أزمة الإسلام أم أزمة فرنسا.. لماذا لا يندمج المسلمون؟

شريف مراد

بعد اندلاع احتجاجات السترات الصفراء في فرنسا أواخر عام 2018، التي تُعَدُّ أحد أعنف الاحتجاجات التي شهدتها فرنسا منذ عقود، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حينها عن بدء ما سمّاه “النقاش الكبير”، حيث خاضت غالبية النخب والقوى والتيارات في فرنسا نقاشا عاما مفتوحا يبدو أنه كشف عن حجم الاستقطابات الكامنة في المجتمع الفرنسي، وعن امتلائه بشقوق تنهشها التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية والجغرافية.

وكما كان متوقعا بحسب الصحف الفرنسية، فإن فعاليات النقاش الكبير تنتهي بخطاب عام يُلقيه الرئيس الفرنسي للبدء في خارطة الطريق التي نتجت عن توصيات النقاش الكبير، التي هي ذاتها بطبيعة الحال تحمل في القلب منها تنوُّعا شديدا وتضاربا بحجم تضارب القوى الاجتماعية والثقافية التي ساهمت في النقاش. إلا أن الذي لم يكن متوقعا هو مضمون خطاب الرئيس الفرنسي، فبعد أكثر من عام من بدء النقاش الكبير، خرج إيمانويل ماكرون في خطاب تأجل أكثر من مرة ليُعلن للمجتمع الفرنسي أن قيم الجمهورية الفرنسية والعلمانية في خطر أمام تهديد الإسلام، مردفا أن الإسلام يعيش أزمة ليس في فرنسا فحسب، بل في جميع أنحاء العالم.

وطرح ماكرون في خطابه مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول 2020 مجموعة من التدابير المُزمع القيام بها، مثل إلزام أي منظمة مجتمع مدني بالتوقيع على ميثاق للعلمانية، وفرض إشراف مُشدَّد على المدارس الخاصة الأهلية وغير الحكومية، والحد بشكل صارم من التعليم الدراسي المنزلي، وأضاف أن المدارس يجب أن “تُدرِّب مواطنين وليس مؤمنين”، كما أشار إلى أن الدولة ستكون لها السلطة في التدخُّل إذا قدَّمت السلطات المحلية تنازلات غير مقبولة للمتدينين، مستشهدا بـ “قوائم دينية للمأكولات” في مقاصف المدرسة، أو في الفصل بين الجنسين في حمامات السباحة داخل المدارس والأندية، والأمر الأكثر خطورة تَمثَّل في توسيع الحظر الذي فرضته بلاده على الشعارات والرموز الدينية، بما في ذلك حظر الحجاب الذي أعلن ماكرون أنه سيُوسَّع ليشمل موظفي القطاع الخاص الذين يُقدِّمون خدمات عامة.

ويُفترَض أن تُوضَع القرارات التي أعلنها الخطاب في مشروع قانون سوف يُعرَض على مجلس الوزراء بداية ديسمبر/كانون الأول، ثم يُناقَش في البرلمان مطلع العام الحالي، وفي محاولة لتقليل حِدَّة الموقف كله استقبل ماكرون رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية محمد الموسوي، حيث أكّد ماكرون لموسوي أن هذه القوانين والإجراءات اتُّخِذت من أجل تحقيق المزيد من الدمج للمسلمين في فرنسا، وتقليل حِدَّة الاستقطاب الثقافي في المجتمع الفرنسي، ولم يمر أسبوع حتى شهدت فرنسا واحدة من أبشع جرائم العنف الثقافي، حين ذبح طالب شيشاني مسلم مدرسا فرنسيا نشر رسوما مسيئة للنبي محمد في أحد الفصول التعليمية، لكن الأمر لم يقف هنا، فبعد تلك الواقعة بأيام، قام شابان بالهجوم على امرأتين ترتديان الحجاب وحاولا قتلهما طعنا بالسكاكين أمام أطفالهما، وأثناء كتابة هذه السطور، قام شاب بالهجوم على فرنسيين في مدينة نيس حيث قتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين، في أسبوع دموي وتصاعد خطير للعنف الأهلي ربما لم تشهده فرنسا منذ عقود.

