيطالي بسبب اختلافه مع الأغلبية حول دخول إيطاليا الحرب التي كان يرى ضرورة الاشتراك فيها، وبعد انسحابه من الحزب أسس لأيديولجيته الفاشية. وأما لينين، فقد عاد بعد ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1917 الروسية إلى بلاده وتولى قيادة البلاشفة، ثم استولى بهم على السلطة، وفرض دكتاتورية الحزب الشيوعي التي لم تتوقف إلا بسقوط الاتحاد السوفياتي بعد أكثر من 7 عقود من الزمان.

ويلاحظ أن الدعاية الفاشية والنازية والشيوعية في هذه الفترة ركزت على انحلال المجتمع القديم وموته الوشيك، بل إن “الميثاق الثلاثي” الذي وقعته ألمانيا وإيطاليا واليابان في برلين سبتمبر/أيلول 1940، اعترفت فيه اليابان بحق حليفتيها ألمانيا وإيطاليا في إقامة “نظام جديد” في أوروبا، واعترفت ألمانيا وإيطاليا لحليفتهما اليابان -في المقابل- بحقها في إقامة “نظام جديد” في شرق آسيا.

وبعد مآسي الحرب العالمية الثانية (1939- 1945)، أعادت تصرفات السياسة الدولية إلى الذاكرة تصرفات الأسلاف بعد الحرب الأولى، فبالغت في عقوبة المهزومين، بل إذلالهم، مما ترك في النفوس جراحًا ومرارات ما أظن أن اليابان أو ألمانيا يمكن أن تنساها، وها هي ألمانيا قد رصدت بعد الحرب الروسية الحالية على أوكرانيا 100 مليار دولار لدعم الجانب العسكري لبرلين في مواجهة أي عدوان محتمل عليها، وقبل قليل زادت اليابان من نفقاتها العسكرية بذريعة الاحتماء من مشاكسات الجار الكوري الشمالي، وهكذا يخرج العملاقان الجريحان بالتدريج من القمقم الذي وضعا فيه عقب الحرب العالمية الثانية.

ومع أن السياسة الدولية لا تتوقع ملائكية أو مثالية في سلوك الدول -خاصة القوية والمشاكسة منها- إلا أنه يجب توقع أن يتحول سلوك الأقوياء إلى قانون للعلاقات الدولية، ومن هنا يمكن أن نفهم تتابع ظهور القوى الاستعمارية الحديثة على أنه تطبيق لما بدأ بإقراره الاستعمار البرتغالي فالإسباني في السياسة الدولية، وكذلك إيذاء المهزوم وإذلاله وما يؤدي إليه من السعي إلى التعويض أو حتى الانتقام حين يستطيع الانتقام والتعويض.

وينبغي أن نسجل هنا -في ما يتعلق بسعي الغرب إلى تطويق روسيا ما بعد السوفيات برغم الإشكالية السابقة في هذا السلوك- تأخُّر الأميركيين وحلفائهم في تذكر أقطار آسيا السوفياتية المسلمة في إستراتيجية الحصار المبكر لموسكو وجمع غنائم التفكك، مما أتاح للعملاق الروسي أن يفيق من الصدمة، ويجد فرصة للتمدد في أرض خالية من منافس حقيقي؛ إذ ربما يكون هذا عاملا مهمًا في إيقاظ أحلام الإمبراطورية لدى الروس من جديد، مما أتاح لهم أن يقدموا أنفسهم -استنادا إلى الميراث النووي الضخم والوجود السابق في جميع المواقع الساخنة في العالم والثروات الروسية الطبيعية الكبيرة- في صورة الإمبراطورية.

ونقل هذا النجاح في الشرق بوتين إلى التفكير في حدوده الغربية، وأخطرها على الإطلاق “درة التاج السوفياتي” أوكرانيا (أو روسيا الحمراء كما كانت تُسمَّى كييف) التي لم ييأس بوتين من السعي إلى صناعة حليف له فيها، فلما كان الشعب الأوكراني قد مل النمط السياسي السوفياتي/ الروسي، وكانت المنافسة الغربية على كييف قوية، وأعجزته عن تكرار سيناريو العلاقة مع حلفائه في جمهوريات وسط آسيا وبيلاروسيا، لجأ للتي هي أعنف وأقوى، واحتل شبه جزيرة القرم عام 2014، ثم ها هو الآن يشن الحرب الشاملة على جارته.

الحلف الاضطراري
منذ الحرب العالمية الثانية، وعقب الجلاء عن أغلب المستعمرات في الشرق، ركزت السياسة الدولية الغربية في دول “العالم الثالث” على تجاوز الشعوب ودعم رأس السلطة في ضمان استمرار توجه السياسات في هذه الدول وجهة تلائمها، وهو ما أُطلق عليه مصطلح “ما بعد الاستعمار”، حتى صار من حق كل قوي أن يتدخل في دعم هذا النظام أو ذاك ممن يضمن مصالحه. والحديث عن سلوك فرنسا في مستعمراتها السابقة والولايات المتحدة في كثير من مناطق العالم لا يخفى على القارئ.

ومع أن روسيا الحالية أقرب -من جهة الهوية والنظرة المكبَّرة إلى الذات- إلى صورتها القيصرية منها إلى صورتها السوفياتية، إلا أن صناعة السلطة الموالية وتجاوز رغبات الشعوب وإرادتها في البلاد الشرقية الحليفة بدلا من الاحتلال المباشر هو سلوك غربي بامتياز، فالقياصرة والسوفيات على السواء كان لا يرضيهم من حليفهم حيثما كان إلا التبعية الكاملة أو الاحتلال. وفي المرحلة “البوتينية” اتبعت الزعامة الروسية السلوك الغربي، فاهتمت بالتحالف الإستراتيجي مع جيرانها (السوفيات سابقًا) من خلال دعم السلطة فيها، وليست “منظمة معاهدة الأمن الجماعي” إلا ترجمة لهذا السلوك، وكذلك قدمت موسكو نفسها حليفًا جاهزًا لدعم أي نظام حاكم يطلب معونتها، كما وقع في سوريا ومالي.

وما يجري في أوكرانيا اليوم هو علاج روسي بالكي أو الصدمة القاتلة، بعد أن فشل الروس في استمالة جارتهم للتحالف معهم، وضمان توجيه السياسة في كييف توجيهًا يضمن مصالح موسكو، خاصة في نوبات الخلاف والصراع مع الغرب.

نبيل الفولي

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".