بين حظ الدنيا والآخرة

‌‌‌‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏(انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلًا)

والمتأمل يجد أن الله تعالى جعل التفضيل هنا عامّاً، فلم يُبيّن مَن المفضَّل ومَنِ المفضّل عليه، فلم يقُلْ: فضلت الأغنياء على الفقراء، أو: فضلت الأصحاء على المرضى.

إذن: فما دام في القضية عموم في التفضيل، فكلُّ بعض مُفضَّل في جهة، ومُفضّل عليه في جهة أخرى، لكن الناس ينظرون إلى جهة واحدة في التفضيل، فيفضلون هذا لأنه غني، وهذا لأنه صاحب منصب.. الخ.

وهذه نظرة خاطئة فيجب أن ننظر للإنسان من كُلِّ زوايا الحياة وجوانبها؛ لأن الحق سبحانه لا يريدنا نماذج مكررة، ونُسَخاً مُعَادة، بل يُريدنا أُنَاساً متكاملين في حركة الحياة، ولو أن الواحد مِنّا أصبح مَجْمعاً للمواهب ما احتاج فينا أحدٌ لأحد، ولتقطعت بيننا العَلاقات.

فمن رحمة الله أن جعلك مُفضَّلاً في خَصْلة، وجعل غيرك مُفضَّلاً في خصال كثيرة، فأنت محتاج لغيرك فيما فُضِّل فيه، وهم محتاجون إليك فيما فُضِّلْتَ فيه، ومن هنا يحدث التكامل في المجتمع، وتسلَمْ للناس حركة الحياة.

ونستطيع أن نخرج من هذه النظرة بقضية فلسفية تقول: إن مجموع مواهب كل إنسان تساوي مجموع مواهب كل إنسان، فإنْ زِدْتَ عني في المال فربما أزيد عنك في الصحة، وهكذا تكون المحصّلة النهائية متساوية عند جميع الناس في مواهب الدنيا، ويكون التفاضل الحقيقي بينهم بالتقوى والعمل الصالح.

فالعاقل حين ينظر في الحياة لا ينظر إلى تميُّزه عن غيره كموهبة، بل يأخذ في اعتباره مواهب الآخرين، وأنه محتاج إليها وبذلك يندكّ غروره، ويعرف مدى حاجته لغيره. وكما أنه نابغ في مجال من المجالات، فغيره نابغ في مجال آخر؛ لأن النبوغ يأتي إذا صادف العمل الموهبة، فهؤلاء البسطاء الذين تنظر إليهم نظرة احتقار، وترى أنهم دونك يمكن أن يكونوا نابغين لو صادف عملهم الموهبة.

وقوله تعالى: { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً.. } [الإسراء: 21]

فإنْ كان التفاضل بين الناس في الدنيا قائماً على الأسباب المخلوقة لله تعالى، فإن الأمر يختلف في الآخرة؛ لأنها لا تقوم بالأسباب، بل بالمسبب سبحانه، فالمفاضلة في الآخرة على حسبها.

ولو تأملتَ حالك في الدنيا، وقارنتَه بالآخرة لوجدتَ الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً، فعمرك في الدنيا موقوت، وسينتهي إلى الموت؛ لأن عمرك في الدنيا مدة بقائك فيها، فإنْ بقيْت من بعدك فهي لغيرك، وكذلك ما فُضِّلْتَ به من نعيم الدنيا عُرْضَة للزوال، حيث تناله الأغيار التي تطرأ على الإنسان.

فالغنيّ قد يصير فيقراً، والصحيح سقيماً، كما أن نعيم الدنيا على قَدْر إمكانياتك وتفاعلك مع الأسباب، فالدنيا وما فيها من نعيم غير مُتيقّنة وغير موثوق بها.

وهَبْ أنك تنعَّمْتَ في الدنيا بأعلى درجات النعيم، فإن نعيمك هذا يُنغِّصه أمران: إما أن تفوت هذا النعيم بالموت، وإما أنْ يفوتَك هو بما تتعرّض له من أغيار الحياة.

أما الآخرة فعمرك فيها مُمتدّ لا ينتهي، والنعمة فيها دائمة لا تزول، وهي نعمة لا حدودَ لها؛ لأنها على قَدْر إمكانيات المنعِم عز وجل، في دار خلود لا يعتريها الفناء، وهي مُتيقنة موثوق بها.

فأيهما أفضل إذن؟ لذلك الحق سبحانه يدعونا إلى التفكُّر والتعقُّل: { ٱنظُرْ } أيَّ الصفقتين الرابحة، فتاجر فيها ولا ترضى بها بديلاً.

إذن: فالآخرة أعظم واكبر، ولا وجهَ للمقارنة بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة.

إذن ففي حظوظ الدنيا قد تبدو ضعيفًا لنقص مال أو جاه، أو لمرض ملازم، أو حاجة لم تتحقق لك ولكن! في حظوظ الآخرة أنت الأقوى ما امتلأ قلبك بالإيمان والرضا، فاسع لها. فإن الامتيازات في الدنيا للابتلاء، وهي في الآخرة من الجزاء.

شاهد أيضاً

طرق النجاة والفلاح ودخول الجنة!

إن بداية الطريق إلى الجنة هو أن نتذكر الغاية التي خلقنا الله تعالى لأجلها، حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون *ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*﴾ [الذاريات: 56 ـ 57]. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده، لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ومصورهم ورازقهم.