يُقدِّم الفرنسيون صورة برّاقة عن أنفسهم في العادة، فهم أعظم مصممي الأزياء، وسادة الطهي في العالم، وعاصمتهم باريس هي مدينة النور وقبلة الفنانين والأدباء والشعراء، فيها أعظم المتاحف والمسارح، وفي جامعاتهم أهم الفلاسفة والمفكرين، ولغتهم المصقولة بجرس موسيقي هي الأنسب من بين لغات العالم لكلام الحب والعشق الرومانسي. هكذا يرى الفرنسيون أنفسهم، إلا أن الأهم عند الفرنسيين أن يراهم كذلك الأوروبيون الغربيون والأميركيون والعديد من الشعوب حول العالم أيضا، لكن المقيم في فرنسا يعرف جيدا حجم القلق والهشاشة الاجتماعية التي يعيشها ويشعر بها المجتمع الفرنسي في الحياة اليومية العادية وصولا إلى السياسة والثقافة في الداخل الفرنسي.

تحكي لـ “ميدان” طالبة الدراسات العليا المقيمة في باريس فرح فاروق قائلة: “إن الهوس الفرنسي الرسمي بمطاردة الرموز الدينية كالحجاب وبعض التيارات السياسية يزداد حِدَّة فجأة، وعلى فترات متقطعة، حيث من الممكن أن نشهد وجودا أمنيا مكثفا في الحدائق والشواطئ والمساحات العامة والمدارس والجامعات لمنع الحجاب من الظهور للعلن، يصاحب ذلك عادة هجوم علماني زاعق في الإعلام والصحف على الدين ورموزه خاصة الإسلام والمسيحية، وفي فترات أخرى، تسير الحياة بوتيرة طبيعية بلا هوس ضد الحجاب والمتدينين في الفضاء العام”، مردفة “أنه ربما كان الأمر يتعلّق بالتوترات والتوازنات السياسية داخل النظام السياسي الفرنسي، فالهجوم العلماني الفرنسي على الدين قد يظهر فجأة أحيانا بعد حادثة عنف معينة، وهذا متوقع، وأحيانا يكون بدون مقدمات إطلاقا”.

تقترن دهشة فرح بدهشة العديد من المسلمين المتدينين في فرنسا، ففي الوقت الذي يبذل فيه أبناء المهاجرين والوافدين حديثا إلى فرنسا جهدهم لتأسيس حياة هادئة واندماج “صحي” في بلدهم الجديد، تُصِرُّ فرنسا طوال الوقت على تذكيرهم بأنهم أغيار وأنهم ليسوا فرنسيين بما يكفي، ويذهب الأكاديمي جوزيف مسعد (2) إلى أن على النخب المحلية الفرنسية هي الأخرى ممارسة مراجعات ونقد ذاتي لأسباب عدم اندماج الأقليات الثقافية وخاصة المسلمين في الثقافة الفرنسية، إذ ربما يكون الخلل في الثقافة الفرنسية ذاتها لا في المسلمين.

هنا يأتي دور المؤرخ والفيلسوف الفرنسي “مارسيل غوشيه” صاحب إحدى أهم الدراسات عن الحالة الدينية في فرنسا في كتابه “الدين في الديمقراطية”، يشرح غوشيه أن العلمنة أو اللائكية الفرنسية لم تكن خروجا من الدين بالمعنى الظاهر للائكية، ولكن كانت “في تحويل العنصر الديني او القداسة إلى عنصر آخر غير الدين”، يُفصِّل مارسيل غوشيه أكثر مُعقِّبا “أن العلمنة هنا تعني الاعتراف السابق بأن التنظيم السياسي لا يُحدَّد سلفا بالدين، أو أن التنظيم السياسي في ذاته لا يخضع لغايات دينية، لكن في المقابل يخضع التنظيم السياسي لعناصر من نوع آخر حلَّت محل العنصر الديني، وهو ما يمكن أن نسميه الديانات الدنيوية”.

بحسب مارسيل غوشيه فإن تلك الديانات الدنيوية التي تستمد العلمانية منها حيويتها وتدفُّقها تتمثَّل في الإيمان الثوري في الخلاص الدنيوي وتحقيق مجتمع الحرية والعدالة، بما يصاحب ذلك من تقديس مفاهيم العقل وحركة التاريخ وخطابات الشعب والمصلحة العليا والدولة والجمهورية. هذه المقدسات العلمانية شكَّلت الأصول أو الينابيع التي استمدَّت منها العلمانية بنيانها الروحي من خارج الحقل الديني لإقامة بنيان الاجتماع السياسي الحديث في فرنسا وفي الغرب بصفة عامة، كانت تلك التوطئة من مارسيل غوشية ضرورية لفهم طبيعة الأزمة التي تُعاني منها العلمانية الفرنسية في لحظتنا الراهنة، وبالأخص في مواجهة الإسلام.

تكمن الأزمة بحسب غوشيه في النضوب الحاد والتاريخي الذي أصاب الأصول والمصادر الفكرية والروحية للعلمانية المناضلة منذ مطلع السبعينيات في القرن الماضي، فالينابيع المقدسة للعلمانية كالعقلانية والأمة والجمهورية والتقدُّم والأخلاق العامة والنخبة والمصلحة العليا التي تُحدِّدها وترعاها النخبة خُلِعت عن عرشها، إذ لم يعد هناك أي عصر ذهبي أو أرض ميعاد مزعومة في انتظار أن يقودنا العقل والنخبة إليها، “وليس من المبالغة القول إن مجمل الأصول والمصادر التي أتاحت، تحديدا في فرنسا، تحقيق الخيار العلماني ضد رغبة الكنائس أصبحت مُصابة هي أيضا بفقدان الإيمان. وهكذا، وبموازاة تهميش الدين والكنيسة، أصبحت العلمانية حدثا بلا مبادئ، بلا أي إلهام روحي”.

وبهذا يخلص مارسيل غوشيه إلى أن العلمانية في الغرب بصفة عامة توقفت عن امتلاك معنى سياسي مقبول، في الوقت الذي امتلك الإيمان الديني القدرة على التكيُّف مع الظروف العلمانية المعاصرة للحياة الاجتماعية والشخصية، ونعني بهذا تكيُّف الإيمان والدين مع شروط اجتماعية وأخلاقية لا يُنظِّمها الدين بالضرورة. من هنا تحديدا، بحسب مارسيل غوشيه، تأتي أزمة فرنسا مع الإسلام وطبيعته العنيدة وظهوره الواسع في المجال العام الفرنسي، حيث يباغت استمرار الإيمان الديني الإسلامي وانتشاره فريق علماني فرنسي يبحث عن هويته، ويُعيد إليه في الوقت نفسه سببا ظاهريا لوجوده ، ومع ظهور عدو محدد مُمثَّلا هذه المرة في الإسلام، تعود لأول مرة منذ عقود الحيوية والحياة إلى العلمانية الفرنسية، وهكذا يظهر رسم كاريكتوري لاستفزاز المسلمين وإذلالهم باعتباره إحدى أدوات العلمانية الفرنسية لإعادة إنتاج نفسها، حتى لو على حساب أكبر أقلية داخل فرنسا.

“سنرفع راية العلمانية دائما، وسنتمسك بالكاريكاتير مهما تقهقر الآخرون”.

تُلخِّص أطروحة مارسيل غوشيه أسباب دهشة الطالبة فرح فاروق، وغيرها من المسلمين المقيمين في فرنسا، وأسباب الهجوم الفرنسي الرسمي والشعبي المتكرر على الحجاب، واستدعاء الدين الإسلامي والرموز الإسلامية وافتعال صراعات حولها ومعها، والإصرار على إثارة مشاعر المسلمين الدينية، والتمركز حول المقدسات الإسلامية، كمقام النبوة الشريف وتعمد إهانته والنيل منه، وذلك في سبيل إضفاء بُعد نضالي على العلمانية ومَدِّها بالحيوية التي افتقدتها العلمانية الفرنسية بعد أن فقدت كل مصادرها الروحية الذاتية، وصارت العلمانية الفرنسية عبارة عن هوية قلقة مهووسة بنقيضها، تستدعيه طوال الوقت وتصارعه طول الوقت، مما يُعرقل أي عملية اندماج لمسلمين فرنسا داخل فرنسا.

تقودنا أطروحات مارسيل غوشيه إلى سؤال محوري، إذا كان هذا هو الحال الذي انتهت إليه العلمانية كونها ديانة دنيوية في الغرب، لماذا في فرنسا بالذات يتجدد الصدام بين المسلمين والسلطات الفرنسية؟

لحُسن الحظ لا يتركنا مارسيل غوشيه دون إجابة، حيث يضع يده على سر الشذوذ الفرنسي عن الغرب الديمقراطي العلماني فيما يتعلق بالموقف من الدين والإيمان الديني في العالم الغربي العلماني الحديث. يذهب غوشيه (3) إلى أنه على عكس الدعاية التي يلوكها العلمانيون والتنويريون المبهورون بفرنسا، نشأ التقليد الجمهوري الفرنسي العلماني على أساس حكم استبدادي ثوري ومطلق، وجد أساسه الفلسفي في الفكر السياسي العلماني الكلاسيكي عند سبينوزا وتوماس هوبز، وهو فكر يتحدث بوضوح عن هيمنة الحيز السياسي مُمثَّلا في سلطة الدولة على الحيز الديني، حيث من حق السلطة السياسية العلمانية وحدها، سواء باسم الحق الإلهي للحاكم قبل الثورة أو باسم السيادة والمصلحة العليا للشعب بعدها، “البحث في عقائد وشعائر الأديان والمذاهب، وتنظيمها للتأكد من حظر أي عنصر يخالف الحس العام، ولا يقضي على روح المواطنة، ولا ينفر من الصناعة ومن القضايا العامة، ولا يُقلِّل من الاحترام الواجب للعاهل والولاة، ولا يُبشِّر بمبادئ الزهد والتقشف التي تضر الاقتصاد، ولا إرشادات من شأنها أن تضر بالصحة العامة”.

هكذا أنتجت العلمانية في صورتها الأولى تقليدا جمهوريا فرنسيا مطلقا، لا يُنحّي الدين بعيدا عن السياسة فحسب، ولكن الأهم أنه يتحكم في أشكال التعبير الديني والإيمان الخاص بالأفراد والجماعات، ويُعيد إنتاجها وتحديد المقبول وغير المقبول حسب النظام السياسي القائم، وكما أسلفنا كانت المقدسات البديلة التي اعتمدت عليها السلطات العلمانية حينها هي مفاهيم مثل العقلانية والتقدم والصالح العام والشعب العضوي الموحد والسلطة الديمقراطية المؤتمنة على المصلحة العليا للشعب، وغيرها من جذور علمانية مؤسسة للتقليد الجمهوري الفرنسي.

لم تختلف العلمانية في صورتها الكلاسيكية الدولتية الفرنسية تلك كثيرا عن أشكال العلمنة في الكثير من دول الغرب الحديث في بدايات العصر الحديث، فبعد صراع طويل وحروب مريرة بين المذاهب الدينية المسيحية في غرب ووسط أوروبا، كانت الدولة الأوروبية العلمانية المطلقة الكلاسيكية هي الرد السياسي على اللا عقلانية العدوانية للإيمان الديني، الذي يشهد عليه تاريخ طويل من الحروب المذهبية في أوروبا، حتى لو كان هذا في صيغة الحكم الديمقراطي المطلق. إلا أن العلمانية الغربية شهدت تغييرات جذرية شقّت طريقا مختلفا لعلاقة جديدة مع الدين، طريقا تقدمت فيه غالبية دول العالم الغربي وتأخرت عنه فرنسا .

الطريق الجديد الذي بدأ في القرن التاسع عشر هو انشطار الجسم السياسي الجماعي الدولتي، الذي هيمن على مناحي الحياة في الغرب الحديث، إلى حقل سياسي بحت وحقل مدني غير سياسي، وهو ما يعني ظهور حيز عام خارج الدولة، ما بات يُعرف حاليا بالمجتمع المدني، جوهر هذا الانشطار الذي شقّ الجسم السياسي كان يعني إعادة ترتيب العلاقات بين العام والخاص، وهي بحسب غوشيه (3) “حركة لا دينية ولا علمانية، وحتى لو كانت في نشاطاتها مرتبطة بتوازن القوى بين الدين والعلمنة، ولكنها حركة تُغيّر تماما، وعلى قدر المساواة، حدود ومساحات الإيمان الديني والإدراك العلماني داخل الفضاء العام، هنا يظهر النموذج الفرنسي بوصفه انحرافا بعد تلك التحولات، ومن هذا المنظار تتمتع البلدان العلمانية الأخرى بسهولة أكثر في استقبال التغيير، فطلب الاعتراف العام بالإيمان الخاص، الذي هو في قلب هذه التحولات، يمكن أن يُسبِّب اضطرابات أقل بكثير داخل هذه البلاد، ولكنه في المقابل يُمثِّل انحرافا بالغا في الثقافة الفرنسية”.

إن هذا التطور الليبرالي الضخم في القرن التاسع عشر يتمثَّل في إرساء الاستقلالية المطلقة للمجتمع المكوَّن من الأفراد تجاه الدولة، هذا التطور التأسيسي هو أشد ما تفتقده فرنسا طوال تاريخ جمهورياتها الخمسة، “وذلك من جزاء ترسيخ الماضي، الترسيخ لإرث سلطوي خلّفه لنا حكم الملكية المطلق، والترسيخ للحكم المطلق الثوري، رغم أنه وطّد الفصل بين الحقل العام والحقل الخاص باسم إقامة الحرية، فإنه يحصر هذا الفصل في الحقوق الفردية وحدها، أي إن كل ما يُقيم رابطا جماعيا يُعَدُّ من صلاحيات السلطة السيادية”(3)، وهو ما يُلغي فكرة وجود مجتمع مدني وحيز عام مفتوح يمكن للأفراد والجماعات أن يظهروا فيه وينظموا أنفسهم ويبنوا مؤسساتهم بما يناسب هوياتهم المتعددة والمختلفة، أو أن يحظوا باعتراف عام ويتمتعوا بشرعيتهم الخاصة بهم إزاء السلطة السياسية.

يُفسِّر لنا هذا التحليل الثاقب لمارسيل غوشيه تصريحات إيمانويل ماكرون الأخيرة عن الإسلام واندماج المسلمين في فرنسا، فحديث ماكرون عن “إرغام أي جمعية أو مؤسسة مدنية في فرنسا التوقيع على ميثاق للعلمانية، وفرض إشراف مُشدَّد على المدارس الخاصة الدينية والحد بشكل صارم من التعليم الدراسي المنزلي، وتوسيع حظر الحجاب في المؤسسات الخاصة”، هو تجلٍّ واضح لأزمة التقليد الجمهوري الفرنسي مع مفهوم المجتمع المدني بمعناه الواسع، أي المجتمع المدني كونه حيزا عاما خارج السوق والدولة، حيث من خلاله تسود ثقافة الاختلاف والتنوع والانقسام والتعارض والتعددية الثقافية التي تظهر في عدد من الدول الغربية الأخرى التي بها جاليات مسلمة كبيرة.

يستكمل مارسيل غوشيه أن نجاح الديمقراطية في الغرب في الاستمرار يتمثَّل في “إعطاء المجتمع المدني شيئا فشيئا الشكل والحق في القدرة على التعبير والتنظيم الذاتي.. ولقد مر هذا الحل بمرحلة اعتراف المؤسسات السيادية -ويا لصعوبة هذا الاعتراف- بأن المجتمع المدني مُتعدِّد اجتماعيا فيما وراء تنوُّعه الفردي. وسار ببطء فيما بعد ذلك، أي في قبول الاستقلالية التحررية لمجموعات تقوم على المصلحة أو على الثقافة، وتقبُّل الجماعات المستقلة، والسلطات الاجتماعية النافذة، التي تتمتع بشرعيتها الخاصة بها إزاء السلطة السياسية”، وهنا تتجلّى أزمة أخرى في التقليد الجمهوري الفرنسي، حيث يتهم ماكرون صراحة جالية كبيرة مستقلة في فرنسا بأن لديها “عزما مُعلنا على إحلال هيكلية منهجية للالتفاف على قوانين الجمهورية وإقامة نظام موازٍ يقوم على قيم مغايرة، وتطوير تنظيم مختلف للمجتمع”لمجرد أن الجاليات المسلمة لديها مناهج مختلفة تُعلِّمها لأبنائها في المدارس والمساجد، وتُنظِّم قوانين الزواج والميراث وأحوالها الشخصية، وترتدي بناتها الحجاب بحسب تعاليم الدين الإسلامي، وهو ما تفعله الجاليات المسلمة في أي مكان آخر في أوروبا وأميركا.

بعد أن وضع يده على أزمة فرنسا، يتوقع مارسيل غوشيه مسارين لعلاقة فرنسا مع الإسلام؛ الأول هو أن يستمر التقليد الجمهوري الفرنسي في طموحه التوتاليتاري بتشكيل مجتمع علماني فرنسي أبيض، تختفي منه كل التعبيرات الإيمانية والرموز الدينية، لأنه موحد مع نفسه في كل أجزائه كما يظهر ذلك بوضوح في مقولة ماكرون “نريد مواطنين وليس مؤمنين”، هنا يؤدي العداء الجذري للدين والرغبة في إزاحته كليا ونهائيا إلى الاقتداء به فعليا، حيث تولد السلطة الثيوقراطية العلمانية الجديدة تحت شعار حماية قيم الجمهورية الفرنسية، مما يطعن في صلب تصوُّر التعددية الثقافية الذي تدّعي فرنسا أنها تُمثِّله وتدافع عنه، ويمنع أي علاقة صحية بين الجالية المسلمة الكبيرة في فرنسا وبين الدولة الفرنسية.

المسار الثاني الذي يتوقّعه مارسيل غوشيه هو زيادة المكوِّن الليبرالي في النظام الفرنسي، الذي يسمح للمجتمع المدني بتكوين القدرة المستقلة على التنظيم، بما في ذلك التنظيم المذهبي، ويُعزِّز أولوية المجتمع المدني على الدولة في رسم السياسات والتشريعات، والمساهمة الحرة في تشكيل الخريطة الاجتماعية والثقافية للمجال العام، فضلا عن الاهتمام أكثر بوسائل حماية الأقليات أكثر من اهتمامه بالسيادة، وتعزيز فكرة حيادية الدولة، وهذا كله مرهون عند غوشيه بأن يتوقف النظر إلى المجال السياسي الفرنسي على أنه ساحة للمطلق، أي حين لا نرى في الخطاب الفرنسي الرسمي مقدسات دنيوية، مثل ميثاق العلمانية وقيم الجمهورية واللائكية الفرنسية، حينها فقط يمكن الحديث عن اندماج المسلمين في الثقافة الفرنسية، التي سوف يُشكِّلها المسلمون الفرنسيون جنبا إلى جنب باقي مواطني فرنسا.

شاهد أيضاً

تفتيش عارٍ وتهديد بالاغتصاب.. هكذا ينتقم الاحتلال من الأسيرات الفلسطينيات

"بعد اعتقالي من منزلي والتحقيق معي في مستوطنة كرمي تسور، نُقلت إلى سجن هشارون، وتعرضت للتفتيش العاري، ثم أدخلوني زنزانة رائحتها نتنة، أرضها ممتلئة بمياه عادمة والفراش مبتل بالمياه المتسخة".